التقييم الاميركي الجديد لسياسة الوفاق وصلته بالصراع الحالي في مناطق النفوذ

صدر في ٢٠ جمادي الاولى ١٣٩٧ هجري

في النصف الاول من ايار عقد في لندن مؤتمر قمة سباعي ضم رؤساء كل من الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا الغربية واليابان وكندا.

وقد توخى المؤتمر كمايقول كارتر:

”اعطاء دفع جديد للعلاقات بين الديمقراطيات الصناعية المتمثلة في الاطراف الثلاثة في العالم الغربي الصناعي وهي الولايات المتحدة الاميركية واوروبا الغربية واليابان“.

تمهيدا لاقامة علاقات من نوع جديد مع دول العالم الشيوعي ودول ما يسمى (بالعالم الثالث).

لقد ادركت امريكا ان سياسة الوفاق مع الاتحاد السوفياتي التي تقوم على اساس الاقرار المتبادل بالنفوذ الاستعماري لكلتا الدولتين وعلى ضرورة عدم الوصول بالتنافس والمجابهة الى التهديد المباشر بنشوب الحرب النووية.

ادركت امريكا ان هذه السياسة حققت مكاسب للاتحاد السوفياتي على حساب نفوذها، فالعلاقات السوفيتية ـ الاوروبية قد تحسنت الى درجة ان الاتحاد السوفياتي قد ضغط مطالبا بابعاد امريكا عن مؤتمر الامن الاروبي (المؤتمر بين دول اروبا الشرقية والغربية) كما ان الاتحاد السوفياتي قد وسّع نفوذه في بعض دول العالم الثالث وخصوصا في افريقيا، مقابل انحسار في النفوذ الغربي.

ان الولايات المتحدة الاميركية، وان حرصت على اعلان استمرارها في اطار سياسة الوفاق، قد وضعت خطة جديدة لمواجهة السلبيات التي اصابتها من جراء التطبيق السابق لهذه السياسة، ولتعزيز نفوذها في العالم، وتقوم هذه الخطة على الاسس التالية:

  1. التعامل مع دول اوروبا الغربية تعامل الحلفاء الشركاء بدلا من سياسة التجاهل التي بلغت ذروتها اثناء ادارة كيسنجر.

    وتجسد هذا التعامل في مؤتمر لندن المذكور بالتأكيد الاميركي على الالتزام الكامل بالدفاع عن اوروبا الغربية (مقابل تلويح سابق بتقليص الوجود الاميركي في اوروبا) والاعلان بأن امريكا لن تستمر في فرض اسلحتها على حلفائها. بل انها ستشتري بدورها اسلحة اوروبية كلما سمحت الظروف. ثم بتخفيف الضغط على حلفائها في تعاملهم مع دول العالم الثالث وبرز ذلك في تخفيف كارتر من معارضته للصفقة النووية بين المانيا الغربية والبرازيل بقوله:

    ”انه وان لم يوافق على عقد الصفقة النووية الا انه لن يكون حجر عثرة في طريقها“

    (مقابل الرفض الاميركي السابق العنيف لعقد الصفقة النووية بين فرنسا والباكستان).

  2. السعي لتبديل الصورة البشعة التي ارتبطت بالاستعمار الامريكي لدى شعوب العالم الثالث. والتي تتسبب له في خلق بعض المشاكل ومحاولة الظهور الزائف بالتمسك بحقوق الانسان وان هذا المبدأ الانساني هو في صلب المنطلقات الجديدة للسياسة الخارجية الاميركية. وما المشاركة الامريكية النشطة في الاعداد لتسوية مشكلة التمييز العنصري في جنوبي افريقيا وروديسيا الا ارتداء هذا القناع المزيف امام الشعوب المضطهدة.

  3. دفع العملاء الامريكيين في دول العالم الثالث كما هو صريح في الكونغو ومنطقة البحر الاحمر للتدخل في مواجهة النفوذ الروسي المتزايد في آسيا وافريقيا تجنبا للتدخل الامريكي المباشر وما يثير من مصاعب.

  4. المناداة بتقليص كمية الاسلحة التقليدية المتداولة في العالم. واظهار الاستعداد للبدء في مباحثات مع كبريات الدول المنتجة للاسلحة وهي الاتحاد السوفياتي وفرنسا وبريطانيا لرسم سياسة مشتركة لتضييق نطاق هذه التجارة.و الاعلان بأن مبيعات الاسلحة الامريكية ستقتصر على دول شمالي الاطلسي واليابان واستراليا ونيوزلندا، مما سيحرج الاتحاد السوفياتي الذي يعتمد كثيرا في امتداده الاستراتيجي على صفقات الاسلحة، والذي لايستطيع مجاراة الولايات المتحدة لو انتقلت المنافسة بينهما الى ميدان المساعدات الاقتصادية فقط.

كما ان المناداة بتقليص كمية الاسلحة ينسجم مع القناع الجديد الذي تريد اميركا ان تواجه به الشعوب المضطهدة ونقصد به قناع الدفاع عن حقوق الانسان والمساعدة في تخفيف مظاهر العنف.

ان ما يجري حاليا على مسرح العالم الثالث يعكس الاتجاه الجديد في شكل واساليب الصراع بين النفوذين الاستعماريين الامريكي والسوفياتي.

فالكونغو ”زائير“ تشهد منذ بضعة أشهر حركة انفصالية في اقليم شابا الغني بالمعادن.

والصراع حول ”شابا“ كما صرّح موبوتو رئيس الكونغو بعفوية

”هو جزء من المخطط الرامي لاضعاف الاقتصاد الغربي بنزع مصادر خاماته“!!

والادوات المستخدمة في الصراع هي نظام موبوتو تدعمه قوات من المغرب ومصر وتمده فرنسا بالاسلحة تواجهها قوات من كوبا وانغولا بأسلحة سوفياتية وقد انتهت هذه المرحلة من الصراع كما يبدو، لصالح الجانب الغربي.

وفي منطقة البحر الاحمر يدور صراع مرير بين النفوذين الاستعماريين، بسبب الاهمية الاستراتيجية الكبرى للبحر الاحمر بوصفه طريق النفط العربي الى الغرب، والواجهة البحرية لافريقيا، والممر البحري للاسطول السوفياتي بين المحيط الهادي والخليج.

وكان دخول الاتحاد السوفياتي الى المنطقة التي ظلت تعتبر وقفا على الغرب عن طريق المساعدات العسكرية والاقتصادية للصومال واليمن الجنوبية، وقد حصل في المقابل على تسهيلات عسكرية في ميناءي بربرة الصومالي وعدن اليمني المطلين على البحر الاحمر.

وكان التطور الايجابي الاخير لمصلحة السوفيات في المنطقة هو انقلاب الوضع في الحبشة باستيلاء عميلهم هايلاماريم على دفة السلطة في شباط الماضي، وباشر الاتحاد السوفياتي بارسال الاسلحة الثقيلة الى الحبشة التي يخوض المسلمون الاريتريون فيها معركة ضارية ضد النظام الحبشي مطالبين بالاستقلال. وقد تعهدت ليبيا (القاعدة الافريقية الجديدة للسوفيت) بتقديم بعض المساعدات المادية للحبشة.

الا ان النفوذ السوفياتي يعاني من ثغرة واضحة يسعى عملاء الغرب للنفاذ منها، وهي الخلاف الحاد بين الصومال والحبشة حول مستقبل منطقة عفار وعيسى (جيبوتي) ذات الاهمية التجارية الكبرى للحبشة والتي تعتبرها الصومال جزءا طبيعيا من اراضيها , وقد حاول الاتحاد السوفياتي سدّ هذه الثغرة بطرح مشروع اتحاد كونفدرالي بين الحبشة والصومال واريتريا وجيبوتي وتعهد بدعم هذا الاتحاد، الا ان المشروع لم يبصر النور لمعارضة الصومال والثورة الاريترية له.

امام هذا التغلغل السوفياتي، تحركت امريكا دافعة بعملائها لمواجهته، فعقد في الخرطوم مؤتمر ثلاثي بين السعودية ومصر والسودان، وتوصل المجتمعون الى فكرة اعلان البحر الاحمر بحرا عربيا(!) ثم انضمت سوريا فيما بعد الى الدول الثلاثة.

وتحركت السعودية في الوقت نفسه لتحسين علاقتها باليمن الجنوبية فاعلنت عن منحها مساعدات اقتصادية هامة، واستغلت السعودية الخلاف الحبشي ـ الصومالي لتعمل على اجتذاب الصومال الى صفها، فعرضت عليه مساعدات مغرية. وقد اثمرت الجهود السعودية مبدئيا في حضور الصومال واليمن الجنوبية لمؤتمر تعز الذي عقد في ٢٢ آذار الماضي وضم السودان والصومال واليمنين الجنوبية والشمالية.

ان التجاذب بين النفوذين الاستعماريين الاميريكي والسوفياتي يستمر على اشده تاركا المنطقة في حالة توتر والضحية الدائمة هي الشعوب المغلوبة على امرها.

وفي منطقة (الشرق الاوسط) الاستراتيجية، تتكالب الايادي الاستعمارية ايضا للمزيد من اخضاعها وتركيعها. وآخر المحاولات في هذا المجال ما أعلن في ختام اجتماع غروميكو مع فانس عن الاتفاق المبدئي على عقد مؤتمر جنيف في الخريف المقبل.

ان الانظمة العربية الدائرة في الفلك استعماري قد استطاعت تمرير فكرة (التعب من كثرة الحروب) لبث الروح الانهزامية لدى ابناء الامة، بحيث اصبح الاتجاه نحو الحل السلمي لمشكلة الشرق الاوسط، في عرف الانظمة العربية، امرا مفروغا منه. ولكن تطبيق الحل بشكله وتفاصيله لا بد ان يتم على مراحل، لأن التعقيدات الموروثة لابد لها من عنصر الزمن.

ويعبر كارتر عن سياسة الترويض المرحلية بقوله:

”ان الولايات المتحدة تؤمن باعتماد خطوات متأنية لتحسين فرص التوصل الى سلام في الشرق الاوسط“

ان ما يسمى بالتسوية والسلام في الشرق الاوسط مطلب في غاية الاهمية بالنسبة لامريكا لأن عدم التسوية يفقد الانظمة العربية امام شعوبها مبرر دورانها في فلك امريكا، ويضعفها ويهددها بالسقوط أو يدفعها للاتجاه الى روسيا وبذلك تخسر امريكا علاقتها الهامة بالعرب التي تؤمن لها النفط والسوق لمبيعاتها من جهة والوقوف في وجه التغلغل الشيوعي الروسي من جهة اخرى.

اما التعنت اليهودي والتغيير الاخير في القيادة الاسرائيليه فلا يؤثر تأثيرا جوهريا على مجرى التسوية. وانما يمكن ان يسبب تكثير التعقيدات التي قد يحتاج حلها الى حرب خاطفة تخدم مجرى التسوية هذا اذا لم يستطع اليهود تفجير صراعات تضعف الدول العربية وتطيل مجرى التسوية.

ومن اكبر التعقيدات في مجرى التسوية مشكلة الشعب الفلسطيني، وقد خططت الولايات المتحدة وساعدتها اسرائيل لافتعال صدامات دامية تهدف الى تصفية قضية هذا الشعب المسلم فكانت معركة الاردن عام ١٩٧٠م والحرب الاهلية في لبنان عام ١٩٧٥م وقد اورثت الصدامات المتكررة الشعب الفلسطيني المزيد من التشريد والآلام.

وآخر الحلقات في التآمر الاستعماري على الشعب الفلسطيني وعلى المسلمين في لبنان الضغط الشديد الذي يمارسه الموارنة مخلب الاستعمار في لبنان لاخراج الفلسطينيين من مناطق السكن المارونية والعاصمة، والمنطقة البديل هي جنوبي لبنان.

والخطورة في تجميع الفلسطينيين في جنوبي لبنان تنبع من ردود الفعل الاسرائيلية المارونية المحتملة، فان اسرائيل ستستغل تجمع الفلسطينيين في الجنوب اللبناني للقيام بعمليات عسكرية وستعمل على اذكاء روح العداوة بين سكان المنطقة وبين الفلسطينيين بالترويج بأن وجود الفلسطينيين هو مصدر المعاناة لهؤلاء السكان وستحرص على احداث صدام بين الفريقين، الامر الذي يخشى ان يكون له اسوأ العواقب خاصة اذا استطاعت ان تدفع الاهالي الى تقبل فكرة التعامل معها فيكون الجنوب الميدان الاول لتطبيق سياسة الانفتاح الخطيرة بين اسرائيل والمنطقة العربية: والانفتاح مرحلة خطيرة متقدمة من مراحل ترويض الامة امام المد الصهيوني الاستعماري.

ان الجهود السياسية لحكام امتنا والعمل السياسي الموجود فيها بشكل عام يصب في مجرى النفوذ الاستعماري والصراع الاستعماري المتآمر بالرغم من الطاقات الهائلة الاقتصادية والبشرية والاستراتيجية التي نملكها.

وان الفئة الوحيدة القادرة على ايقاظ الامة على ذاتها وتوعيتها على ما يحاك ضدها من مؤامرات وقيادتها في طريق هذا الوعي هي الحركة الاسلامية والدعوة الاسلامية وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِ‌هِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ‌ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢١﴾.