النشاط السياسي لدى البابا بولس السادس
يلاحظ ان البابا الحالي صاحب نشاط كبير في السياسة العامة ولقد احدثت بعض نشاطاته السياسية ضجة ليس على الصعيد الكنسي فحسب وانما على الصعيد العالمي واكبر قضية من هذا النوع كانت غفرانه لليهود صلبهم المسيح عليه السلام وتبرئتهم من هذه الجريمة التي ثبتت في حقهم بالكتب السماوية، وبالمناسبة نقول ان القرآن الكريم وان كان ينفي كون اليهود قد صلبوه عليه السلام الا ان نفيه هذا من باب عدم قدرتهم على نول هذه الجريمة بحق رسول الله ﷺ ولذا فهو يحاسبهم عليها ويحملهم جريرتها بقوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وعلى كل حال فاننا لا نقر الدافع لتبني الفكرة القائلة بتبرئة اليهود، وفرضها بهذه الصراحة ما كان دافعا دينيا بل هذا كان دافعا سياسيا كما سنشرح ذلك.
ولما حج البابا البيت المقدس وقفت كل دولة اسرائيل بخدمته.. اجتمع بغروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي الدولة الملحدة. يطلب من حكومة فيتنام الشمالية الاتحاكم الطيارين الامريكان باعتبارهم مجرمي حرب. تبادل التمثيل الدبلوماسي بينه وبين الدول الشيوعية. ان امثال هذا النشاط البابوي لم يعهد بتاريخ الكنيسة الحديث، نعم ربما قام بعض البابوات بعملية سياسية بطلب من بعض الدول الاان تلك العمليات لاتصل حد النشاط لدى بولس السادس.
ونشاط البابا هذا كما يدعونا لان نتحدث عن الناحية السياسية فكذلك يدعونا لان نتعرض لبعض المعتقدات المسيحية.
اولا: ان فكرة فصل الدين عن الدولة فكرة شاذة عن طبيعة المجتمع البشري ذلك لان الانسان لا يمكن ان ينفصل احد جانبيه الروحي والمادي عن الآخر فاذا ما برز احد الناس في وسط مجتمعه وحصل على مرتبة من الزعامة الحقيقية فانه يقود الناس في اغلب شؤونهم ولا يمكن ان ينفصل بشكل جدي فيقال هذا زعيم روحي لا علاقة له بشؤون الناس المادية اصلا. أو هذا زعيم مادي لاعلاقة له بشؤون الناس الروحية اصلا. ومن هذا الاشتراك غير البين قد يتورط الزعيم الروحي ـ على حد زعمهم ـ بقضايا مادية وبالعكس.
ان البابا الذي يعيش بؤرة الكهنوت لم يقدر الا ان يعيش كثيرا من جوانب الحياة العادية للناس واهم من هذا فانه يفكر في القضايا الاجتماعية والسياسية الخطيرة جدا.. موضوع البابا هذا مثل رائع لدحر فكرة فصل الدين عن الحياة.
كما ان هذا الفصل بين المادية والروحانية من شأنه في الغالب ان يميت العقل العملي ـ كما يسميه المناطقة ـ لدى المتزمتين بالقضايا الروحية حتى لا يكاد الواحد منهم ان يدرك ابسط القضايا العرفية أو النشاطات المعاشة بين الناس وهذا يسهل الكيد بهم وخدعهم بالمسائل الاجتماعية والقضايا العامة.. واننا نحن المسلمين نحس بهذا بشكل بين لدى كثير من علمائنا الذين يدرسون الشريعة الاسلامية.
ان امثال هؤلاء غير الواضح لديهم الاعراف يجب ان يبصّروا بحقائق القضايا صراحة لئلا يخدعوا من قبل اعداء الاسلام. ولايجوز تركهم واغفالهم بحجة ان عقولهم متحجرة وانهم يسدلون ستراً كثيفة بينهم وبين الواقع المعاش.. فلقد وجدنا مثلا ان ضرر بعضهم كثير جدا عندما خدعهم اولادهم واحفادهم بقولهم ان الحزب الشيوعي يخدم الامة ولا يخشى منه ضرر على الاسلام، ان هذا المثل يكفي لان نتأكد من ان ترك هذه الطبقة من الناس دون اسداء الخدمات لهم ـ اية خدمات مادية أو معنوية ـ تجعلهم يسقطون وسط الخبثاء الماكرين فيسخرونهم وينتفعون منهم.
ثانيا: لا بد ان يكون لدى البابا انحراف نحو المشاعر المادية الدنيوية وابتعاد بنحوما عن المشاعر الدينية الاخروية ذلك ان الماكر المخادع لا يستطيع ان يأتي الانسان الناسك المتعبد الا عن طريق صرفه عن جادة عبادته. انه من الواضح ان الانسان التقي الورع لا يمكن ان يسخر لاغراض ينتفع منها الشيطان.. وبخصوص البابا بولس السادس فسنعرف الآن انه ليس مخدوعا وانما هو رجل سياسة كبير. اما الناحية العبادية لديه فاننا لايمكن ان نتصوره خاليا من العواطف والشهوات الشيطانية اما حياته اليومية فلا تكاد تختلف عن حياة اي زعيم اجتماعي ولكن في فترة استجمام وراحه اذ انه يعيش في اكثر مايكون الترف واقل ما يكون الاجهاد. اما الطريقة التي يتعبدبها والوقت المخصص للانقطاع الى ربه فلا يكاد يكون شيئا يذكر بالقياس للرهبان واهل الاديرة من المسيحيين على انه ينبغي ان يكون واضحا ان هذه الحياة ليست مستهجنة ولاغير طبيعية لاي بابا في العرف المسيحي. واذن فمن السهل على شخص مثل البابا ان يخدم غير الجانب الرباني في عرفهم.
ثالثا: الكنيسة احد اجهزة الغرب. قبل ثلاثة قرون كان للكنيسة سلطة الامر والنهي العليا باسم الدين ثم ترك الغرب التدين فتحطم تاج الكنيسة من القواعد وبقي رجال الدين الكنسي بلا انصار ولكن الحياة الناهضة في اوربا شملت حتى الكنيسة عند ما تنهض الامة فانها تنهض بكامل طبقاتها وهيئاتها ولا يعقل ان تبقى طبقة من الناس تعيش تخلفا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا. نعم لا بد ان تسبق الى النهوض فئة ما ويكون اول الصاعدين في سلم المجد هم اقرب الناس الى تلك الفئة الناهضة.
ربما كانت الكنيسة هي آخر الفئات التي لحقت بالركب ولكنها على اي حال لحقت واصبح لها عمل واضح معين هو عمل الدين وعمل الدين في الغرب هو من جملة الاعمال التي تكمل شخصية الانسان الغربي فالمجتمع عندهم يحتاج الى الحاكم السياسي والى رجل الاعمال الاقتصادي والى رجال الدين… ولما ظهرت الشيوعية للوجود اصبح للكنيسة عمل اكبر وتوسعت نشاطاتها وليس في هذا الامر مدعاة لاختلال الميزان الغربي ومثله العسكريون فانه عندما تقوم الحرب يصبح للعسكريين عمل اكبر وتتوسع نشاطاتهم.
وللكنيسة بصورة عامة عملها داخل المعسكر الغربي وهو رجل الدين ومعنى رجل الدين عندهم هو ذلك الانسان الذي يشبع الشعور الفطري للانسان بعلاقته بما وارء الطبيعة ويكفي في اشباع هذا الشعور تمكين المرء من ان يتصور بشكل باهت الرب ـ المسيح ـ روح القدس ـ ان هذا الشعور الديني العاطفي لاقيمة له في المفهوم الاسلامي مالم ينتقل للعقل البشري ليصبغه بصبغة العقيدة التي تقوم على البرهان. اما الانسان الغربي فانه يكتفي بان يبقى هذا الشعور عاطفيا خياليا وذلك لانه يحس بمشاعر كثيرة اخرى يجب ان يعيشها ويتذوقها فانه يريد ان يشبع في نفسه كذلك شعوره باللذة في الموسيقي والغناء كما انه مشغول جدا في اعماله الدنيوية الاخرى سواء كانت مباحة في العرف الاسلامي أو محرمة. وهو اذن لا يحس بحاجة للدين اكثر من حبه للمسيح وذهابه للكنيسة حيث يكفيه هذا السلوك من ان يكون بعد الموت مرتاحا ايضا… ان الكنيسة ترضي الانسان الغربي وتشبع رغباته هذه.
وللكنيسة عمل آخر هو خارج المجتمع الغربي وهو نشر الفكر الغربي في الديمقراطية وتمكين الغرب من السيطرة الفكرية على الشرق وهو امر واضح لدى الدعاة حيث قد اختلطت الديانة المسيحية بالنفوذ الاستعماري للدول المسيحية وخاصة الدول الكاثوليكية ولذا فان البابا يعتبر دائما مع نفوذه واجهزته الممتدة الى جميع انحاء العالم جزء من العالم الغربي الاستعماري في الفائدة والضرر حيث يتقلص هذا النفوذ اذا تقلص النفوذ الاستعماري وبالعكس وحيث ينمو النفوذ الاستعماري اذا نما النفوذ البابوي وبالعكس كذلك.
فالكنيسة اذن جهاز من الاجهزة الحاكمة في الغرب كما قلنا ولكن الفرق هو مقدرة البابا الشخصية في استخدام الامكانيات التابعة للكنيسة في خدمة الحاكم الغربي حيث يختلف البابوات في مقدرتهم هذه تماما كما يختلف الرؤساء والقادة الغربيون في المقدرة على سائر الخدمات المختلفة.
والآن لننظر نظرة فاحصة على المعسكر الغربي ثم لننظر مكان البابا بولس منه. ان المعسكر الغربي اليوم يتألف من امريكا كزعيمة لهذا المعسكر ومن دول اوربا التي تسير بنفس الخط ومن فرنسا التي تسير بنفس الخط كذلك ولكنها تريد ان تنافس زعامة امريكا أو على الاقل تريد ان تكون احدى دولتين تتزعمان المعسكر الغربي ومع ان هذا ليس سهلا وذلك لتوفر الامكانيات الهائلة لدى امريكا ولسبقها باحتلال مركز الزعامة ومع ان هذا العمل من قبل ديغول يصحبه انتقاص من نفوذ المعسكر الغربي نتيجة الارتباطات الكثيرة التي تربط فرنسا ودول اوربا بامريكا ربط الشريك الصغير بالشريك الكبير الا ان مدرسة ديغول الحديثة في فرنسا قد اختارت ذلك.
ومما لا شك فيه ان الغرب يريد ان يحافظ على سيادته غير منقوصة من الناحيتين السياسية والاقتصادية في حين ان الوضع العالمي تغير بعد الحرب العالمية الثانية تغيرا كبيرا من الناحية المالية حيث يتوجب ان تصرف الاموال الطائلة في الاكتشافات والاختبارات التي حدثت وحيث اكتشفت الموارد الطبيعية الكثيرة في مختلف اصقاع الارض وكذلك تغيرت الحالة سياسيا حيث بزرت الكتلة الاشتراكية وحيث اخذ الشعور الوطني والقومي في اكثر الاصقاع هو الذي يسود وحيث لابد من تغيير اسلوب الارتباطات الاستعمارية من اجل بقاء السيادة الغربية.
وانه لا بد ان ينمو الفهم الاستعماري الغربي دائما ليبقى في مركز القيادة ولذا فاننا نجد في كل فترة من الزمن ظهور بعض القادة الغربيين وهم يشكلون مدرسة استعمارية احدث ويمثل في هذه الفترة احدث مدرسة استعمارية تتناسب والظروف العالمية من ناحية الشرق الاشتراكي أو الشرق المتخلف يمثل هذه المدرسة في امريكا عائلة كندي وعلى راسها اليوم روبرت كندي وغوليداب وغيرهم بعض الساسة الامريكيين ويمثلها في فرنسا ديغول وان كان الآن داخل نطاق المصالح الفرنسية الخاصة كما قلنا.
ومما لا شك فيه ان البابا بولس السادس هو من اولئك الساسة الذين يعملون بعقلية سياسية متفتحة تعلم كثيرا من خفايا الامور التي لا يزال قسم كبير من ساسة الغرب لايفهمونها.
وقد نجح البابا في خططه الخاصة الرامية لتعزيز موقف الغرب ويتلخص تخطيط البابا في الامور التالية:
-
حل المشاكل بين الفرق المسيحية نفسها وازالة الخلافات لمحاولة رص المسيحين في جبهة واحدة تخلق تماسكا جديدا للمعسكر الغربي وتخلق تخلخلا داخل المعسكر الشيوعي كما تقوي الطابور الخامس في العالم غير المسيحي في آسيا وافريقيا.
-
حل الازمة التاريخية المستعصية بين اليهود والنصارى وذلك في محاولة لجعل اليهود اكثر انسجاما مع المسيحيين ومن ثم لذوبانهم في بحر المسيحية الواسع وجعلهم اكثر خدمة للنفوذ الغربي في العالم المتخلف ولو كان ذلك على حساب (النصوص المقدسة)
-
تحسين العلاقات بين الفاتيكان ودول المعسكر الشيوعي وعقد معاهدات ثنائية تسمح بمد النفوذ البابوي ببطء داخل دول المعسكر الشيوعي كما قلنا.
-
تدعيم علاقة الفاتيكان باقطار آسيا وافريقيا لتدعيم فرق التبشير بعد ان زالت الحماية عنها بزوال السلطان الاستعماري المباشر على هذه الدول.
واليك الامثلة من نشاطاته التي قام بها في هذا السبيل لتحقيق هذه الاغراض: تبرئة اليهود من دم المسيح، التدخل في حرب فيتنام دائما، التبادل الدبلوماسي مع رومانيا، التدخل في حل النزاع بين الهند وباكستان، عقد معاهدة ثنائية مع يوغوسلافيا، تبادل التمثيل الدبلوماسي مع دول (الحياد الايجابي) مثل العراق، زيارة البابا لهيئة الامم المتحدة، زيارة البابا لبيت المقدس حاجا له واجتماعه بالمطران رئيس الكنيسة الشرقية.
وبعد ما تقدم من الاشارة الى نجاحه في عملياته الواسعة هذه لا بد من الاشارة الى المكسب الكبير الذي حصله الاستعمار الغربي بفضل تخطيط البابا ونشاطه في المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي حيث يقرر ان الديانة المسيحية لاتتعارض مع الاشتراكية ويقرر كذلك ان الديانة الاسلامية تتعارض مع الاشتراكية ويقرر كذلك ان الكتل السياسية الاسلامية من اصعب الكتل واكثر تعقيدا في مقابل الاشتراكية فلذا لا بد من محاربتها حربا لاهوادة فيها ويقرر كذلك اسناد امر محاربة وتحطيم الكتل الاسلامية في الشرق الاوسط خاصة وفي الشرق عامة الى الاتحاد الاشتراكي العربي بصورة خاصة والى جميع الاحزاب الاشتراكية بصورة عامة.
ومما لا يخفى ان في هذه المقررات مكسبين عظيمين للاستعمار الغربي الاول هو محاربة النشاط الاسلامي العدو اللدود للنفوذ الاستعماري والثاني كون اسناد ذلك للاحزاب الاشتراكية بربط القضية بالغرب وتقليص لنفوذ الشرق وذلك لان الاتحاد الاشتراكي والاحزاب والمنطقة جميعها بصورة عامة واقعة تحت السيطرة الغربية.
واخيرا لا بد من الاشارة الى الخطأ الذي يقع فيه كثير من الكتاب والسياسيين الذين يلاحظون هذا النشاط البابوي الحديث فيعتبرون البابا عميلا أو جاسوسا لامريكا أو غيرها من الدول في حين انه احد الرؤوس العظيمة المدبرة والمخططة لسيطرة الاستعمار الغربي سيطرة تامة على بقية انحاء العالم ولكن لما كانت امريكا زعيمة المعسكر الغربي فلا بد اذن ان يبدو البابا في الغالب الى صف امريكا في بعض الخلافات أو في الطريقة الاستعمارية.