انتفاضة رجب

نشرت في "صوت الدعوة" العدد التاسع والعشرون محرم الحرام ١٤٠٠ هجري

ان الاحداث الكثيرة والمتلاحقة التي مرت وتمر على العراق وتعيشها الدعوة المباركة، برز فيها بشكل واضح: تأثير التيار الاسلامي المتصاعد، وبان هذا للرجل العادي فضلا عن المراقبين والخبراء.

وكان بروزه كتيار صلب لا يراهن، ولا يمكن احتواؤه لما تميز به من اصالة وصدق ايمان مصدر خوف وهلع للمستعمرين وعملائهم.

ان احداث رجب ١٣٩٩ هجري والتحرك الاسلامي الذي رافقها كان في حقيقته تحركا محدودا، لم تنزل الدعوة فيه كل طاقاتها ولم تستنفر كل امكانياتها، وهذا تابع لطبيعة المرحلة وكان عدم انزال كل قوتنا تصرفا حكيما وصحيحا جدا لان المخزون من طاقاتنا ينفعنا ليوم آخر، يوم الحسم.

الوضع السياسي قبل انتفاضة رجب ١٣٩٩ هجري:

كان للثورة الاسلامية في ايران بقيادة قائد النهضة الاسلامية الحديثة الامام الخميني اثر كبير في تأجيج الوعي الاسلامي وتعميقه لدى الجماهير المسلمة في العراق وقد شمل هذا الغليان كافة المستويات وبالخصوص شبابنا الناهض.. وعلى مرّ الاشهر الحاسمة للثورة الاسلامية كان التحسس يتفاعل والوعي ينمو، والمطالبة بالحكم الاسلامي تظهر على ألسنة الناس مؤكدة على لزوم تطبيق الشريعة الاسلامية، وتظهر استعدادها للقيام بثورة اسلامية في العراق.

وخلال هذه الفترة كانت السلطة تراقب الساحة بخوف وحذر شديدين وكانت تتسمع للهمس الذي يدور في اوساط الامة ولذا فقد اشاعت بعض التعبيرات من قبيل:

ان العراق غير ايران، وان ليس في العراق شاه ظالم!!…

لكن السلطة كانت عاجزة تماما عن اخماد هذا الحماس أو ايقاف الوعي والتحسس والهيجان الشامل، والتأييد المطلق للثورة الاسلامية، وكان رد فعل السلطة يتميز بالنقاط التالية:

  1. تظاهر السلطة بالقوة، قوة الحزب، وتماسك قيادته وقواعده، وقد رافق ذلك ازدياد الضغط على الناس للانتماء الى الحزب بالتهديد والاكراه احيانا والترغيب احيانا اخرى.

  2. اظهار قوة الدولة وموقعها بين الجماهير داخل العراق وبين الدول العربية واعطاؤها الموقع القيادي بين الدول العربية وقد بذلوا الملايين واعطوا التنازلات من اجل جمع الحكام العرب في مؤتمر بغداد، وكانت اجهزة الاعلام تضخم ذلك بشكل كبير.

  3. محاولة الوحدة مع سوريا.

  4. التهديد السافر والمقنع لمن يحاول المساس بأمن العراق كما يعبرون ـ والتأكيد على ـ انه يستلم ارضا بلا سكان، كما يقول صدام امام طلبة الجامعة، وسوف يباد اي تحرك في الحال.. الخ.

  5. التظاهر ببعض الشعارات الدينية، واعطاء بعض المكاسب الآنية كتوزيع الثلاجات والتلفزيونات على وجهاء القرى والارياف والقيام ببعض الزيارات لها، طلبا للتقرب من الشعب.

كل هذا حدث بفعل الثورة الاسلامية ونمو التيار الاسلامي في العراق، حتى ان سكان مدينة الثورة بعد ان زارهم صدام وامر بتحسين ظروفهم المعاشية قالوا: كل هذا بفعل السيد الخميني.

ولقد ازداد رد الفعل هذا بشكل عنيف ومكثف بعد نجاح الثورة الاسلامية في ايران، والحقيقة التي لا يمكن اغفالها ان من اسباب رد الفعل العنيف وهذا الخوف لدى السلطة في العراق دون غيرها من الدول هو وجود الحركة الاسلامية النشيطة وبالذات وجود الدعوة.

وفي هذه الفترة اخذ الناس يتساءلون: ماذا ستفعل الدعوة، وهل هي موجودة؟ وهل تقدر على التحرك؟ وقتها قال لي احد العلماء في بغداد: ان هذا يوم الدعوة وهي الجهة الوحيدة القادرة على الاستفادة من تأثير الثورة الاسلامية لانها حركة قديمة تملك قابليات كبيرة.

موقع الدعوة والدعاة اثناء الثورة وبعدها:

اصبح الدعاة اثناء الثورة الاسلامية وبعدها عاملا موجها للامة تفسر لها الاحداث الجارية على الساحة الاسلامية وتعطيها التحليل الناضج لها. وقد برز موقع الدعاة القيادي في التوعية واستثمار الحدث وفي الدفاع عن الثورة واهدافها ومنطلقاتها سياسيا وشرعيا.

احداث رجب وبداية الانتفاضة:

تحرك آية الله العظمى السيد الصدر حفظه الله.

لقد تحرك آية الله الصدر بعد تلكم الفترة.. وظهر تحركه في تأييده الواسع للثورة الاسلامية، ومن ثم تحريكه للحوزة العلمية واستقباله الدعاة واقباله عليهم اكثر فاكثر، وما قام به من ارسال عدد كبير من الوكلاء وأئمة الجوامع الى مختلف مناطق العراق واخيرا استقباله للوفود والخطب والكلمات التي كان يستقبل بها الوفود فقد كانت جيدة ومحركة للناس وواضعة اياهم امام مسؤولياتهم الشرعية.

لقد ارعب هذا التحرك السلطة لما شاهدته من زخم ونوعية الوفود واستعدادها للتحرك وانها رهن اشارة السيد، عندها توقعنا ان السلطة سيكون رد فعلها: حماقة تلحق بنفسها الضرر. وفعلا حدث ماتوقعناه، فقامت باعتقال السيد واخذه الى بغداد.

وكانت هذه بداية الانتفاضة اذ كان اعتقال سماحة السيد السبب المباشر لاشعال التحرك الذي كان مستترا تحت الرماد، ولكن لا بد من قول كلمة في هذا الخصوص، ان التحرك كان جيدا وناجحا في منظورنا، الا ان الاستعجال وغياب الاهداف القريبة والبعيدة جعلت بعض الناس يتردد من التحرك، فالناس لم تكن تعرف ماذا يريد السيد من هذه الوفود؟ وما هي النهاية؟ ولم توضع خطط لاحتمالات رد السلطة التي كانت تراقب بحذر شديد، ولم توضع البدائل للتظاهر أو بعد اخماد المظاهرات.. الخ.

وعلى اي حال فبعد اعتقال سماحته انتشر الخبر بسرعة مذهلة وبنفس السرعة خرجت المظاهرات وهاجت الجماهير المسلمة في كل من النجف، وبغداد (الكاظمية ـ والثورة)، وقضاء الفهود في الناصرية، والسماوة، والخالص.. وغيرها.

وقد كان الارتباك والارتجالية باديين على المظاهرات وخاصة مظاهرة النجف حيث تبدو القلة والعجلة.

ولو كان احتمال اعتقال السيد مدروسا ومخططا له قبل وقوعه لكان للمظاهرة غير هذا الواقع على نفوس الناس وعلى السلطة كذلك.

ثم توالت الاحداث وكثرت الاعتقالات وانتشرت الاشاعات المغرضة والحرب النفسية التي كانت تشنها اجهزة السلطة ويتلقفها الناس البسطاء وبعض المتدينين البسيطين في الفهم السياسي، وكانوا يحاولون تثبيط العزائم: ـ باننا لم نحصل على شيء سوى الاعتقالات والارهاب، فماذا حصلنا من هذه الاعمال الطائشة.. وليس هذا هو الدين ـ الخ.

الوضع السياسي بعد احداث رجب:

الحل الغربي:

بعد تلك المظاهرات وما اعقبها من الاعتقالات الواسعة ومداهمات البيوت واعتقال من فيها، كانت السلطة تتصرف بحقد وانفعال ظاهرين، واستنفرت كل قواها واجهزتها الغشومة، وطوقت مداخل المدن المقدسة والجوامع المهمة حيث بقيت النجف والكاظمية مطوقتين مايقرب من شهر، وكأنها تعيش في حالة حرب ليل نهار، هذا الوضع هو الذي جعل صحف الغرب ومحلليها يكتبون عن ثورة شيعية في العراق. وهذا ماظهر على لسان مندوب (ديرشبيغل) الصحيفة الالمانية، عندما اجرى حوارا صحفيا مع صدام فقال له صدام: اذهب الى كربلاء والنجف لترى الثورة الشيعية التي تكتبون عنها في الغرب وكان هذا بعد فترة من الاحداث.

هكذا تصور الغرب ان ثورة اسلامية على وشك الاندلاع في العراق فاصابهم الهلع، فهب ساسته لنجدة حكام العراق ومحاولة ايجاد الحل للمأزق الذي وقعوا فيه، وهم يعرفون حق المعرفة مدى الارهاب والظلم والتعسف الذي يمارسه حكام العراق ضد الشعب لكبح ثورته فتوقعوا لهم مصيرا كمصير الشاه.

في هذه الفترة توقعنا ان يأتي الحل الغربي، وفيه سمة من التساهل ومحاولة احتواء الازمة، وخاصة بعد ان وصل ساسة الغرب وبشكل سريع ملفت للنظر، فالالماني والبريطاني والفرنسي كلهم تعاقبوا على زيارة العراق في فترة جد قصيرة، وحتى قيل ان سبب زيارة صدام المفاجئة للاردن هو الاجتماع بكيسنجر الذي كان يزور الاردن سرا في ذلك الوقت، ولا ندري صحة الخبر.

ان الغرب اذا كان قد فقد ايران واخرج منها بحراب المسلمين، فانه لا يستطيع ان يتحمل صدمة ثانية ويخسر العراق, قلنا وقتها ان الغرب حريص على مصالحه في العراق فاما ان يضحي بالحكام وبقاء مصالحه والاتيان بجناح آخر من حزب البعث يضمن له ذلك مع اعطاء بعض الحريات الشكلية لاجتياز الازمة.

واماان يستعمل القسوة بشكل يسكت الناس ويكم الافواه بالقوة والبطش. وكان الاحتمال الاول هو الراجح والاكثر نجاحا في نظرهم.

وفعلا جاء الحل الغربي بالاحتمال الاول، فغير بعض وجوه السلطة، واعدم من عارض هذا التغيير بحجة مؤامرة مزعومة، وصدر العفو العام، وقررت زيادة الرواتب للجميع والعفو عن الاكراد. ولدينا احتمال ان قانون العفو العام قد شمل كثيرا من الشيوعيين فهل ينوي الحكام ان يستعملوا الشيوعيين لضرب المسلمين وافتعال معارك جانبية بينهم من الممكن ان يكون احد اهداف العفو العام هو هذا والله اعلم.

السلطة والحزب

اهتزت قواعد السلطة والحزب بعد انتفاضة رجب ايما اهتزاز ووصل الاهتزاز الى اعلى رجل في السلطة والحزب فاعتزل من اعتزل واعدم من اعدم، فلم تمر على الحكام صدمة كهذه طيلة فترة حكمهم والذين كانوا يتصورون انهم اقوى دولة واقوى حزب في المنطقة ولكن تبين انه حزب كارتوني.

فاكثر قواعد الحزب خارت معنوياتها وخافت على نفسها فاخذت تبحث عن معاذير للتنصل من الحزب واجتماعاته بشتى الاعذار، حتى انهم تحدثوا عن هذه الظاهرة في احدى نشراتهم الداخلية.

اما الجيش فكان رد فعله ايجابيا جدا من الاحداث وكان ينتظر الفرصة للانقضاض على البعثيين والانتقام منهم. اما الجيش الشعبي فقد حدث فيه التخلخل والتململ، وكان بعض افراده من يقول للمتدينين ممن يثقون بهم:

”انا مستعد ان اساعدكم انا وسلاحي“.

أو يقول:

”اذا طلبوا مني ان اطلق الرصاص فسوف اوجهه نحو صدورهم ”.

وكانت السلطة تفهم ذلك وتعي حراجة موقفها. فارادت ان تعيد الاوضاع الى حالها باسرع وقت خوفا من المضاعفات بحيث انها طلبت بعد عشرة ايام الكف عن الاعتقال العشوائي ومداهمة البيوت والتظاهر بالهدوء وعودة الاوضاع الى وضعها الطبيعي.

كل هذا حدث في صفوف السلطة وكل هذه الهستريا اصابتهم نتيجة هذا التحرك رغم اننا لم نخطط له, ولم نزج بكل طاقاتنا، ولكن الله تعالى هو الذي: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّ‌عْبَ ۚ يُخْرِ‌بُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُ‌وا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ‌ ﴿٢﴾.

الامة:

اما ردود الفعل عند الامة فكانت متباينة، بين متحمس ومتفائل وبين خائف يلوم من تحركوا، ويلوم سماحة السيد الصدر، وينتقد من ورطوا شباب هذه الامة وابناء الناس!!، وقد سيطر على البعض منهم الخوف فاخذوا يبعدون ابناءهم عن الجوامع، مع ان قلوبهم مع الانتفاضة.

ولكن الملفت للنظر في هذه الانتفاضة والذي يعتبر نقطة تحول هو اشتراك العنصر النسائي المثقف في هذه المظاهرات، وقد حكم على اثنتين منهن بالسجن المؤبد وقالت احداهن وهي من اهل الثورة وطالبة في معهد التكنولوجيا عندما قرأ (رئيس محكمة الثورة) قرار الحكم عليها قالت: فزت ورب الكعبة، مما اذهل هيئة المحكمة والحاضرين جميعا.

الدعاة:

مرت على الدعاة فترات محن واعتقالات كثيرة، وحالات خوف واضطراب، الاّ انها في هذه الفترة كانت قاسية جدا ورغم ذلك كان الدعاة يتحركون بمعنويات عالية جدا وكانوا مستعدين لمواصلة السير الى آخر قطرة من دمهم في سبيل الله تعالى، ولم تظهر عليهم حالات الخوف والانسحاب من الساحة كما حصل في المحن السابقة، وخلال فترة الاحداث كان الدعاة حفظهم الله يعيشون الصبر والمعنويات العالية عند الامة، مع القيام بجمع التبرعات وتوزيعها على عوائل المتضررين والمعتقلين.

نتائج انتفاضة رجب

لقد فرزت هذه الانتفاضة المظفرة عدة امور ماكانت لتحصل لو لا هذا التحرك الاسلامي في اوساطنا الراكدة، ويمكن ان نجمل هذه النتائج بما يلي:

  1. نزوع واسع نحو التنظيم والتكتل الاسلامي، وتكوين المنظمات الفدائية والانتقامية بسبب شراسة الظالمين وحقدهم واصبح طلب التنظيم والتكتل امرا ملحا لدى الجماهير.

    وكانوا يقولون: ان امورنا لا تستقيم الاّ بالتنظيم، وشمل هذا النزوع كل قطاعات الامة من العسكريين والمدنيين وحتى كبار السن.

    نحن امام هذا التحول الكبير وهذه النقلة الواسعة لا بد أن نرتفع كتنظيم حي عنده الخبرة الكافية في هذا المجال لنستطيع استيعاب كل هذه الموجة وهذا السيل من الواعين والمتحسسين.

  2. ازدياد الوعي السياسي الاسلامي، بعد هذه الانتفاضة وقبلها بفعل الثورة الاسلامية، اخذ الوعي السياسي الاسلامي ينمو بشكل مطّرد حتى ان المقولات السابقة التي تدعو الى فصل الدين عن الدولة، وبعد الاسلام عن السياسة وعدم تدخل العلماء بالسياسة، وعدم صلاحية الاسلام لادارة الدولة.. وغيرها قد اختفت أو اهتزت ولم يعد لها تأثير أو تثبيط، حتى ان مقياسا جديدا للعالم الحقيقي قد تكوّن لدى الامة وهو العالم الثائر.. العالم السياسي، العالم المجاهد.

  3. محاولة تكوين المنظمات الواجهية وجمعيات لجمع الاموال أو جمع الاسلحة والتدريب عليها، ومن الجدير بالذكر ان هذه المنظمات غير ناجحة وغير خبيرة بهذا الميدان من العمل، فربما جلبت لنفسها الضرر بدون قائد وقد تضرنا نحن فلا بد من احتوائها واستيعابها وتوجيهها وجهة صحيحة لخدمة الاسلام.