تكتيك الاستعمار الجديد

نشرت في "صوت الدعوة" العدد السادس ربيع الثاني ١٣٨٤ هجري

بعد بزوغ النهضة الصناعية في اوربا انطلق الانسان الاوربي المتسلح بنتاج النهضة الصناعية من وسائل حديثة تمكنه التغلب على الشعوب والأمم الاخرى التي لم تتمتع بما يتمتع به الغرب من معرفة علمية.. ومتسلح بنظريات عرقية تدفعه الى الاستعلاء في الارض على اعتبار انه انسان متفوق لأنه آري، والآريون هم العرق المتفوق على الاعراق والاجناس، فجميع المفكرين والمبدعين والعباقرة منهم وما عداهم مقلد وتابع.

على هذا الاساس انطلقوا في الارض ليعمروها وينشروا حضارة الرجل الابيض ومدنيته، فكان الاستعمار وكان ما كان ولا يزال. وبعد الحرب العالمية الثانية بدأ ظل الاستعمار القديم بالانكماش والتقلص نتيجة لاسباب كثيرة اههما مقاومة اهل البلاد المستعمرة له. وثانيها ظهور قوتين جديدتين تحاول بسط نفوذها في المستعمرات بشكل يختلف عن الشكل الاستعماري السائد.

وهاتان القوتان هما: روسيا التي تحاول بسط نفوذها بواسطة الاحزاب الشيوعية في العالم والولايات المتحدة التي تحتفظ بأصل النظرية الاستعمارية الاوربية ـ حضارة الرجل الابيض ـ وتفوقه وحقه في الوصاية على الأمم المتخلفة، ولكنها بعد أن رأت ان الشكل الاستعماري الاوربي يلاقي مقاومة تزداد ضراوتها مع الايام من اهل البلاد المستعمرة، استبدلته بشكل جديد يحافظ على الاصل ويأخذ بنظر الاعتبار مقاومة اهل البلاد للشكل القديم فادخلت في حسابها مطامح وآمال القادة السياسيين والمفكرين في البلاد المستعمرة التي لا تتنافى مع ما تريده.

ومن المعلوم ان بقاء البلاد المستضعفة اكثر من قرن من الزمان تحت تأثير النفوذ الاوربي المطلق قد ولّد فئة قليلة من المثقفين بالثقافة الاوربية وتمكن هؤلاء من التعبير عن احاسيسه التي يعيش فيها شعورهم، فبرزوا كقادة وسياسيين وثوريين يحاولون التخلص من البلاء الذي تعيشه بلادهم من اذلال وافقار وتسخير واضطهاد وقتل واهدار كرامات ولكن هؤلاء القادة الثوريين يعيشون في اجواء فكرية من صنع الاستعمار نفسه، فغاية الغايات لاتخرج عما رسمه الاستعمار في اذهانهم ولا يختلف القادة في هذا المجال اختلافا جذريا فمن يسمى بينهم بالثوري كلومومبا وابن بلّة وسوكارنو مثل من يسمى بالمعتدل كبورقيبة وسنجور وتانكو عبد الرحمن لأنّ كلا النوعين مثقف بنفس الثقافة ويحمل نفس وجهات النظر والخلاف بين الفئتين هو ان الثوري يحمل حقدا اعمق على بعض مظاهر الاستعمار اكثر مما يحمله المعتدل وان الثوري اكثر اخلاصا لبلده من المعتدل ولكن نتيجة الحكم من قبل الثوري والمعتدل واحدة لان سياق تفكيرهما واحد.

فالقادة الثوريون والمعتدلون يؤمنون ايمانا واقعيا بالتقسيمات الاقليمية التي خططها الاستعمار عندما غزا بلادهم.

ولا يمكن لاحد من هؤلاء القادة ان يفكر بازالة الحدود حقيقة بين هذه الدويلات لأن ايا منهم لا يملك فكرا سوى ما تلقاه من المستعمر من قداسة الوطن وقداسة الاستقلال، فلا يمكن لأحدهم فهم ان قصة الحدود الجغرافية لا قيمة ذاتية لها سوى ما يعطيها الانسان نفسه ولا يمكن لأحدهم ان يفكر بأن الانسان في هذا القطر وذاك هو انسان لا يفترق عن نظيره في الخلق، وان ما يصلح لهما واحد لأن المصالح الحقيقية والمفاسد الحقيقية لا تتغير بتغير البقعة الارضية.

واذا فكر قسم منهم في تغيير التقسيمات السياسية للبلاد فانه لايتعدى حدودا ضيقة تحافظ على الاصل وتغير بعض الشكل فتخرج من نطاق الاقليمية الى نطاق القومية.

وهؤلاء القادة يؤمنون برفع المستوى المعاشي لأفراد امتهم ويؤمنون بنشر التثقيف الحضاري الغربي، ويؤمنون بتغيير التقاليد السائدة والعادات المتعارفة الى عادات وتقاليد توافق الحضارة الغربية ومن صفات هؤلاء القادة انهم لا يدركون اهمية وجوب قيام الصناعات الثقيلة لأنها خارج نطاق حاجتهم فيما يدركون وما نراه في بعض البلاد من مظاهر صناعية فانها لاتصل بحال من الاحوال في حقيقتها الى ما يسمى بالصناعة الثقيلة وما هي بالحقيقة الامن مظاهر نشاطات التغلغل الاقتصادي الاجنبي في البلاد والا موجات من الهوس الدعائي الفارغ.

ومن صفاتهم ايضا انهم لا يطمعون في ان يصبحوا اصحاب دولة عظمى لها دور تاريخي في هذا العالم لأن وجود مثل هذه الدولة يرتبط بفكر اساسي ليس في اذهانهم شيء منه.

وحتى التفوق الآري تلك النظرية العنصرية الاوربية اثرت في تفكير المثقفين في بلادنا فنسمع منهم بعض الاحيان ان لا خير فينا واننا لن نستطيع ان نلحق بالركب الحضاري للعالم الا بعد عشرات السنين وغير ذلك من الافكار اليائسة.

وسبب ذلك ما يرونه بالفعل من تخلف مادي ومعنوي ولا يرون بالفعل ان مثل هذا الوضع ممكن التغيير ولا يرون حقائق التاريخ التي تصور الأمم في صعودها وهبوطها، ان مرتبة الطموح عند هؤلاء القادة لا يتعارض مع نظرية الاستعمار بشكلها الجديد وقد وضعت الولايات المتحدة خطط مّد نفوذها الاستعماري في آسيا وافريقيا ومن قبل في امريكا اللاتينية على هذا الاساس وان كانت تختلف في اسلوبها عمليا في افريقيا واسيا عن امريكا اللاتينية وقد تبلورت هذه النظرية في عهد الرئيس السابق جون كندي، فان الولايات المتحدة تعترف بالحدود الاقليمية ولا تعارض المطامح القومية وتحسين المستوى المعاشي للمعدمين وتريد ان تقام الاصلاحات الاجتماعية وهي تحارب التقاليد والاعراف التي لا تلائم وجهة نظرها الحياتية وتقوم باصلاحات مادية كعمليات توزيع الاراضي والتصنيع الخفيف والمتوسط.

وقد يرد سؤال الى الذهن: هو انه كيف لا تتعارض مثل هذه الاصلاحات مع الاستعمار الامريكي؟

والجواب على ذلك هو ان الاستعمار الامريكي يصارع في جبهات ثلاث: الاولى مع الاستعمار الاوربي لطرده من مستعمراته والحلول مكانه. والثانية مع الشيوعية لدحر نفوذها، والثالثة مع الحركات المناوئة لأصل وحقيقة الاستعمار من اهل البلاد.

لذا فهو يحاول ان يظهر كمنقذ للاقطار الواقعة تحت النفوذ الاوربي فيساعد الحركات المناوئة للاستعمار الاوربي الحاملة للفكر الغربي في مجالها المحلي والمجال الدولي كما يغدق المساعدات التي تمهد له الطريق للدخول الى البلاد من بابها الواسع فيساعد الحكومات الوطنية على رفع المستوى المعاشي للناس الى الحد الذي ينفي عنه صورة الاستعمار الاوربي من جهة والى الحد الذي يجذب فيه خصومة نحو الشيوعية من جهة ثانية والى الحد الذي يوسع له سوق الاستهلاك لبضائعه من جهة ثالثة اذ ان القاعدة التي وضعها الاستعمار الامريكي لتصريف بضاعته الاستهلاكية هي ان يرفع المستوى المعاشي لدخل الافراد وان ارتفاع المستوى الى حد تصريف البضائع الاستهلاكية لا يقوي نفوذ الدول الضعيفة بحيث تستطيع ان تنازع سلطان امريكا.

وعلى هذا الاساس فانه يجب ان ينتعش جميع الفلاحين مثلا من هذه الناحية ليستطيع كل فلاح ان يشتري ما تنتجه الشركات الامريكية ـ جنرال الكتريك، وستنكهاوس، فورد، شورليت ـ والفلاح المعدم لا يستطيع شراء آلة او سلعة من هذه الشركات.

ويسند الاستعمار الامريكي الحركات السياسية التي تؤمن بما يؤمن به القادة الثوريون أو المعتدلون التي يمكنها ان تجر الجماهير وراءها بشعارات براقة لتكون عقبة امام التغلغل الشيوعي وامام العمل المعادي لطبيعة الاستعمار وبذلك يظهر الاستعمار الامريكي الجديد الى الجماهير بمظهر غير استعماري لأن الشكل المألوف للاستعمار قد تغير، ومن المعتقد ان هذا الشكل الجديد من الاستعمار اذا استمر تطبيقه بحكمة فسوف يحتاج الى توعية سياسية حكيمة لأظهار زيفه كما ويحتاج الى زمن غير قصير حتى يعرف الناس حقيقته وانه لا يختلف عن الاستعمار الاوربي في شيء من استغلاله للثروات وابتزاز المواد الخام واستخدام القوى البشرية والمراكز الاستراتيجية لمصالحه وضرب الحركات المناوئة لنفوذه الجديد لكي تبقى البلاد اسواقا مقفلة الا لبضائعه وممولا دائميا لمنتجات معامله، ان النفوذ الاقتصادي الامريكي اليوم لم يكتف بغزو البلاد المتخلفة وانما يريد ان ينشر جذوره في انحاء العالم، فان كبريات الشركات الرأسمالية في اروبا مهددة الى التحول الى شركات امريكية كلا أو بعضا وبذلك تضمن امريكا لنفسها آفاقا واسعة للنفوذ في جميع البلاد المستضعفة حيث تدخلها من اي الابواب تشاء اذا انغلق الواحد انفتح الآخر.

مكافحة جميع اشكال الاستعمار: يتوقف على نمو الحركة الاسلامية وتعمق في فهم الدين وتغيير حالة الامة الفكرية تغييراً جذريا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ‌ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُ‌وا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ فلا زالت اكثرية الامة الاسلامية تنظر الى اعداء الاسلام المستعمرين نظرة التلميذ الى استاذه، وعملية توعية الامة وتقويم مفاهيمها الخاطئة تقع على عاتق المجاهدين الواعين.

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَ‌ى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَ‌سُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ