رضوان الله تعالى غاية في كل عمل يقوم به الداعية
الدعوة الاسلامية مسؤولية كبيرة على عاتق الدعاة لا تضاهيها مسؤولية فهي مسؤولية رسالية ترتبط بمصير هذه الامة ومستقبل هذا الكوكب، والداعية حينما يتحمل اعباء هذه المسؤولية يعي بوضوح ضخامة المسؤولية الرسالية التي تعهد القيام بها.
فلا تدفعه الى حمل هذه المسؤولية رغبة عابرة، أو هوى في النفس أو عاطفة زائلة، وهو يعلم ضخامة هذه المسؤولية، وما تكلفه من متاعب تبلغ به حد المحنة في كثير من الاحيان، وانما يدفعه الى ذلك كله وعي عميق بمحتوى هذه الرسالة، وواقع المشكلة الاجتماعية التي يعيشها الانسان على وجه الارض. وما لم يصدر الداعية في حياته الدعوتية وجهاده في حقل الدعوة الاسلامية عن شعور عميق بالمسؤولية وبمحتوى هذه الرسالة.. لا يتاح له ان يستمر في هذا الطريق كثيرا.. أو يتابع عمله (التغييري) بنفس الاندفاع الذي بدأ العمل به.
ولا يتأتى للداعية هذا الشعور العميق بالمسؤولية والوعي الكامل لهذه الرسالة عن طريق التثقيف الاسلامي فقط، فالثقافة الاسلامية والذهنية الاسلامية المثقفة، على مالها من أهمية في حقل الدعوة وتكوين شخصية الداعية..لا تكفي وحدها لبناء هذه الشخصية بجميع ابعادها وخصائصها وانما تتكامل هذه الشخصية التي تبني عليها الأمة آمالها بعد ذلك أو قبل ذلك بالتأكيد على الصلة الروحية التي تربط الداعية بالله تعالى، في مختلف وجوه حياته وسلوكه. ومن دون وجود هذه الصلة الروحية والايمان الوثيق بالمبدأ الأعلى لا تتكامل شخصية الداعية، ولا تتأهل للقيام باعباء هذه الرسالة وتحمل مسؤولياتها الضخمة، فالذهنية الاسلامية المشبعة بالثقافة الاسلامية وان تكن جزءاً مقوما من شخصية الداعية، وبعدا من ابعادها.. لكنها مالم تتشبع بالايمان بالله والاطمينان النفسي بالمبدأ الأعلى تظل جزءا جامدا من هذه الشخصية لا حياة ولا حركة فيها، ولا تبعث الحياة في الآخرين.
وحينما تقترن هذه الثقافة بالايمان بالله في نفس الداعية تتحول الى شعلة ملتهبة من النشاط والحركة تبعث الحياة والحركة في كل شيء، في المجتمع وفي الفرد، وفي الدعوة وفي كل شيء حتى في الكتاب والورق والقلم الذي يمسكه بيده والكلمات التي ينطق بها. وكذلك الايمان يمنح الحياة والحركة في نفس الداعية ويحوله من آلة جامدة الى شعلة ملتهبة من النشاط ومن الجهاد ويمنح فيضا من الدفع الدائم والزخم المستمر لهذه الشخصية في مجالات العمل وحقول الدعوة ومسؤولية التغيير الجذري لحياة هذه الامة وسلوكها..
ونظرة واحدة الى تاريخ الدعاة الاوائل الذين وقفوا امام خط الانحراف عند اولى منعطفات التاريخ الاسلامي تبين لنا هذه الحقيقة بوضوح وجلاء..فلم يقف الصحابي الجليل ابوذر الغفاري امام (الانحرافية) التي ابتدعها معاوية واضراب معاوية لاول مرة في تاريخ الاسلام بعتاد أو سلاح، ولاعشيرة تمنع عنه، وانما كان يقف امام هذه الموجة الهوجاء من الانحرافية، بقلب مطمئن بالله تعالى وايمان به وشعور عميق بالمسؤولية ووعي كامل لهذه الرسالة، وهذا الوعي الكامل والشعور العميق والايمان القوي في النفس هو الذي كان يمده بالقوة والحركة، ويبعث في نفسه وفي المجتمع ثورة على الظلم والانحراف دون ان يخشى مغبة ذلك كله، أو يخاف عدوان سلطان معاوية وهو يومذاك الحاكم المطلق على أموال المسلمين ونفوسهم في الشام.
ولم يقف زيد بن علي عليهما السلام امام سلطان الخليفة الاموي الجائر ذلك الموقف الصلب الذي سجله له التاريخ، ولم يشهر في وجهه السيف، ويخض معه غمار معركة حامية الوطيس.. بغير هذه النفس المطمئنة بالله المؤمنة به.
وقبل هذا وذاك لم يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجه الجاهلية ولا يحيطه غير نفر يسير من أصحابه، بغير هذا الاطمئنان وهذه الثقة العميقة بالله، الذي كان يعصمه من قريش ومن مكر قريش.
ويقف النبي ﷺ باصحابه وهم نفر قليل، وليس معهم من عتاد الحرب مايوازن عتاد العدو لدى جيش المشركين من قريش واحلاف قريش، وقد ملأوا الميدان خيلا ورجالا فيتوجه الى الله ويستقبل القبلة ويمد يده ضارعا الى الله ويقول في لهجة مؤمنة خاشعة:
”اللهم انجزلي ماوعدتني، اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض“
وما يزال يهتف ربه مادّا يديه حتى يسقط رداؤه..
ولا نعني نحن من الايمان هذه العقيدة الالهية التي يؤمن بها المسلمون فحسب، يسوقون له من الادلة ما لا يبقي مجالا للتشكيك.. وانما نعني به هذا الاطمئنان النفسي، والشعور النفسي العميق بالله الذي يصدر عنه المؤمنون في جميع أعمالهم وحركاتهم والتي تعبر عنه الآية الكريمة بهذه اللهجة الرقيقة المؤمنة التي تشف عن ايمان بالله عميق. قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٢﴾ وما لم يبلغ الداعية من الايمان بالله هذه المرتبة التي يخلص فيها لله في كل جانب من جوانب سلوكه ويتشبع بها، لا تتماسك شخصيته كداعية، ولا تكمل ابعاد شخصيته، وتلك حقيقة نحب أن نؤكد عليها للدعاة.. فليس هناك عنصر اهم في بناء كيان شخصية الداعية من العنصر الروحي ولايتأتى للداعية هذا الايمان المعمق الذي تقوم عليه شخصيته الدعوتية بعقد القلب والاستقرار النفسي فحسب.. وانما هو شيء اكثر من ذلك لايتأتى للداعية الا بعد تشبع نفسي كامل واتصال روحي مستمر بالله تعالى.. حتى ان تمتلىء نفس الداعية بالاخلاص والايمان، ولايجد من نفسه مجالا لنفوذ الهوى وسلطان الطاغوت وحتى ان يأخذ هذا الايمان عليه آفاق نفسه وبصيرته فلا يرى شيئا الا ويرى الله قبله وبعده ومعه.
والاتصال الروحي والذكر الدائم واستشعار النفس معنى العبودية لله والتفكير المستمر في خلق السموات والارض وجلال الخالق وجبروته هو الذي يحقق للنفس هذا التشبع الروحي والايمان المعمق الذي كنا نتحدث عنه الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿١٩١﴾ والتوجه الدائم الى الله والانصراف بالنفس اليه تعالى عن كل أحد وكل شيء وتسبيحه ودعاؤه لكل حاجة مما يعرض للانسان.. يكفي لأن يغلق منافذ النفس على غير المبدأ الاعلى تبارك وتعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿١٩٢﴾ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴿١٩٣﴾ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿١٩٤﴾ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ
وليس امرا يسيرا في مثل هذه الاجواء الاجتماعية المتشبعة بالمادة والتي يعيشها الدعاة اليوم ان يخلص الداعية نفسه لله وان ينتزع نفسه من هذا المحيط وما يكتنفه من عوامل مادية…ليخلص لله، وليصرف نفسه عن كل شيء الى الله، ولكن ذلك لا يعني ان هذا الانصراف الروحي الى الله والاخلاص والتوجه النفسي الكامل سوف يكلف الانسان كثيرا من المعاناة النفسية، فان مايجده المؤمنون من لذة الانصراف الى الله والاخلاص له في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة والتوجه والذكر الدائم لا يجده الانسان في اي شيء آخر من متع الحياة ولذاتها.
النشوة التي تجدها الروح ساعات العبادة والتسبيح والتفرغ لله، والانصراف اليه، حينما يأوي الناس الى النوم وحينما تهدأ الاصوات، ويخفت صخب الناس في مسالك الحياة..لا توازيها نشوة، وليس ألذ الى النفس ولا أحب اليها من أن يقوم الانسان ساعة يركن الناس فيها الى النوم ويسدل الليل ستره، فيقف امام الله ليسبحه ويذكره وليتضرع اليه ويستغفره.
والدعوة الاسلامية اذ تضع على عاتقها مسؤولية تغيير المجتمع وتقرير مصير الامة ومستقبلها لايتم لها ذلك مالم يطبع أعمالها ونشاطها طابع من الاخلاص والانصراف الروحي الى الله واذا كان هذا الانصراف شيئا كماليا في نظر كثير من الناس فهو جزء مقوم للدعوة بالنسبة للداعية ولايتاح له ان يقوم بمهمته التغييرية في المجتمع ولايتم له تحقيق شيء من أهداف الدعوة وأغراضها على المدى البعيد مالم يجعل رضوان الله تعالى غايته في كل عمل يقوم به، ومالم يخلص نفسه مما يعلق بها من الرواسب والشهوات التي تعيقه عن هذه الغاية.