اسلوبنا في العمل
تحدثنا عن المفاهيم الخاطئة التي تعيش في ذهنية الجماهير المسلمة الساذجة حول الدعوة الى الاسلام، وتحدثنا عن القلق الذي تشعر به هذه الفئات من جراء التفكير بان الدعوة تتخذ الحزبية والتكتل والتنظيم طريقا الى بلوغ اهدافها وسبيلا في الوصول الى غاياتها فماذا سيكون موقف الداعية من هؤلاء؟
هل يحاول الوقوف امام هذه الفئات بشدة يعرض وجهة نظره؟
أو ينسحب عن الموقف متخذا الصمت والسكوت؟
نحن نرى ان كلا الموقفين لا ينسجمان وطبيعة الروح التي يجب ان يتحلى بها الداعية، وان الموقف الثاني يمثل الانهزامية والتخلي عن مهمة التبليغ وبالآخرة فسح المجال امام الآخرين لتوجيه تهمة الضعف والسطحية الفكرية الى الدعوة والدعاة.
اما الموقف الاول فيمثل القوة الفكرية والنفسية ولكن لا يستطيع ان يعطينا شيئا لانه يبعدنا عن جو التفاهم والوصول الى نتيجة سليمة وناجحة، فقد يثير لدى الآخرين تعصبهم لمفاهيمهم وتمسكهم بها وتفضيل العناد وتأكيد الذات لتسيطر على الموقف وبذلك نكون قد ابتعدنا عن مهمة الدعوة في هذه المرحلة ـ مرحلة البناء الداخلي ـ لننطلق بعد ذلك على اساس متين وقوة كافية…فما العمل اذا؟
قبل ان نبدأ الجواب على التساؤل يجدر بنا ان نتعرف على الواقع الذي عاشته هذه الجماهير وساعد في نشوء مثل هذه المفاهيم لديها.
من المعروف لدينا ان هذه الجماهير التي تختلف كل الاختلاف في ذهنيتها وعقليتها قد عاشت في حياتها الوانا من الحركات الحزبية والدعوات المنظمة المختلفة بأساليبها وافكارها واجوائها، ولاشك ان هذه الحركات والدعوات قد مرت بأدوار مختلفة ووقعت بأخطاء كثيرة وانحرفت عن الخطوط المستقيمة التي ينبغي أن تسير عليها من التكتل والتنظيم فخلفت من وراء ذلك عقدة نفسية لدى عامة الناس من كل مايرتبط بالتحزب والاحزاب، ومن اجل ذلك لانستطيع الا ان نجد لهم بعض العذر فيما يعتقدون وما يظنون، لأن اكثر الناس يبنون نظرياتهم ومفاهيمهم على أساس الواقع الخارجي المحسوس يعايشونه ويشاهدونه فيقيسوا عليه أمثاله.
لذلك كانت مهمة الداعية صعبة امام هؤلاء، ويبدو لنا ان عليه قبل كل شيء البدء في محاولة تنقية ذهنيتهم من مثل هذه المفاهيم باثارة الشك فيها وذلك كأن يجعله وجها لوجه امام مسؤوليته فيحاول اثارة الواقع اللااسلامي امامه بكل مشاكله وادوائه ثم يبدأ في دفعه الى التفكير في الطريقة التي نستطيع بها تغيير هذا الواقع باطلاعه على الاخطاء التي تنشأ من الاساليب المألوفة وعدم جدواها أمام الاساليب المتقنة المدروسة التي تتخذها التيارات الفكرية المعادية للاسلام في كسب الآخرين وربحهم للقضية التي تكافح دونها وافهامه بأن الاساليب العادية المألوفة قد تنجح في خلق الجو الاسلامي ولكنها لاتستطيع ان تحافظ عليه وتبعث فيه روح الاستمرار واذا وصل الى هذه المرحلة فان عليه أن يثير تساؤلهم عن الطريقة المفضلة دون أن يعطيهم جوابا سريعا عن ذلك.
ونحسب ان باستطاعته بعد ذلك ان يضع يديه على ضرورة التكتل والتنظيم في سبيل انتصار الدعوة ووصولها الى غايتها وهدفها المنشود ويجب ان نشير الى اننا لانفرض هذا الاسلوب حتميا في معالجة مثل هذه المفاهيم وانما نقدمه كنموذج من النماذج التي نعتقد صلاحيتها وجدواها وانسجامها مع الخط الذي رسمه لنا القرآن الكريم في اسلوب الدعوة ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ.
اما فكرة الخلود الى الهدوء والسكينة انتظاراً لظهور الحجة المنتظر عليه السلام فنحسب انها لا ترتكز على اساس شرعي أو واقعي.. لاننا لو بحثنا عن المنطلق لهذه الفكرة نجد أن هؤلاء الناس يعتقدون بأن الله لم يقدر قيام حكم اسلامي مسيطر الا في تلك الفترة، وبهذا يكون السعي وراء بعث الكيان الاسلامي من جديد والدعوة اليه عبثاً لا طائل تحته بل ربما ينتج هذا العبث نتيجة سيئة بما تنطوي عليه هذه الخطوة من تعريض للمسلمين الآمنين للخطر والقاء النفس في التهلكة.
تلك فيما يبدو لنا القاعدة التي ترتكز عليها هذه الفكرة وذلك هو المنطلق الذي تنطلق منه، واذا اردنا ان نقف وقفة قصيرة امام هذه القاعدة قد نستطيع ان نقول لهؤلاء الناس ان هذه القاعدة التي بنيتم عليها هذه الفكرة غير متينة ويتضح لنا ذلك عند سؤالهم عن المستند الذي استندوا اليه في تقريرها فأن حاولوا الاتكاء على ما يظهر من بعض الاحاديث التي تبشر بقيام الحجة عليه السلام وظهوره وتبين مدى السلطات التي يحصل عليها الاسلام في ظل حكمه.. فتلك لاتنهض دليلا على ذلك لانها لا تمت لحكم اسلامي صحيح في غير ذلك الوقت أي ان هذه الاحاديث تخص وقتا معينا بالذات على ان بعض الاحاديث ـ ان صحت ـ التي امرت بالخلود الى السكينة كانت تعالج وضعا آنيا يخضع لظروف ذلك العصر ومؤثراته التي لم تكن تسمح بقيام حركة ناجحة ضد الوضع القائم انذاك.
الا اننا نتمكن أن نعتبر الوضع الذي كان يسير عليه الائمة عليهم السلام ويوجهون أصحابهم اليه كان اقرب الى التكتل والتنظيم الذي يعيش في اطار سري كما ان بأمكاننا القول انهم كانوا بصدد تهيئة الجو الروحي والاجتماعي للانطلاق نحو حكم اسلامي ولكن الظروف لم تقدر لتلك المحاولة ان تنجح فبقيت تعيش في مرحلة تثقيفية مستهدفة حفظ التشريعات الاسلامية الاصيلة من التشوية والتحريف، واضافة الى ذلك نستطيع ان نفهم من مبدأ التقية الذي نادى به الائمة عليهم السلام كثيرا انه كان اسلوبا من اساليب العمل السري المنظم الذي يحاول ان يثير الضباب حول عمل الدعاة في الظروف التي لا تقتضي مصلحة الاسلام ظهورهم وانكشاف امرهم.
وهكذا نرى انه ليس لدينا مايمنع من السعي نحو حكم اسلامي نزيه على اساس فكرة المهدي المنتظر عليه السلام ربما نزيد على ذلك ان تلك الفكرة تبعث فينا مزيدا من النشاط والهمة نحو العمل لانها تعطينا الفكرة التي تبشر بأمكانية قيام الحكم الاسلامي العادل وتخلق فينا روح السعي نحو تعبئة الجو لهذا الحكم، نعم على الدعوة ان تظل سائرة على الموازين الشرعية والتعاليم الاسلامية التي تحدد نهج العمل واسلوبه وظروفه والا فأنها تفقد معناها وتنحرف عن وجهتها الصحيحة.
اما المفهوم الثابت الذي يرتكز عليه اليأس من جدوى العمل نظرا للقوة الهائلة التي يمتلكها اعداء الاسلام فلا نحتاج لمناقشته ورده الا الى لفت النظر الى ما يحدث في العالم والى لفت النظر نحو الحركات البسيطة التي تعيش في واقعنا المعاصر الذي نعايشه وكيف تمكنت من فرض سيطرتها بعد توفر العمل والجهد المتواصل على من كان يظن انه قوي لايغلب بهذه السهولة امثال الفرنسيين في الجزائر وفاروق في مصر ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم في العراق، وحكم الائمة في اليمن وغيرهم على ان التجربة الاسلامية الاولى التي انطلقت في عالم يحارب مفاهيمها ويعيش في نطاق غير النطاق الذي تعيش فيه ويسعى نحو اهداف لاتتفق مع اهدافها كما انها في الوقت نفسه لا تملك رصيداً بشرياً لترتكز عليه ومع ذلك فقد تقدمت ووقفت على قدميها ثم سارت لتفتح ارواح العالم وافكاره على النور الذي انطلق منها وغمر كل شيء والحضارة التي اندفعت من قاعدتها وانتشرت في كل مكان، وقد يقول قائل ان هذا الانتصار يرجع الى اسباب ربانية غير طبيعية، ونحن نقول له ان الدعوة الاسلامية وان كانت مؤيدة من الله سبحانه وتعالى الا انها لم تنجح ولم تنتصر باسباب خارجة عن الطبيعة وانما انتصرت بالطرق الطبيعية المألوفة، ومن هنا استشهد من استشهد واضطهد من اضطهد، ومن هنا عاش النبي ﷺ في عمل متواصل من الكفاح والنضال وبأمكاننا ان نعيد هذا التاريخ وان نجسد هذا الواقع من جديد.. اذا سرنا على اسلوب الاسلام الخير وعشنا كفاحه وجهاده بصبر وايمان.