اسس اسلامية

بقلم المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه ١٩٥٨م

الاساس رقم (١٠)

المقياس في السياسة الخارجية للدولة

الاحكام الدستورية مقياس ثابت في سياسة الدولة، الداخلية منها والخارجية، ويضاف الى الاحكام الدستورية المصلحة الاسلامية التي تعني مصلحة الاسلام والمسلمين، وتقوم الدولة على ضوء هذين المقياسين بوضع اللوائح التنظيمية في المجال الداخلي والخارجي اما في المجال الداخلي فتبين ذلك تفصيلات لسنا بصددها واما في السياسة الخارجية فان الدولة تراعي في جميع العلاقات والمعاهدات والاتفاقات مع الدول الاخرى بالاضافة الى انسجامها مع احكام الدستور ان تكون متفقة مع هذه المصلحة.

والمصلحة الاسلامية عبارة عن الوضع الافضل للاسلام باعتباره دعوة ومبدأ وقاعدة للدولة والوضع الافضل للمسلمين بوصفهم امة لها جانبها الرسالي وجانبها المادي، فكل ما كان يساعد على ايجاد الوضع الافضل للاسلام والمسلمين على هذا النحو فهو مصلحة اسلامية.

والمصلحة الاسلامية تارة تكون منصوصة من الشرع المقدس كمصلحة عدم اتخاذ الكافرين اولياء من دون المسلمين كما في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُ‌وا يَرُ‌دُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِ‌ينَ ﴿١٤٩﴾ بَلِ اللَّـهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ‌ النَّاصِرِ‌ينَ ﴿١٥٠﴾ وقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِ‌ينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِ‌يدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّـهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿١٤٤﴾ وآيات ونصوص شرعية اخرى. فتكون هذه المصلحة المنصوصة من احكام الدستور فلا يجوز الاجتهاد فيها بل يلزم تطبيقها كما جاءت في النص.

وأخرى لاتكون المصلحة الاسلامية منصوصة فيوكل أمر الاجتهاد فيها الى المجلس القانوني في الدولة أو الى الجهاز الحاكم على شرط ان لاتتنافى نتيجة الاجتهاد مع النصوص العامة للشرع ”الدستور“.

اما موقف الدولة من المعاهدات والاتفاقات المعقودة بين حكومات بلاد المسلمين والحكومات الاخرى فهو أنه يجب أن تخضع من جديد للمقياس العام المتكون من الاحكام الدستورية والمصلحة الاسلامية وتقوم الدولة الاسلامية بالغاء مايتنا فى منها مع ذلك بقدر الامكان باعتبار ان الحكومات التي أبرمت تلك المعاهدات والاتفاقيات حكومات غير شرعية فتكون الاتفاقات غير مشروعة الاّ باقرار الحكومة الاسلامية في ضوء المقياس الاسلامي.

اما حكم المعاهدات والاتفاقات التي تبرمها الدولة الاسلامية أو تقرها باختيارها فهو انها معاهدات نافذة يجب الوفاء بها ولايجوز للدولة الغاؤها قبل مدتها المقررة وان اصبحت تتنافى مع المصلحة الاسلامية شيئا ماولذلك وفى النبي صلى الله عليه وآله بتعهده لقريش بعدم الغزو بعد صلح الحديبية مع أن الاسلام اصبح بعد الصلح بقليل قادرا على احتلال مكة بل استمر وفاؤه صلى الله عليه وآله مع اخلال قريش بالمعاهدة عدة مرات حتى تكرر منها النكث واتضح.

وما ينبغي الالتفات اليه أن المصلحة الاسلامية التي تعني الوضع الافضل للاسلام والمسلمين قد تختلف من بلد وظرف الى ظرف، فقد تكون مثلا سرية الدعوة الاسلامية في بعض البلاد الكافرة هي الوضع الافضل للاسلام بوصفه دعوة تتبناها الدولة الاسلامية وتحملها الى ارجاء الارض، فتقرر الدولة سرية الدعوة في ذلك البلد وفقا للمصلحة الاسلامية وتدخلها في حساب علاقاتها واتفاقياتها معه. وقد يكون تأجيل تطبيق الاسلام وتسلمه للسيادة في بلد اسلامي هو الوضع الافضل للاسلام بوصفه مبدأ كما اذا منحت فرصة لتسلم الاسلام السيادة ولكن في ظرف معقد من الناحية السياسية العامة ينذر بسرعة تقويض الكيان الاسلامي اذا اقيم في ذلك الظرف وانتكاس الحركة الاسلامية ففي مثل هذه الحالة يكون تأجيل تسلم السيادة في ذلك البلد الى الظرف المناسب هو الوجه الافضل للاسلام بوصفه مبدأ.

وقد يكون عدم توقيع معاهدة بين الدولة الاسلامية ودولة اخرى هو الوضع الافضل للاسلام بوصفه قاعدة للدولة لما يخشى ان تؤدي اليه المعاهدة من نفوذ الدولة الاخرى في جهاز الدولة الاسلامية الامر الذي يشكل خطرا على قاعدتها الاسلامية.

وقد يكون عقد اتفاق اقتصادي معين مع دولة معينة أو دول هو الافضل للمسلمين من الناحية الاقتصادية فيصبح مصلحة اسلامية.

وبشكل عام فان الدولة تقوم بدراسة المصلحة الاسلامية وتراعيها في علاقاتها الخارجية لأنها المسؤولة عن رعاية الاسلام والمسلمين.

الاساس رقم (١١)

موقف الدعوة والدولة من النفوذ الكافر

نعتبر الدولة الغازية لوطن المسلمين بجميع صورها وطرق استعمارها ونفوذها دولة محاربة للاسلام، ويجاهد أنصار الاسلام قبل اقامة الدولة الاسلامية الى جنب الحكومات القائمة في بلاد المسلمين لتقويض دعائم الكافر المستعمر ونفوذه كما يجاهدون لعين الهدف في ظل الدولة الاسلامية عند قيامها وبعده، والحكومات القائمة في بلاد المسلمين وان كانت تتبنى احكام الكفر ايضا وتتعارض بذلك مع الهدف الاول للدعاة وهو ازاحة احكام الكفر وتطبيق احكام الاسلام الا انها من الممكن أن تلتقي مع الدعاة في الهدف الثاني وهو ازاحة سيطرة الكافرو في ظروف الالتقاء هذه يجاهد الدعاة الى جنبها مراعين في مدى تعاونهم مع تلك الحكومات في هذا السبيل طابعهم الاسلامي الخاص ومصلحتهم بوصفهم منضمين لدعوة اسلامية مخلصة.

أما عند قيام الدولة الاسلامية وبعده فان المقياس العام في سياسة الدولة الخارجية يقضي بمقاطعة الدولة الكافرة الغازية لبلاد المسلمين ويراعى في هذه المقاطعات امكانيات الدولة الاسلامية وظروفها ويمكن ان يتم ذلك بطريق خطة تدريجية تضعها الدولة لتحقيق ذلك كما ان مسؤولية الدولة في الجهاد لرفع النفوذ الكافر لاتقف عند الوطن الاسلامي الذي يسكنه المسلمون فعلا، بل يشمل الارض التي فتحها المسلمون وكانت عامرة عند الفتح ثم انتزعها الكافر مرة اخرى من يدهم، فانها تعتبر ارضا مغصوبة ووطنا اسلاميا سليباً ولو لم يبق على ظهرها مسلم واحد ومن حق الامة المالكة استرجاعها وان لم يجر عليها فعلا احكام دار الاسلام المقررة في الفقه كما هو الحال في الاندلس وفلسطين واجزاء اخرى من أراضي المسلمين.

الاساس رقم (١٢)

دعوتنا الى الاسلام دعوة تغييرية

الدعوة الاصلاحية هي الدعوة التي تستهدف اصلاح جانب معين من جوانب الواقع القائم متغاضية في حقل نشاطها العملي عن سائر جوانبه الاخرى وعن الركائز الاساسية التي يبنى عليها الواقع بصورة عامة، اي انها تسعى الى انشاء البنيات الفوقية التي تأتلف منها شخصية الامة دون أن تنفذ الى البنيات والجذور الرئيسية في شخصيتها.

والدعوة التغييرية هي: الدعوة التي لاتدين بالواقع الذي تعيش فيه الامة من اساسه لانه يناقض مبدأها جملة وتفصيلا فتبني عملها على تغييره تغييرا جذريا، وذلك بحمل رسالة فكرية تبشر بها لانشاء شخصية الامة انشاء جديدا بكل بنياتها الاساسية والفوقية وانشاء الحياة على قواعد تلك الرسالة وركائزها المحددة سواءا في النظرة الفلسفية نحو الكون والحياة أو المقياس العملي العام للحياة أو في طريقة التفكير التي يتكون بها الكيان الاجتماعي للأمة.

ولدى السؤال ماذا يجب أن تكون دعوتنا الى الاسلام، اصلاحية أم تغييرية؟ علينا ان ننظر الى الظروف التي يعيشها الاسلام ومدى وجوده في واقع الامة، فان هذه الظروف هي التي تحدد نوع الدعوة الى الاسلام.

فاذا كان الاسلام هو القاعدة الرئيسية التي يبتني عليها نظام الحياة وكيان الامة وكانت العقيدة الاسلامية هي القاعدة الفكرية والدستورية للدولة والمنهج العام لمختلف الوان النشاط الفردي والاجتماعي والسياسي كان للدعوة ان تتخذ طريق الاصلاح للحفاظ على القاعدة الاسلامية للدولة واصلاح الجوانب التي لاتنسجم مع هذه القاعدة.

اما اذا فقد الاسلام مركزه من القاعدة الاساسية واستبدل بغيره من القواعد الفكرية أو استبدل باللاقاعدة فان الدعوة الى الاسلام يجب ان تكون دعوة لاعادة الاسلام الى مركزه من الدولة ومن الامة في عملية تغيير شاملة لكل الواقع اللااسلامي.

ومن الواضح ان الظروف التي يعيشها الاسلام منذ نهاية الحرب الاولى هي الظروف الثانية اذ قوّض المستعمرون الدولة الاسلامية ودخلوا بلاد المسلمين وتقاسموها وقاموا بعملية انقلاب شامل في حياة الامة واقصوا العقيدة الاسلامية عن وضعها الرئيسي في كيان الامة السياسي والاجتماعي ووضعوا الامة في أطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها من الديمقراطية الرأسمالية والاشتراكية وما اليها من الأطر اللااسلامية.

لذلك فان واجب الدعوة في ظروف الاسلام الحاضرة ان تكون دعوة تغييرية ـ انقلابية تهدف استبدال القواعد اللااسلامية التي اقيم عليها الحكم والحياة الاجتماعية للامة بالقاعدة الفكرية للاسلام ونظامه الاجتماعي للحياة.

ومما ينبغي الالتفات اليه أن ظروف الاسلام حيث توجب علينا انتهاج الطريق التغييري الجذري في العمل فان ذلك لايعني اننا نقف من الدعوات والمشاريع الاصلاحية موقف الرفض والعداء وذلك لان الاسلام يوجب علينا تطبيق ما أمكن من احكامه في أي جانب من حياة الامة وان لم يمكن تطبيق احكامه في الجوانب الاخرى، ومادام العمل الاصلاحي تطبيقا للاسلام في اي مساحة من حياة المجتمع فهو عمل اسلامي صحيح كما لايعني ذلك اننا لانقوم بالاعمال الاصلاحية وذلك لان التغيير الكلي يتوقف على تغييرات جزئية متعددة.

منهجنا في الدعوة اذن هو تأييد وتوجيه المشاريع والدعوات الاصلاحية والقيام بالعديد من الخطوات والمشاريع الاصلاحية التي تقع في طريق التغيير أو تؤثر فيه من قريب أو بعيد.

نعم لا بد لدعوتنا التي تهدف التغيير الكلي في المجتمع أن تقارن بين مجالات العمل وتجنّد الطاقات لما هو اكثر فائدة للاسلام وتأثيرا في عملية التغيير الشاملة.

الاساس رقم (١٣)

من اين يبدأ التيار التغييري في الامة

من أين تبدأ الدعوة الاسلامية باحداث مدها للتغيير الجذري الشامل في حياة الامة؟ وما هي العملية الاساسية في هذا المد؟

يجيب السطحيون في تفكيرهم على هذا السؤال بأن العامل الرئيسي في الانقلاب الاسلامي هو عملية الاستيلاء على الحكم، ويتراءى لهم أن تسلم السلطة هو العملية الانقلابية الكبرى التي يتم بها كل شيء. وقد غفل هؤلاء عن ان لكل مجتمع قاعدة وأن القاعدة هي الامة فاذا كانت الامة هي الامة لم تتغير في محتواها الداخلي فان تغيير الحكم لايعني حدوث الانقلاب الاساسي الشامل في المحتوى الفكري والروحي للأمة، وانما يعني ـ اذا امكن الاحتفاظ به ـ فقط حصول الأداة القوية التي يجب أن يبدأ الانقلاب والتطوير من عندها وبها.

ويجيب الماديون على هذا السؤال بان العامل الرئيسي في الانقلاب الشامل في الامة هو الظروف المادية الخارجية حيث يزعمون أن تحول وسيلة الانتاج من شكل الى شكل هو الحدث الانقلابي الكبير الذي يخلق المجتمع من جديد، وقد غفل هؤلاء عن أن الانسان هو الذي يصنع الظروف المادية وليست الظروف هي التي تخلق الانسان وتكيفه كما تشاء.

أما الاسلام فيجيب على هذا السؤال جوابا واضحا محددا مرتكزا على نظرته العامة عن التاريخ الانساني والمجتمع التي أوضحها الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ‌ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُ‌وا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ فان هذه الآية الكريمة تشير الى ان التغيير الاجتماعي للبشرية انما يتحقق عن طريق تغييرما بالنفوس البشرية، اي بتغيير المحتوى الداخلي للانسان من افكار ومشاعر.

فالكيان الفكري والروحي للانسانية هو العامل الرئيسي في البناء والتجديد في تاريخ المجتمعات.. وهذا بالضبط سر الانقلاب الكبير الذي أحدثه الاسلام في الامة التي لم يكن لها نصيب من السياسة ولا وجود في المجال الدولي ولم تكن تعرف للحياة معنى غير التفاخر والتغالب حتى انها كانت لتضيق بفكرة الوحدة القومية لشدة تحكم الروح القبلية في نفوسها، واذا بهذه الامة بالذات تصبح سيدة أمم الارض ومالكة الزمام في الموقف الدولي والمبشرة المثالية برسالة عالمية لا تعترف بالحدود القومية فضلا عن الحدود القبلية. وقد تم كل هذا الانقلاب في فترة قصيرة لم يتغير فيها شيء من الظروف المادية ولم يكن سببه الا احداث التغيير في المحتوى الداخلي الفكري والشعوري للأمة وهذا التغيير هو الذي يعبر عنه الله تعالى بالتزكية والتعليم في قوله لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَ‌سُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿١٦٤﴾