الوضع السياسي في لبنان
الدولة الفكرية العالمية
اقام الرسول ﷺ دولة الاسلام في المدينة ووسعها حتى احتوت الجزيرة العربية، وخط الدرب للدولة الفكرية العالمية التي تدين بدين وضعه الله للانسان بعيدا عن عبودية الانسان للانسان، وبعيدا عن تمزق الجماعات الانسانية بعوامل العرق والنسب والجغرافيا والاقتصاد..وغير ذلك مما يفرق بين بني الانسان.
وفي الحديث الشريف:
”ان العربية ليست بأب وجد، وانما هي لسان ناطق فمن تكلم به فهو عربي. ألا انكم ولد آدم وآدم من تراب، والله لعبد حبشي أطاع الله خير من سيد قرشي عصى الله وان اكرمكم عند الله أتقاكم“.
واندفع المسلمون لانقاذ العالم واخضاعه للحكم الصالح واخراجه من الظلمات الى النور، وبفضل الرسالة الاسلامية تحقق لهم ماأرادوا فسادوا العالم بضعة قرون في سلطة واحدة مركزية مقابل دويلات الشرك والكفر.
ولكن نقاء الاسلام كان يشوبه سوء التطبيق من الحكام وبعض التحريف، ولذلك قامت داخل الدولة الاسلامية قيادات فكرية مخلصة أبت الخضوع للأهواء الشخصية للحكام، وظهرت بأشكال مختلفة يجمعها جامع الوقوف ضد اساءة تطبيق الاسلام، أو تحريفه، أو عدم الالتزام به من قبل الحكام.
تعدد الدول والانحطاط في جسم العالم الاسلامي
ثم بعد أن ضعفت القيادة المركزية بفعل سوء التطبيق والتحريف وبفعل الانقسامات المذهبية والسياسية وتعمق مفعولها، ولم تتمكن ان تحل محلها قيادة مركزية واحدة.. انقسمت الدولة المركزية الى عدة دول فظهرت دولة في الاندلس ودول في شمال افريقيا، ثم جاء الزحف المغولي، ثم قامت دولة المماليك، ثم الدولة العثمانية والصفوية.. وهكذا انتقل المسلمون من عهد الدولةالواحدة الى عهد الدول المتعددة، وكانت كل دولة تعتبر نفسها هي ممثلة الدولة الفكرية العالمية وتسعى لفرض سيادتها وسلطتها على بقية انحاء العالم الاسلامي.
ان تعدد الكيانات السياسية في العالم الاسلامي كان ظاهرة من ظواهر الوهن السياسي الذي اصاب جسم العالم الاسلامي، والذي صاحبه وهن آخر هو الوهن الفكري الذي اصاب عقل المسلمين، فالمذابح المذهبية في كثير من المناطق الاسلامية بين الحكام ومن لم يتمذهب بمذهبهم مظهر من مظاهر العقم الفكري الذي اصاب المسلمين.
وكان من جراء الظلم السياسي للقيادات الاقليمية ان اتخذت بعض المذاهب الاسلامية السرية التامة في تعاملها الديني وادى ذلك الى انغلاق بعض مذاهب المسلمين على عقائد أو افكار أو احكام ابعدتهم قليلا أو كثيرا عن الاسلام.. ولاتزال آثار هذه المظالم السياسية موجودة في بعض الفئات التي تمذهبت بمذاهب مغلقة لايطلع عليها احد من غير رعاياها.
وكان العهد العثماني من العهود التي تستند على الاضطهاد المذهبي والعقلية لبعض الفقهاء المسلمين وحكامهم الذين يكفرون المسلمين الذين لايتمذهبون بمذهبهم.
وكان جهل بعض الحكام بالاسلام باعثا لظهور اشكال اخرى من العصبيات منها العصبية الدينية ضد اهل الكتاب. ولكن لم يصل اضطهاد اهل الكتاب الى معشار اضطهاد المسلمين اصحاب المذهب المخالف لمذهب اصحاب السلطان.
وكان من مظاهر الوهن غلق باب الاجتهاد بحجة ان لا يقع استنباط الاحكام بأيدي رجال غير أمناء يتجاوزون حدود مايصح فيه الاجتهاد فيحللون الحرام ويحرمون الحلال.
ووصل الوهن الفكري لدى المسلمين ان اصبحوا لايفرقون بين الحلال والحرام: فقد حظر الباب العالي في اول انتشار الطباعة استعمال الحرف العربي في الطباعة بحجة ان الحرف العربي مقدس، ووقفوا وقفه الحذر من العلوم الطبيعية والعلوم الصناعية كما سبق للمماليك ان حرموا في حروبهم الاولى استعمال البندقية لأن الحرب بالسيف من سنة الرسول ﷺ.
وبعد ذلك انهارت القوة العسكرية للمسلمين امام ازدياد قوة اوربا العسكرية بعد ان مهد الغزو الفكري لذلك.
الغزو الفكري
وكان من تأثر المسلمين بالغرب ان تنادى الاصلاحيون الاتراك بالقومية التركية، فقالوا بتفوق الاتراك عنصريا على غيرهم من الشعوب الاسلامية وغير الاسلامية، وشددوا على ان مهمة القيادة في السلطنة العثمانية وفي دنيا الاسلام انما تقع على عاتق العنصر التركي المتفوق، وعملوا بهذه الروح على تتريك جميع رعايا السلطنة العثمانية وظهر في المقابل بوادر حركة قومية عربية في بلاد الشام كان من ابرز دعاتها النصارى وخاصة نصارى لبنان اصحاب الصلات المفضوحة مع الدول الاستعمارية الطامعة بالاستيلاء على المنطقة، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، وظهرت بعد ذلك طلائع قومية فارسية وقومية هندية وقومية سورية بل وقومية لبنانية، وكان يرافق هذا المّد من القوميات دعوات لنقل القوانين الوضعية الاوربية.. وبالفعل كان ينقل بعضها الى بلاد المسلمين وكانت تقرّ بفتوى من شيخ الاسلام في الاستانة. وكان نشاط الارساليات التبشيرية ـ التي انشأت مؤسسات ثقافية وصحية في شتى انحاء العالم الاسلامي وخاصةفي بلاد الشام ـ متعددالجوانب فهي تقوم بتنظيم نشاط نصارى المنطقة ليكونوا طابورا خامسا في العالم الاسلامي، كما تقوم بأعمال تجسسية لحساب المستعمرين، بالاضافة الى توهين علاقة المسلمين بأسلامهم وقد تجند بعض اهل البلاد الاسلامية من النصارى في هذا المجال من الذين تخرجوا من معهد رومية في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي حيث ساهموا في وضع اسس الاستشراق ـ المنطلق الفكري لتشويه الاسلام في نظر العالم ونظر المسلمين بأشاعة الشبهات حول الاسلام مما نرى نتائجه الواضحة اليوم بين المسلمين وخاصة بين المنتمين الى الاحزاب القومية والوطنية في العالم الاسلامي.
وقد خصص الكرسي الرسولي للموارنة نزلا في روما أتاح لهم ان يرسلوا شبابهم الى هناك للدراسة مجانا، وقد اقام الآباء اليسوعيون والآباء اللعازاريون والانجيليون والمرسلون الامريكيون مختلف المؤسسات لخدمة اغراضهم المرتبطة بالسياسة الاستعمارية لبلادهم. وقد كشفت عدة كتب وابحاث منشورة كثيرا من اعمال الارساليات والاستشراق منها كتاب ”التبشير والاستعمار“ وكتاب ”الحركة الصليبية“ وغيرها.
اقامة دولة لبنان
استفحل الاستعمار المباشر لبلاد المسلمين في القرن التاسع عشر، واكتمل الاحتلال في العقد الثاني من القرن العشرين بعد الحرب العالمية الاولى، وقد اقتسمت بريطانيا وفرنسا غنائم الحرب وعملوا تمزيقا في العالم الاسلامي أو بقية العالم الاسلامي غير المحتله، وكان من أهم ركائز التمزيق تركيز بعض الاقاليم من ناحية شعبية ورسمية وجعلها موالية كليا للاستعمار فوسعوا اقليم الحبشة على حساب الشعوب الاخرى المجاورة له، ووسعوا جبل لبنان على حساب البلاد الشامية، وانشأوا دولة اسرائيل في قلب العالم الاسلامي، وقسموا الهند على اساس ديني..كل ذلك لوضع ركائز ثابتة لتمزيق العالم الاسلامي، اضافة الى وضع اسس فكرية سياسية وتشريعية في البلاد الاسلامية تبناها السياسيون المسلمون دون ان يلتفتوا الى انهم يعيشون فكريا وسياسيا واقتصاديا وتشريعيا بأسس استعمارية محضة.
الوضع السياسي في لبنان
جغرافيا:
جبل لبنان الحالي كان يطلق عليه جبل الدروز، ولهذه التسمية دلالة سياسية لايزال اثرها حتى اليوم في سياسة لبنان وسواء اكان جبل لبنان هو مايطلق عليه هذا الاسم أم كان منطقة الجبال الشمالية الوعرة فأنه جزء من بلاد الشام. كان كذلك قبل دخوله الاسلام وبعده. وليس لهذه البقع الصغيرة من العالم الاسلامي قيمة خاصة سوى انها معروفة بجمالها وحسن مناخها، وانما ابتدأ الاهتمام بلبنان عندما بدأ الغربيون يفكرون بغزو العالم الاسلامي واستعماره، وقد استبشروا بتعاون نصارى هذه المنطقة معهم في الحروب الصليبية في القرنين الثاني والثالث عشر الميلادي.
ويعترف احد المؤرخين من نصارى لبنان قائلا:
”في اثناء القرنين الثاني عشر والثالث عشر صادق الموارنة الصليبيين وحالفوهم، ووضع زعماء الموارنة امكاناتهم العسكرية تحت تصرف الفرنجة“
الطائفية والمذهبية:
ومنذ اصبح للبنان اهمية خاصة كركيزة من ركائز الاستعمار المؤملة في القرن السادس عشر واوائل القرن السابع عشر الميلادي وكركيزة استعمارية فعلية بعد الحرب العالمية الاولى، اصبح المستعمرون ينظرون اليه باهتمام متزايد وقاموا بتوسيع رقعته السياسية باستقطاع بعض اراضي الشام واضافتها الى لبنان ولم يمنع تباين طوائفه من هذا الاهتمام ان لم يكن عاملا فيه، واهم هذه الطوائف التي توجد في لبنان:
الموارنة الذين ارتبطوا بالغرب منذ الحروب الصليبية.
وثاني هذه الطوائف الدروز الذين انتظموا اجتماعيا كأقلية، وانعزلوا دينيا عن بقية المسلمين نتيجة الاضطهاد المذهبي الذي ساد السلطات الحاكمة في العالم الاسلامي، والهبوط الفكري الذي عم المسلمين لقرون طويلة.
وثالث هذه الطوائف الطائفة الشيعية وهي من الطوائف المضطهدة طوال العهود الأموية والعباسية والعثمانية حيث تعرضوا الى مذابح عظيمة واضطهادات متتالية واجلاء عن مناطق سكناهم في كسروان وجزين وقتل علمائهم.
ورابع هذه الطوائف الطائفة السنية التي هي جزء من كيان الدولة لتمذهبها بمذهب الدولة في العهود السابقة.
ثم بقية المذاهب المسيحية الاخرى كالارثودكس الذين اقتطع منهم جزء بفعل الارساليات وتمذهبوا بمذهب الكاثوليك.
العوامل المؤثرة في تحريك الشعب اللبناني
ان هذا الانقسام المذهبي هو حقيقة واقعة سياسيا واجتماعيا في لبنان وكل اغفال لها هو عمى سياسي.
ان العامل الديني والعامل المذهبي هو أحد المحركات الرئيسية للانسان في هذا العالم، ولايقل هذا عن العامل العرقي أو الاقتصادي، وهو بشكل ما يرتبط بالعامل الفكري، واحيانا يكون العامل الفكري عاملا دينيا فقط أو عاملا مذهبيا فقط أو عاملا اقتصاديا فقط.. ان العوامل التي تؤثر على مجموعات الناس كثيرة، ولا يجوز اعتبار عامل واحد هو المؤثر دون العوامل الاخرى، فمن المفكرين من يدّعي ان العامل الجغرافي هو المؤثر الاول ويقول آخرون ان العامل الاقتصادي هو العامل الاول ويقول آخرون غير ذلك والصحيح ان في بعض الاحيان يطغي عامل أو اكثر على بقية العوامل فيبدو كأنه عامل وحيد أو أنه عامل أهم من غيره ولكنه في الحقيقة مرتبط بظرف معين:
فالعامل الاول الذي يحرك الثورة في ايرلندا هو عامل مذهبي.
والعامل الاول الذي يحرك ثوار الفلبين هو عامل ديني.
والعاملان الاولان اللذان يحركان الثورة في الاورغواي هما عاملان سياسي واقتصادي.
والعامل الاول الذي يحرك ثورة الزنوج في افريقيا هو العامل العرقي.
والعامل الاول الذي سيحرك المسلمين للتخلص من النفوذ الاستعماري نهائيا هو العامل الديني.
والعامل الديني والمذهبي هو محّرك فعال في لبنان وان ضم غيره من العوامل، وتاريخ لبنان منذ ان اصبح له قضية خاصة في الدولة العثمانية الى ان اصبح له كيان خاص بفعل الدول الاستعمارية كان العامل المذهبي وهو الذي يحرك الاحداث ويستعمل في تحريكها.
التدخل الاوربي:
نتيجة للنهضة الفكرية والعلمية والصناعية في اوربا اختل التوازن السياسي في العالم وتراجعت الدولة العثمانية عن موقعها كدولة في العالم.
كان يتحدث السلطان التركي الكبير عن العالم بأنه لايستحق ان يحكمه اكثر من شخص واحد، وكان يراسل ملوك اوربا ويعاملهم معاملة الاتباع، ولكنه وجهاز حكمه لم يكونوا بمستوى حمل الرسالة، ولابمستوى الاحتفاظ بالمناطق الواسعة التي يحكمونها.
ونتيجة للنمو الصناعي استنفرت الدول الاوروبية الصناعية قواها في تنافس مرير للاستيلاء على الاراضي والبلاد في القارات الاخرى ركضا وراء السيطرة والتوسع والمواد الخام، وكانت الدولة العثمانية المسيطرة على قسم من آسيا وافريقيا واوربا مطمح الدول الاستعمارية الاوربية. وكان وجود النصارى في لبنان والاتصال السابق بينهم وبين اوربا منذ الحروب الصليبية منفذا مشجعا للتدخل الاوروبي في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية، والهدف الحقيقي من هذا التدخل ليس خدمة مصالح النصارى في الشرق كما كان يدعي الاوروبيون وانما هو النفوذ الاستعماري في المنطقة. وما النصارى الاوسيلة من الوسائل المختلفة التي ينفذ بها الاستعماريون الى البلاد.
يقول مترنيخ احد زعماء اوروبا عن لبنان:
”هذا البلد الصغير هو في منتهى الاهمية“.
وكانت بريطانيا وفرنسا من اوائل الدول الاستعمارية المهتمة بالمنطقة الشرقية من البحر المتوسط وما جاورها من البلاد العربية, بينما كانت روسيا مهتمة بما جاورها من الاقطار الاسلامية والبلقان، وكانت البرتغال مهتمه بخليج البصرة وشواطئه العربية والفارسية، وكانت لألمانيا وغيرها من الدول الاوربية مطامع ومطامح.
ومجال المطامع له بداية وليس له نهاية. وهويعتمد على القوة العسكرية، وعلى العلاقات الدبلوماسية والثقافية والتجارية وعلى الدهاء السياسي والتخطيط الدقيق لقضايا الدولة الخارجية.
لقد كان التنافس بين الدول الاوربية بريطانيا فرنسا واسبانيا والبرتغال وروسيا وهولندا وبلجيكا على أشده على المستعمرات، وكانت الحروب لاتهدأ حتى تبدأ من جديد فيما بينها حتى انتهت تلك الفترة من الصراع الاستعماري بالحرب العالمية الاولى.
واستمر الصراع السياسي على أشده بين فرنسا وبريطانيا في لبنان، وكان لروسيا وجودضئيل لرعاية الارثودكس. وللولايات المتحدة وجود ارساليات ومؤسسات ثقافية ذات اهداف بعيدة المدى.
وهذه بعض الفقرات لبعض المؤرخين النصارى توضح التدخل الاوربي في شؤون الدولة العثمانية عن طريق لبنان:
”وكانت قد انشئت في ١٨٦١م بضمان الدول الاوربية متصرفية جبل لبنان، وكان على رأس متصرفية جبل لبنان متصرف يعينه الباب العالي من بين رعاياه النصارى بموافقة الدول الكبرى“.
ولكن التدخل الاوروبي المباشر لم يترك للامارة اللبنانية شيئا من الاستقلال.
”وفي ايام عمر باشا بلغ التنافس ذروته بين القنصلين الفرنسي والنمساوي في بيروت على حماية الموارنة وبقية الطوائف الكاثوليكية في لبنان، فيما اختص القناصلة الروس قضية الروم الارثودكس ولم تكن للدروز حماية قنصلية حتى ١٨٤١م حين عمد القنصل البريطاني الكولونيل هبوروز ثم خلفاؤه من بعده الى اداء هذه المهمة“.
فمع ان الصلة الحميمة بين الموارنة وفرنسا كانت تعود الى اوائل العهد العثماني الا ان الموارنة لم يقتصروا لطلب المشورة والتأييد على قناصل فرنسا الابعد ١٨٤١م. ولم ينظر الدروز الى فرنسا نظرة عداء قبل ذلك الوقت، وكان القناصلة الفرنسيون وعملاؤهم في السابق، وقد أقاموا أنفسهم حراسا على مصالح الموارنة، يبذلون منتهى الجهد للحفاظ على نفوذ فرنسا بين الدروز. وكان جهدهم هذا موجها اكثر ما يكون الى ابقاء الموارنة والدروز بمنجى من تأثير البريطانيين والنمساويين والروس، وقد سعوا في ذلك الحين الى الوساطة بين الموارنة والدروز اعتقادا منهم ان خيرما يحفظ للبنان كيانه الخاص هو اعادة الالفة بين هاتين الطائفتين الكبيرتين، ومما قاله القنصل الفرنسي ”بروسير بورية“ في هذا الشأن ”ان وجود النصارى ضروري للدروز، وان وجودالدروز لاغنى عنه لضمان كيان النصارى“.
”في ٢٦ تموز ١٨٦٠م ارسلت الحكومة الفرنسية سبعة آلاف جندي الى بيروت تحت امرة الجنرال دوتيول بحجة مساعدة الباب العالي على اعادة النظام“.
”احتل الجنرال دوتيول وجنوده منطقةالشوف من مطلع الخريف وانصرفوا الى توزيع المعونات وتألفت في بيروت لجنة دولية من ممثلي بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا برئاسة فؤاد باشا للنظر في اعادة تنظيم لبنان“.
وبعد صراع كان كل يريد منه تحقيق اطماعه:
”اجمع الاعضاء على اقرار نظام للبنان اصبح فيه سنجقا عثمانيا له استقلاله الداخلي على ان تضمن كيانه الدول الست الموقعة“.
الاستعمار الافرنسي في لبنان:
تمتد الصلة الاستعمارية بين لبنان وفرنسا الى سنة ١٥٣٥م في بداية التوسع الاستعماري الاوروبي حيث مُنحت فرنسا امتيازات خاصة في لبنان من قبل الدولة العثمانية، ثم اخذت تقوي صلاتها ببلاد الشام مستغلة العلاقة المذهبية بينها وبين الطائفة المارونية في لبنان، وكانت تمثل اقوى دولة كاثوليكية في اوربا فاعتبرت نفسها حامية للموارنة، وهم آنذاك الطائفة الوحيدة في المنطقة المتحدة مع بابا روما. وكانت هذه الصلة المدخل الذي كانت تدخل منه الدول الاستعمارية الطامعة في المنطقة، وكان الموارنة يعتبرونه القوة التي يحصلون فيها على التأييد الخارجي حيث كان ولاؤهم وتطلعاتهم تتجه دائما الى ماوراء البحار، وكان من جراء توثق العلاقات ان بدأت فرنسا تعامل الموارنة، وكأنهم من رعاياها فعينت في سنة ١٦٥٥م أحد مشايخ المارونيين قنصلا لفرنسا في لبنان وظل احفاده يتوارثون هذا المنصب الى امد،وظلت فرنسا تشجع الموارنة على الفوز بقدر أكبر من الاستقلال مع وضع ثقلها السياسي في صراعها مع الدول الاوربية واجبار الدولة العثمانية على قبول ذلك، وكانت تخطط للتحرك الماروني في مقاومته للسلطة العثمانية، وفي صراعه مع الدروز عندما تعاونوا مع الانكليز وتحميه عندما يحتاج الى حماية، وتشجيعه عندما يحتاج الى تشجيع، وقد وضعت للموارنة طريقة القومية اللبنانية أو الوطن القومي للنصارى في الشرق، ليكون ركيزة لنفوذهم في هذه المنطقة. وفي المقابل اندفع الموارنة بتأييد فرنسا واعتزوا بعلاقاتهم بها ولم يحاولوا اخفاءها ولقبوها بالأم الحنون، وهم أول من سّن سنة اعلان الولاء للاستعمار مع التشدق القومي وهو أقصى الوقاحة السياسية.وقد تبعهم السياسيون المسلمون في لبنان فصارت السياسة اللبنانية أسوأ مدرسة سياسية في المنطقة، إذ أنّ العدوى سرت الى عاديي الناس واصبح الولاء للاستعمار لا يستنكر بل يعتبر أمرا عاديا في الأمور السياسية.
وكان من مظاهر ولاء الموارنة لفرنسا ان اصبح العمل السياسي لقادة الموارنة مرتبطا بفرنسا ارتباطا عضويا في السر وفي العلن لمساعدتها ويعتبرونها ”حاميتهم على مّر العصور“ وحتى ان بعض رهبانهم في مناسبات رفعوا العلم الفرنسي فوق اديرتهم. وقد ابتهج الموارنة في سنة ١٩١٨م عندما احتلت فرنسا لبنان احتلالا مباشرا. وقد وسعت رقعة لبنان الجغرافية عندما اطلقت بريطانيا يدها في بلاد الشام عدا فلسطين وشرق الاردن عندما اقتسموا المنطقة بعد معاهدة سايكس بيكو الى الحدود الحالية..واستمرت فرنسا في حكم لبنان حكما مباشرا يساعدها الموارنة وكأنهم رعاياها الى انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث خرجت فرنسا منها منهكة مثخنة الجراح فأخرجتها بريطانيا من سوريا ولبنان. ثم عاودت تثبيت وجودها في لبنان بعد ان تغيرت المعادلة للقوى السياسية العالمية.
محاولات الاستعمار البريطاني في لبنان:
كانت بريطانيا أشد الدول الصناعية طموحا الى الاستعمار وأقدرها على النجاح فاستولت على مساحات واسعة من آسيا وافريقيا وكانت لها حصة الأسد في القارات الجديدة، فاحتلت القارة الصغيرة في المحيط الهادي ”استراليا“، واحتلت معظم امريكا الشمالية أو كلها ماعدا جزء يسير من جنوبها، واحتلت معظم البلاد العربية، وكان لها في لبنان دور منذ ان كان لبنان أبرز منفذ للدول الاستعمارية في الدولة العثماينة.
كان بداية التدخل البريطاني في لبنان عن طريق الارساليات الانجيلية التي اصطدمت بالخلاف المذهبي مع الموارنة، وكان لهذا العداء أثره الحاسم في العلاقات الاستعمارية التي تريدها بريطانيا، وبين الموارنة وسائر النصارى في لبنان.
في فترة الاحتلال المصري استطاع احد العملاء البريطانيين من الطائفة الكاثوليكية ان يجتذب عددا من الزعماء الموارنة الى جانب بريطانيا، ولكنه لم يتمكن من التأثير على نفوذ فرنسا حيث ان الاكليروس الماروني واتباعه كانوا يعتبرون البريطانيين هراطقة وماسونيين واعداء للكنيسة، وحين فشل البريطانيون في تقرير علاقتهم مع الموارنة والحلول محل فرنسا بينهم، حولوا اهتمامهم الى الدروز، وكان الدروز حتى ذلك الحين على علاقة ودية مع فرنسا خصوصا من انتمى منهم الى الحزب اليزبكي، فأيد البريطانيون الحزب الجنبلاطي وهو الحزب الاقوى من الدروز. وكان نشاط البريطانيون في توسيع الهوة بين الفئات الاقوى في لبنان لكي تضعف النفوذ الفرنسي المتزايد في لبنان ولعله كان من تخطيط الانكليز ان يترك لبنان لفرنسا عند اقتسام اراضي الدولة العثمانية كما صار فعلا فيما بعد على ان يكون لهم موطيء قدم ليستعملونه عند الحاجة. وهذا ماكان بعد الحرب العالمية الثانية حيث اخرجت بريطانيا وفرنسا من سوريا ولبنان.
الصراع الدرزي الماروني في لبنان:
كان الدروز هم الفئة الاولى البارزة عندما بدأت بوادر ظهور تفتت الدولة العثمانية في المنطقة العربية، حتى ان حكام لبنان كانوا يسمّون ”بأمراء الدروز“. وقد ظهر وجود الدروز السياسي عندما اظهروا مقاومة باسلة ضد الغزو الصليبي لبلاد الشام، ولكن الموارنة بد أوا ينتشرون في مناطق سكناهم في بشرى والبترون وجبيل وبأرشاد وبتوجيه الفرنسيين بدأوا يبرزون كوجود سياسي في لبنان حتى انه كان يبدو أنّ المستقبل لهم بسبب الاندفاع القوي الذي اندفعت فيه فرنسا لابرازهم وتأييدهم وهي الدولة الاوروبية ذات القوة والمنعة حتى ان امراء عدة في لبنان غيروا ديانتهم الى المسيحية والمذهب الماروني طمعا في تأييد الاستعمار الفرنسي لهم. وتبعهم كثير من اهل المذاهب المضطهدة من قبل الدولة العثمانية للوهن الفكري الذي غمر المسلمين واطماع الدنيا التي كانوا ينتظرونها وفرارا من الاضطهاد والأذى.
وبداية الانشقاق بين الدروز والموارنة كان سبب اختلاف موقف كل منهما بالنسبة للحروب الصليبية وتدخل الفرنسيين والانكليز بتفاصيل الاوضاع اللبنانية فيما بعد. وحتى لا تتحول دفة النفوذ من الدروز الى الموارنة استمال الانكليز الدروز فمالوا اليهم بعد ان تضخم تأييد فرنسا للموارنة في ذهن قادة الدروز بتسلحيهم وتأييدهم بالقوة العسكرية الفرنسية. ففي سنة ١٨٤١م صعد خمسة من زعماء الدروز الكبار الى ظهر بارجة بريطانية راسية في مياه صيدا واقسموا ان تقف طائفتهم صفا واحدا مع بريطانيا. ولقاء ذلك قطع البريطانيون للدروز عهدا بحمايتهم والدفاع عنهم وعن مصالحهم.
وهكذا انقسم جبل لبنان الى فئتين متقابلتين: درزية ومارونية يتصارعون ويقتتلون ـ وهكذا يفعل الاستعمار عندما يريد ان يحل في بلد، فلم يقتتل المسلمون مع الهندوس طيله عهود حكم المسلمين لكن لما حل البريطانيون وحكموا الهند بدأت المذابح الطائفية واصبحت ابرز مافي الساحة السياسية الهندية من احداث.
ولتثبيت السلطة الدرزية في لبنان اخذ الدروز يعاملون الموارنة بقسوة عندما يرون منهم اية بادرة من التقليل من هيمنتهم وتسلطهم، والموارنة بدورهم يستعدون للانقضاض على الدروز واخذ السلطة منهم، وكان موقف السلطة العثمانية موقف الغائب.
ودارت بتحريك الانكليز والفرنسيين أحداث دامية بين الفريقين قتل فيها الرجال والنساء والاطفال ونهبت الأموال والاراضي. وكان النفوذ الانكليزي والفرنسي يزداد بالتصرف في شؤون الدولة العثمانية. وكان الثمن لزيادة هذا النفوذ الدماء التي تجري من عروق اهل البلاد. وقد بلغت المذابح الطائفية اوجها ١٨٥٨ - ١٨٦٠م حيث وقع خلالها الرعب في قلوب النصارى من شدة بأس الدروز وقسوتهم أثناء القتال الذي عم جميع مناطق النصارى ولاقوا فيه هزائم متتالية ولكن كانت النتيجة الاتفاق الانكليزي الفرنسي الذي جعل لبنان من حصة فرنسا تقريبا.
ان الولاء الماروني لفرنسا هو الذي جعل الطائفة المارونية طائفة ذات امتيازات تتمتع بها برعاية وحماية فرنسا. اما بقية الطوائف المسيحية فهي تتمتع بالدرجة الثانية كطوائف نصرانية. وظل للدروز هيبة قوية في نفوس النصارى يراعون من اجلها امورهم ونفوذهم السياسي، اما السنة فأصبحوا كالضائعين بعد سقوط الدولة العثمانية، واما الشيعة فقد انتقلوا من عهد ظالم الى عهد ظالم آخر فقد قاوموا الاحتلال الفرنسي، وأبوا التعاون معه ولكنهم عند ما ألفوا الاوضاع الجديدة فيما بعد لم يحصلوا حتى على سقط المتاع.
مايسمى بعهد الاستقلال:
سحق الجيش الالماني فرنسا واحتلها وألف حكومة فرنسية تابعة له، فتبعت المستعمرات الفرنسية الحكومة الجديدة، ولكن ديغول اقر من قبل الحلفاء لفرنسا الحرة. وبعد انتصار الحلفاء على المانيا وايطاليا واليابان عاملوه معاملة الحليف المنكسر وحاولوا ان يأخذوا من مستعمراته ما امكن، ومن هذا المنطلق استولى عملاء بريطانيا على الحكم في سوريا ولبنان، وأبقت بريطانيا اوضاع لبنان على ماهي عليه مع تغيير طفيف.
وكان وجود امريكا السياسي في المنطقة وجودا ضعيفا الا انها نشطت بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت غزوالدول الاوروبية التي انهكتها الحرب والتي كانت بأمس الحاجة الى مساعدات امريكا، واستغلت امريكا هذه الحاجة وعملت للحلول محل اوروبا في مستعمراتها. وكان لها في لبنان ركائز اهمها الجامعة الاميركية وجامعة بيروت وغيرها من المؤسسات التي تضم كوادر بشرية مؤهلة لتنفيذ السياسة التي تريدها.
(٨)الميثاق الوطني:
عندما تسلم عملاء الانكليز والفرنسيين الحكم في لبنان ارادوا ان يبقوا على ميزان القوى الطائفي الذي يؤمن الولاء لهم فقاموا بتمييع الموقف السياسي لارضاء السياسيين المسلمين وأوجدوا صيغة توزيع المناصب الرئيسية مع ابقاء السلطة الحقيقية بيد الموارنة فوزعت المناطق كما هي عليه اليوم وبقيت جميع المؤسسات الحكومية والحرة بيدهم بصورة خاصة، وتمتع بعض الزعماء المسلمين بميزة المظهر الفارغ الخداع بينما بقيت مناطقهم ـ مناطق المسلمين ـ مهملة اهمالا كاملا، واصبح الساسة المسلمون اما تابعين للساسة المارونيين أو تابعين لعملاء آخرين من حكام البلاد العربية. اما الدروز فلم يسلكوا طريق الساسة المسلمين لأنهم من مؤسسي الصيغة اللبنانية ولهم ارتباطاتهم الخاصة المباشرة ولهم قوتهم الخاصة في لبنان ولكنهم خضعوا لارادة الاستعمار الغربي وقبلوا صيغة الميثاق. وهكذا أوجد المستعمرون في لبنان بلدا مستقرا بالهيمنة المسيحية وباستخذاء وخضوع المسلمين وصوروه بصورة الاشعاع فكأن المنطقة تعيش في ظلام ولبنان بولائه الكامل للاستعمار يشع على المنطقة بنور الثقافة والحضارة! أنها نظرية الاستعلاء الاستعماري التي ترى ان الوطن المسيحي والوطن اليهودي هما واحتا الحضارة بين الاقوام التي تعيش في ظلام القرون الوسطى!
ارتباط الحكام في لبنان بالحزب الكاثوليكي العالمي
يقف بابا روما على رأس هرم حزبي منظم له التأثير في شتى انحاء العالم. ويعتبر من الاحزاب العالمية غير المعلنة تماما، كالحزب اليهودي العالمي غير المعلن، وقد رعى هذا الحزب لبنان منذ ان كان جنينا في جسم الدولة العثمانية. ولنأخذ بعض نصوص من كتاب عن تاريخ لبنان لأحد المؤرخين النصارى:
”كانت صلة الموارنة بالكنيسة الكاثوليكية في رومية (الرومانية) ذات فائدة لهم ذلك انها زودتهم بتأييد خارجي“
”فكثير ممن تخرجوا من المعهد الماروني في رومية عادوا الى لبنان كرهبان وراحوا ينشئون المدارس في القرى لنشر التعليم بين ابنائها، حتى اصبح بعض هذه المدارس بأدارة الآباء اليسوعيين أو سواهم من المرسلين مراكز تربوية ذات شأن أنشأت طبقة من المتعلمين الموارنة تبوأت اعلى المناصب العامة، وأملت في الكثير الغالب سياسة الامارة اللبنانية“.
يقول السائح الفرنسي فولتي:
”كانت الفائدة الجلى التي نشأت عن نشاط هذه الارساليات الدينية أن فن الكتابة اصبح اكثر شيوعا بين الموارنة مما جعلهم في هذه المناطق بمقام الاقباط في مصر واصبحوا هم الكتاب والنظار عند الاتراك وخصوصا عند جيرانهم الدروز“.
ويقول المؤرخ:
”كان للكنيسة الرومانية الكاثوليكية نفوذها السياسي المباشر في لبنان فمنذ ان شملها فخر الدين بحمايته تزايد مراسلوها في البلاد مما جعلهم مسموعي الكلمة في البلاد، ووجدوا في حظوتهم لدى الافراد مجالا كبيرا لتعزيز المصالح المارونية“.
”عمدت الاوساط الفرنسية ـ وهي من الحزب الكاثوليكي ـ الى تشجيع الموارنة على الفوز بقدر اكبر من الاستقلال فدعمت موقف يوسف كرم وشجعت الموارنة على اعتباره المثال الاعلى للوطن اللبناني. وهكذا نشأت عند الموارنة حول شخص يوسف كرم فكرة القومية اللبنانية المسيحية“.
”كانت صلة نصارى لبنان باوروبا قديمة العهد فمنذ اواخر القرن الثاني عشر حين احتل الافرنجة السواحل الشامية دخل الموارنة حلفاؤهم احضان الكنيسة الكاثوليكية“.
”كان بتأثير المرسلين أن لبى البطريك الماروني دعوة البابا سنة ١٤٣٩م فأرسل قصادا الى ايطاليا لحضور مجمع فلورنسا وتم الرأي على ان مايحققه ارتباط الموارنة بالكرسي البابوي هو تدريب رجال الاكليروس الماروني ذاته على الطقس الروماني وتحميلهم مسؤولية الحفاظ على الوحدة مع الاكتفاء بالمرسلين اللاتين كمساعدين. وهكذا عمد احبار رومية الى حث الرهبنات اللاتينية في بلاد الشام على اعارة الموارنه اهتماما خاصا ولم يكتفوا بذلك بل دعوها الى تشجيع النابهين من الشباب الموارنة من مريدي الكهنوت على الدراسة في ايطاليا“.
ونلاحظ بأن قيادة الحزب الكاثوليكي تريد لبنان كمركز لها في الشرق وبالفعل فأن نصارى الشرق من كاثوليك وغيرهم ينظرون الى لبنان نظرة ولاء واعجاب، وننهي هذه الفقرات المنقولة بقول احد زعماء ”الكتائب“ الحزب الماروني الذي اسس العمل ضد تحرك المسلمين، يخاطب هذا الزعيم الكتائبي احد الصحفيين الفرنسيين فيقول:
”العرب لن ينسوا بواتييه وسيأتي يوم يهاجمون اوروبا، نحن الخط الصليبي الاول نحافظ على مواقع نصارى الشرق كجزء من الحضارة الغربية الديمقراطية“.
ونتج عن ارتباط نصارى لبنان بالحزب الكاثوليكي العالمي ان أصبح لبنان ـ وهم أهم الحل والعقد فيه ـ اكثر أقاليم العالم الاسلامي تشبها باوروبا، ولعل بيروت وخاصة الاحياء النصرانية والتي تحت تأثيرهم اشبه باحياء مدينة اوروبية منها بأحياء عاصمة من بلاد الشرق،فالحاجز الذي يفصل المسلمين عن الغربيين ويجعل تقليد الحياة عندهم بطيئة جدا غير موجود في لبنان. وفي بلاد المسلمين لا تزال الحياة الاجتماعيه متأثرة بالتعاون بين الناس ولا تزال شعارات الخدمة العامة من اول شعارات السياسيين. اما في لبنان فالعلاقات الاجتماعية والسياسية علاقات فردية تسودها السرقات والرشوات بشكل فاضح وغير مستنكر اجتماعيا.
ونظرا لاطمئنان الغرب الى الوضع السياسي في لبنان والى ولاء القاعدة السياسية الرئيسية وهم الموارنة بصورة خاصة والنصارى بصورة عامة فقد اعطى للبنان فرصة العمل السياسي الحر لأن ذلك غير مضر بمصالحه مادامت القاعدة السياسية مضمونة الولاء ومادامت الحرية السياسية مؤطرة باطار غربي، وما في لبنان من حرية سياسية لايوجد في اي بلد اسلامي آخر. كذلك الامر في الهند حيث وضع البريطانيون الهند تحت نظام سياسي ديمقراطي على الطريقة الغربية واعطوها حرية سياسية لنفس السبب الذي اتاح للبنان الحرية السياسية.
(١٠) الوضع السياسي في لبنان مقارنا بالبلاد العربية الاخرى:
الوضع السياسي في بلاد المسلمين ـ عدا البلاد الواقعة بين البلاد الشيوعية أو ضمنها كالبانيا والجمهوريات الاسلامية في الاتحاد السوفياتي والصين ويوغسلافيا ـ واقعا تحت تأثير الدول الاستعمارية الغربية وعلى رأسها في النصف الثاني من القرن العشرين الولايات المتحدة الاميركية. كما ان بريطانيا لا يزال لها بقايا نفوذ وكذلك فرنسا وبعض الدول الاوروبية الاخرى.
والعوامل المؤثرة على الوجود الاستعماري منها ما هو ايجابي يعين الاستعمار على البقاء، ومنها ماهو سلبي يكون مصدر قلق وزعزعة للوجود الاستعماري.
من العوامل المساعدة لبقاء الاستعمار:
-
أ. وجود العملاء السياسيين للاستعمار في مراكز القيادة السياسية في مختلف الاقاليم الاسلامية.
-
ب. تمكن الاستعمار ان يرفع عملاء جددا الى سدة القيادة السياسية كلما أحوجه الامر لذلك فهو يعتمد على اكثر من مجموعة سياسية يبدلها كلما احتاج الى ذلك كما نرى في تبديل الحكام بين آونة واخرى في بعض البلاد.
-
ج. وجود العملاء الفكريين وتيسير نشر افكارهم ووضعهم في مراكز القيادة الفكرية بتهيئة مختلف الوسائل لهم.
-
د. وجود الصحافة التي تدور في فلك الاستعمار.
-
ه. وجود اقليات تركن الى الاستعمار، كما هو حال كثير من غير المسلمين.
-
و. تبلد الحس الاسلامي لدى المسلمين مما يقلل من عدائهم للاستعمار.
-
ز. انحراف الفهم الشرعي لدى المتدينين للاستعمار وانه كافر محارب.
ومن العوامل المقلقة والمزعزعة للاستعمار:
-
أ. الوعي السياسي المنتشر في الاقاليم، اذكلما ازداد الوعي السياسي اتضح الخطر الاستعماري من الناحية الفكرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
-
ب. الحس الديني وكلما تبلور الحس الاسلامي اتضح طريق مقاومة الاستعمار، ووجوب تكتيل الجماهير ضد مشاريع الاستعمار بجميع اشكالها وحركات عملائه بجميع اشكالهم.
-
ج. عدم وجود فجوات بين الناس الخاضعين لحكم واحد في اقليم من الاقاليم كالفجوات العرقية أو المذهبية أو العشائرية
-
د. وجود قيادات سياسية غير مرتبطة مع الاستعمار.
-
ه. وجود قيادات فكرية تعادي الاستعمار.
-
و. وجود احزاب معادية للاستعمار في الظاهر والباطن.
ولو تتبعنا هذه العوامل السلبية والايجابية لوجدنا لبنان اكثر الدول العربية قابلية للاستعمار. ان نسبة كبيرة من سكان لبنان قد تبلغ خمس السكان يوالون الاستعمار للتكوين التاريخي لوجودها السياسي وتتمثل هذه الفئة بالموارنة وجزء من بقية النصارى الذين تتركز بيدهم السلطة وفي يدهم المؤسسات الاقتصاديةوالثقافية في البلاد، عدا ان الحس الديني في لبنان لدى مسلمي المدن والسياسيين متبلد ومنحرف بالاضافة الى العوامل الاخرى التي يمكن تطبيقها على الوضع اللبناني وادراك حقيقة القابلية للاستعمار بصورة اكثر مما هي في البلاد العربية الاخرى.
وفي لبنان نجد وسائل الاعلام الخاصة بالموارنة تعلن تأييدها للمشاريع الاستعمارية الغريبة بصورة عامة، وبصورة خاصة للدولة الاستعمارية المرتبطة به، وكلما كان المشروع الاستعماري مفضوحا كلما ازداد تأييد هذه الفئة له نكاية بمعارضة المسلمين في البلاد المجاورة الذين تنعكس معارضتهم للمشروع الاستعماري على المسلمين داخل لبنان.
كما يلاحظ الوجود الاجنبي في لبنان وخاصة في العاصمة والمناطق المسيحية بشكل يلفت النظر، اذ أن بيروت تعتبر الواحة الاستعمارية الخضراء في صحراء المقاومة الشعبية الاسلامية ولذا فأن التقارير العالمية تأتي من مراكز التجسس في العالم: نيويورك ولندن وباريس وطوكيو وهونكونغ وبيروت.
ان الموقف الماروني من الاستعمار الغربي ميّع اي تحرك جدي ضد الاستعمار لاسيماوان جميع القادة السياسيين في لبنان اما اتباع للحكام الموارنة أو حلفاء لهم أو ضعاف أمامهم، لذلك يعمل الاستعمار بأعصاب باردة في لبنان ولايخشى ان يقف امامه اي سياسي أو مجموعة سياسيين ويعارضوه ويفضحوا اعماله وحتى الآن لم تظهر حركة جدية معارضة للاستعمار في لبنان وان كان لا يخلو الامر من حركات معادية للاستعمار تسيّرها قوى استعمارية اخرى.
(١١) الوجود الفلسطيني في لبنان:
كانت الضربة قاسية جدا بتركيز قاعدة للحزب اليهودي تخدم الاستعمار الغربي بانشاء ما يسمى دولة اسرائيل مما سبب ويسبب وسيسبب قلقا للوجود الاستعماري في المنطقة العربية، وبالتالي في العالم الاسلامي، فأن انشاء اسرائيل كشف حكام العرب المعاصرين آنذاك مما اضطر الاستعمار لاستبدالهم بآخرين. وقد استكان الفلسطينيون المطرودون من بلادهم في البلاد العربية ينتظرون اقتلاع اسرائيل ورميها في البحر، من قبل الجيوش العربية وحكام العرب الذين اتخذوا قضية فلسطين دعاية للضحك على الجماهير الفارغة من الوعي السياسي.
وظل الامر كذلك والفسطينيون يعيشون لاجئين في ظل الحصول على لقمة من الهيئات الدولية، وتحت نير المراقبة البوليسية في الاقطار التي يعيشون فيها. وكانت الحكومة اللبنانية تعاملهم بقسوة مضاعفة لكون حكام لبنان بالاضافة الى عمالتهم للاجنبي كما في بقية اقطار العرب.. مارونيين.
وقد منحت الحكومة المارونية الجنسية اللبنانية لمن ارادها من نصارى فلسطين.
ولكن انتظار الفلسطينيين طال حتى يئسوا من اي عمل جدي من قبل الحكام العرب فاعتمدوا على انفسهم وبدأوا بأعمال فدائية داخل فلسطين المحتلة، في بداية سنة ١٩٦٥م، وازدادت العمليات وقابلها الحكام العرب بتعتيم اعلامي وبضجر خشية قيام مشاكل جديدة في المنطقة، وبالفعل فأن هذه العمليات البسيطة الجادة اقلقت الاستعمار الغربي واسرائيل، فقد كانت انباء العمليات الفدائية هذه تنشر على الصفحات الاولى للصحف الاستعمارية الغربية بينما احداث الانظمة العربية الداخلية تهمل اهمالا كاملا حيث كان العالم العربي يقوم ويقعد لخطب بعض الزعماء التي تعتبرها الصحف الاستعمارية كلاما فارغا لاتهتم به.
وهكذا بدأ القلق من جديد على الكيان الاسرائيلي. وبينما كان زعماء العالم الاستعماري ومعهم زعماء اسرائيل مطمئنين الى عمالة الحكام، والى ان الفلسطينين الكبار يموتون والصغار ينسون ويذوبون في اماكن اقامتهم فاذا بهم يخرجون عن ارادة الحكام العرب ويبدأون التحرك.
لقد كانت حرب ١٩٦٧م بسبب عوامل من ضمنها الفعل الحقيقي والبسيط والوحيد في المنطقة. وبدأ الفلسطينيون يتحولون من لاجئين الى ثوار، وفقدت الحكومة اللبنانية السيطرة على مخيمات اللاجئين وظهرت مشكلة جديدة للسلطة المارونية، اذ ان اندماج الفلسطينيين باخوانهم المسلمين ووجود الاسلحة لديهم كثوار يسبب تحرك المسلمين.
ان وضع ركائز جديدة لتمزيق المسلمين ارتد الى ظهر الاستعمار فخلخل الركائز الاخرى وهكذا اصبح الاستعمار يفكر كثيرا في وضع اكثرية سكان لبنان من المسلمين، وكيفية استمرار السيطرة عليهم وبقائهم في القفص الاستعماري الرهيب.
ان وضعية لبنان الطائفي تحتم تحالف الفسلطينيين الذين هم اكثرية سكان لبنان، وان محاولات السلطة لضرب الفدائيين قد لاقت وتلاقي صعوبات كثيرة تجعلها عاجزة عن تنفيذ مخططاتها.
ان التحرك السياسي المعارض للسلطة المارونية في لبنان مرتبط الآن ارتباطا عضويا، ومستندا استنادا اساسيا الى الوجود الفلسطيني ولولاه لما كان له قيمة سياسية حقيقية. ولذلك يحاول السياسيون المحترفون ان يحسنوا مراكزهم السياسية بالتحالف مع القوة الفلسطينية التي اضحى وجودها جزء من السياسة اللبنانية شاء الامريكان أم أبوا ورضي الموارنة أو غضبوا.
(١٢) الموقف:
الموقف المبدئي
الموقف المبدئي هو الموقف النهائي للاسلام من غير المسلمين. يعامل الاسلام الذين يحكمهم من غير المسلمين معاملة عادلة فيعتبرهم مع المسلمين وحدة انسانية مشتركة في اكثر الواجبات والحقوق العامة فيعطي غير المسلمين الحرية في المعتقد والشعائر والاحوال الشخصية والسلوك الشخصي في حدود مالايضر بالاوضاع العامة، كما يعطيهم حق رعاية الدولة والضمان، ويعفيهم من واجب الدفاع عن الوطن. ويشترط لهذه المعاملة ان يدخل غير المسلمين في معاهدة عقد الذمة مع الدولة الاسلامية وتفصيل ذلك في احكام الاسلام الخاصة بهذا الموضوع.
اما ان يكون غير المسلمين هم الحاكمين للمسلمين فهو مبدأ مرفوض اسلامياً في كل الاحوال.
الموقف المرحلي:
ان الموقف السياسي للاسلام لا يختلف في اقليم عن اقليم، ولا في شعب عن شعب لأنه يرتبط بالخط العام والمراحل واحكام الاسلام، لكن موقف الاسلام من العمل الاصلاحي المرتبط بالعمل التغييري يجعل للبنان موضوعا خاصا به، فللاستعمار وجود مضاعف في لبنان وهو تركيز السلطة بيد ساسة من فئة شعبية مرتبطة بأجمعها مع الاستعمار، بعكس الوضع في البلاد الاسلامية الاخرى حيث ان السلطة موجودة بأيدي عملاء ولا علاقة للفئات الشعبية بالاستعمار سوى التأثير الفكري العام.
ووجود الفئة الشعبية التي هي الموارنة والنصارى بصورة عامة في لبنان هو الذي يعطي طابع الازدواج الاستعماري. وان حلحة هذا الازدواج يجب ان يكون هدفا اصلاحيا مرتبطاً بالعمل الاصيل التغييري، ويجب ان ينطلق هذا الهدف من قاعدة
”الزموهم بما الزموا به انفسهم“.
وبما ان المدّعى بأن لبنان بلد ديمقراطي فيجب ان يكون الحكم فيه للاكثرية، فاذا اراد النصارى ان تبقى الاوضاع غنائم موزعة على الطوائف فأن المسلمين اكثر منهم بكثير وان كل طائفة من طائفتي المسلمين اكثر من اي طائفة مسيحية بمفردها، وقد تكون احدى الطوائف الاسلامية بمفردها اكثر من مجموع المسيحيين بمجموع طوائفهم.
واذا ارادوا ان يتخلوا عن التوزيع الطائفي فيجب ان يتحول الحكم الى حكم رئاسي بانتخاب مباشر من الشعب، ويجب ازالة الحواجز الموضوعة امام تقدم المسلمين في المراكز الحساسة في الدولة وفي المراكز الاقتصادية الاخرى وان يمنع احتكار الوظائف ذات المسؤوليات والصلاحيات لبعض الفئات من الناس.
ان الدعوة تؤيد كل عمل اصلاحي لاعادة الامور الى نصابها الصحيح، في دوائر الدولة، وفي المشاريع العامة للمناطق المهملة، وتتعاون بما يتناسب مع المرحلة لتحقيق الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وللقيام بمشاريع خاصة لخدمة الناس عامة، والمسلمين خاصة.
اما بالنسبة الى الفلسيطينيين.. فأن التعرض لهم في لبنان يعتبر جريمة سياسية كبرى، مرتبطة بمصالح الاستعمار عامة، وبمصالح اسرائيل والخطط الامريكية خاصة.