العلاقات في الدعوة والتقييم الذاتي عند الدعاة

صدر في ذي الحجة ١٣٨٣ هجري

ابتدأ سير الدعوة الظافر، وانشق درب العمل ولن يتوقف بحوله تعالى. نقول هذا مطمئنين لا رجما بالغيب وانما معرفة بالواقع.

لقد بينا بأن أفكار الدعوة الرئيسية المتعلقة بالعمل قد خططت وان أفرادا مؤمنين بالاسلام قد وعوها وساروا على هداها من اجل خدمة دين الله تعالى ونوال رضوانه. وهم يعملون في بقعة واسعة من عالمنا الاسلامي وفي اماكن مركزية منه. وقد انتج هذا انتشار التحسس بوجوب العمل من اجل الاسلام في أوساط كثيرة بشكل واسع وسريع، كان يظن الى امد قريب أن بعضها من أوساط اهل الكهف. الامر الذي يهيء للدعوة اجواء ملائمة للاستمرار بالعمل المثمر. والدعوة تعتمد على عون الله تعالى ونصرتهوَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْ‌تَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِ‌كُونَ بِي شَيْئًا ۚ. وجريا على العادة في قضايا الدعوة الداخلية رأينا ان نعالج ظواهر ظهرت بوادرها في بعض الحالات أو من المحتمل ظهورها عند الدعاة في أي وقت وهذه حالات تشبه الحالات المرضية في حياة الانسان ويمكن عرضها على الشكل التالي:

الحالة الاولى: تظهر احيانا عند الداعية حالة يؤمن فيها بقدرته وأهميته اكثر مما يؤمن بالدعوة.

الحالة الثانية: عند بعض الدعاة ايمان كامل بالدعوة وقدرتها على المهمة التي تعمل من اجلها ولكن في نفس الوقت لايثق هذا الداعية بقدرته على العمل القيادي لنقص يراه في قدرته وامكانياته فيحجم عن القيام بالاعمال التي يكلف بها تهيبا من العمل وخوفا من الفشل.

الحالة الثالثة: هناك اشخاص يؤمنون بالعمل مع الدعوة ولكن لا يؤمنون بقدرتها على انجاز المهمات التي تعمل من اجلها.

ان مثل هذه الحالات موجودة في دعوتنا وفي كل دعوة. والمهم عندنا هو معالجة المشاكل مهما صغرت ومهما كان أثرها لئلا تتحول هذه المشاكل الى قضايا مستعصية يحتاج علاجها الى عمليات معقدة، فقد يكون الفات النظر وحده كافيا لعلاج امر خاطيء عند بدء ظهوره، ولكن اذا تبلور وتركز لايكفي الفات النظر وحده.

ونرى الآن الفات النظر وحده لوجود هذه الحالات المرضية في الدعوة كاف لعلاجه وازالته. ومن المعلوم ان الحالات الثلاث تختلف في طبيعتها، وان كان هناك تشوش في فهم الدعوة وطبيعتها والعمل العام وطبيعته والاوضاع العامة المعاشة وطبيعتها، وان كان التشوش في الفهم هو (عامل مشترك في الحالات الثلاث).

ولا بد لنا ان نقول قولة صريحة لا التواء فيها، وخاصة للاشخاص الذين تظهر عندهم اعراض الحالة الاولى انه مهما بلغ الداعية من الفهم والاخلاص والعلو في المرتبة في اجهزة الدعوة. ومهما انتصرت الدعوة به، ومهما انتصر لها فأنه يبقى فردا في أمة تنهض وتنفتح فيها عبقريات جديدة باستمرار، ولا يمكنه بحال من الاحوال ان يدعي بأنه هو الدعوة فأن الدعوة مواكب ابطال وتيار افكار يتعاظم باستمرار لينصر الله وينتصر به. ولا يمثل الدعوة في الحقيقة الا افكارها المتجسدة بجهاد ابطالها مجتمعين.

فقد يغتر بعض الدعاة بما يقدمه من نشاط وما يرى من نتائج عملية لنشاطه فيظن في قرارة نفسه بأنه أصبح هو الدعوة في المجال الذي يعمل فيه ويظن بأن وجوده شخصيا شيء اساسي في نجاح الدعوة، فيؤثر هذا الفهم الناقص في سلوكه. وان اختفى هذا التأثير في جانب من جوانب سلوكه فأنه يظهر في جانب آخر.

هذا النوع من التقييم الذاتي عند الداعية يؤدي الى انحراف في السلوك. وهناك انحراف آخر في التقييم الذاتي من نوع ثاني ذي اتجاه معاكس لهذا الاتجاه وهو ما سميناه في ترتيبنا آنفا بالحالة الثانية، فالحالة الاولى انتفاخ في التقدير وهو ما شرحناه آنفا، والحالة الثانية ضمور في التقدير وسببه الشعور بالعجز الذاتي، اي ان الداعية يشعر بأنه شخصيا غير قادر على التأثير والتفكير والتنظيم، وهذا ينتج عن عدم الثقة بالنفس وعدم تفهم القضايا على حقيقتها، فلجميع الاشخاص العاملين نقاط ضعف كثيرة، ولكن هذه النقاط لا تكون عقبة في سبيل الاقدام والانتاج فليس في دعوتنا المباركة معصوم ولافيها عالم بكل الامور، فلا فرق بين الدعاة في هذه الناحية جذريا، وانما هنالك فروق كمية لا تأثير جذري لها، فهناك داعية اكثر معلومات من الآخر أو أدق أو أوسع حيلة، ولكن هذه الفروق لاتؤثر على العمل في حال من الاحوال فالداعية الذي يثق بنفسه يندفع الى العمل وينتج والذي لا يثق بنفسه يتردد ولا يقدم على العمل ولاينتج ولا اثر للمعلومات التي يمتلكها الداعية في هذا الباب، فالعمل لا يحتاج الى كل المعلومات والى الدقة المتناهية لأن الأمة الآن تعيش في مرحلة أي مقدار من المعلومات ومن الوضوح هو كاف لمواجهة الأمة في العمل لأن الناس في أمتنا في وضع فكري قلق يتأثرون بأي عرض فكري يعرض عليهم بحكمة. أما الحالة الثالثة فيمكن وصفها بالضمور في تقييم مقدرة الدعوة نفسها، فيراها الداعية المصاب بهذا النوع من الاعراض المرضية عاجزة عن تحقيق أهدافها العظمى، وهذا ناتج من عدم ادراك القيمة العملية للدعوة ولتأثير العمل الجماعي وعدم فهم لكيفية نجاح الحركات الاجتماعية فيرى نفسه واصحابه اقل من ان يحققوا الاعمال الكبيرة لقلة الامكانيات لأنه لا يعرف كيفية تأثر الجماهير بالعمل والفكر، ولا يتذكر مفاهيم الدعوة القائلة ان القوة التي ستحقق الاهداف العظمى من الامة بتوجيه وتحريك الدعوة لها وليس الدعوة بمفردها هي التي تحقق اهدافها. ونتيجة لهذا الفهم يرى نفسه عاجزا عن التأثير لمجرد انه لايلمس نتائج سريعة لعمله. ولنظره بعد هذاالى الدعوة بمنظار فردي فيراها مجموعة افراد ويتوقف عند ذلك ذهنه عن الادراك. اذ كيف تقاد امة تعد بالملايين الى افراد لا تتناسب اعدادهم مع هذه الملايين ان هذا التقييم يؤدي الى نتائج سيئة في الدعوة ويؤدي الى تقصير في العمل وفي اداء الواجبات اذ ان الايمان بتحقيق الهدف من اعظم الحوافز على العمل فاذا كان هدف من الاهداف يفقد الأمل في تحقيقه فأن السلوك اليه يصبح فاترا وقد يتوقف السير اليه.

ومن نتائج ظهور مثل هذه الحالات في الدعوة أنها تؤدي الى تحويل العلاقات في الدعوة من علاقات فكرية وتنظيمية الى علاقات شخصية فالذي يضخم من قيمة نفسه يحاول ان يلف الدعاة حوله والذي يستصغر شأن الدعوة ويقلل أهمية نفسه يصبح مستعدا لكي ينحاز الى العلاقات الشخصية.

الاصل في العلاقات بين الدعاة ان تكون فكرية وتنظيمية ولايصح الخلط بينها وبين العلاقات الشخصية. قد تكون العلاقات الشخصية سابقة على علاقات الدعوة عند بعض الدعاة وقد تكون نتيجة لعلاقات الدعوة. وهي على كل حال علاقات ثانوية وان كانت لها اهمية في تنمية علاقات الدعوة نفسها. فالسلوك الذي تريده الدعوة هو كل ما يدخل ضمن اطار تعاليم الاسلام ومفاهيمه وهو الذي يلزم ان يؤثر في العلاقات وليس العكس…