ثلاثية عن الشهادة والشهداء

(١)المصابيح

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ الَّذِينَ يَشْرُ‌ونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَ‌ةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرً‌ا عَظِيمًا ﴿٧٤﴾ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّ‌جَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَ‌بَّنَا أَخْرِ‌جْنَا مِنْ هَـٰذِهِ الْقَرْ‌يَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرً‌ا ﴿٧٥﴾ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُ‌وا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿٧٦﴾ أَلَمْ تَرَ‌ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِ‌يقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَ‌بَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْ‌تَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِ‌يبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَ‌ةُ خَيْرٌ‌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴿٧٧﴾.

(٢)لن أنصحهم ان يكفوا عن قتل الشهداء.

ها هما طفلاك الصغيران.. تلمح طيفهما يبدو ويغيب. خلال الرؤى المتماوجة التي تملأ خيالك وتملأ وعيك الساعة. وها انت مطروحا على الارض الاسمنتية المسودّة من الدماء ـ تبصرهما يمدان اليك ايديهما الصغيرة الغضة، وهما في غمرة موج عات مضيع كبير، وأنظارهما المندهشة المتوسلة تخترق صدرك كالرصاص بحثا عن حبة أمل.

يداك عاجزتان ممدودتان على الارض جنب جسدك النازف الممزق. وخيال طفليك يلح عليك. وانت تتحدث اليهما بصوت غير مسموع: ممكن يابراعم القلب الحبيبة ان اعمل شيئا لكما، ممكن ان اعيش من اجلكما، فتعيشان كما يعيش الاطفال حول آبائهم بمحبة وحنان..ولكن: أيرضيكما ياصغيريّ البريئين، ان احيا حياة أقتل فيها من الداخل كل دقيقة وكل لحظة. ان موتة واحدة كريمة استطيع ان اتجرعها، بيد اني ـ واعترف لكما ـ عاجز عن تجربة الموت المستمر والعذاب المستمر. ان آلاف الافاعي والثعابين ستظل ـ حينذاك ـ تلدغ قلبي، فاعذراني على كل حال..وهكذا وجدت نفسك مع الاختيار الاوعر: المكوث لزمن اسود لاتعلم مداه، في احواض رهيبة تمارس فيها ضد الانسان اشد الممارسات المتوحشة الدامية، في مسرحية طاغوتية يزداد فيها الدم والظلام كلما توغلت في فصولها الى الامام.

ان كل ساعة تمر بك في دهاليز التعذيب البربري تعني مزيدا من نزف الدم المتبقي في جسدك، ومزيدا من الصعقات الجنونية الضارية التي تتصدع لها الكينونة البشرية، وتتمزق انسانية الانسان.

وما كان مثل هذا الاختيار عليك بجديد. فان لك مع الاختيارات الصعبة صداقة ليست هي ابنة اليوم ـ وان كانت تلك الاختيارات اقل فتنة وابتلاء من اختيارك هذا الجديد. بيد أن من يوطن نفسه على السباحة في النهر الصغير، يتجرأ ان يعوم يوما ما في النهر الكبير.

بالامس القريب، بعد انهائك الخدمة العسكرية، رفضت العمل الوظيفي في حكومة الطواغيت بما له من ضمانات، واخترت العمل الحر البعيد عن قبضة المستكبرين، ليكون تنقلك وعملك من اجل رسالتك حرا طليقا غير مقيد ولامرئي. وهكذا كان. ولم يتوقف طموحك الى هذا الحد فكنت تحس بالضيق حتى من هذا العمل الحراذ كان يستنزف منك وقتا كبيرا رأيت من الاجدى ان تنفقه في خدمة رسالتك العظيمة وحزبك المجاهد.

وقبل الامس ـ بعد تخرجك من الكلية وانخراطك الالزامي بالخدمة العسكرية ـ رشّحت لدورة الضباط الاحتياط في الكلية الخاصة بهذا الصنف. وكنت تشعر بالضيق.. فانت لا تريد ان تغدو ضابطا في جيش ينفذ خطط الحكام المشبوهين، ولا تريد ان تتورط يوما مافي ضرب الابرياء وقتل المستضعفين.

كان السؤال يحيرك: كيف الخلاص من كلية ضباط الاحتياط؟! واهتديت الى الجواب ـ الموقف: تعمدت في يوم الامتحان بالكلية ان تجيب عن الاسئلة اجابة خاطئة، فاحشة الخطأ.. فاذا أنت في نظرهم غير صالح للعمل كضابط، وغير صالح للعمل كجندي ايضا. فكان ان نقلت جنديا عاديا أو أدنى من الجندي العادي. لقد هبطت في نظر زملائك بالكلية كثيرا بينما كنت تسمو وترتفع في ميزان الله.

ان موقفك الرجولي هذا ـ ايها الاخ الظافر ـ ممتليء بالاخلاص والجرأة وتجاوز الذات والاستهانة بكل ماعدا الهدف الرسالي الكبير.

عيبك الوحيد ـ يااخي ـ هو عيب الانسان: أن لك جسدا يشعر ويتلوى.. ويضج بحرقة الالم، وينهكه مسيل الدم.

ولولا هذا الموجود الابتلائي الضعيف لكان للانسان شأن آخر.. ولكان للبطولة معنى اعتيادي شائع، لايلفت ولايثير، بيد ان روحك كانت المنتصرة في النهاية.. وكان لجسدك الولاء والاذعان.

ألم يقدم ـ من قبلك ـ الشهيد السعيد ”ابو عصام“ جسده للسكاكين الحادة والصعقات الكهربائية الاسطورية.. من غير ان يتأوه، فيفوز جلادوه ـ وهو يقصد ـ بابتسامة تشفيّ أو زهو انتصار؟!

ألم تكل عضلات ذلك الجلاد الذي كان منهمكا بتمزيق جسد شيخ نحيل بالسياط دون أن يحظى منه بلفظة توجّع أو جزع…

فاستبد بالجلاد غيظه وتخاذله، فاذا هو يصيح بالشيخ المنهوك ان يقول: ”آه“ ليكف عن تعذيبه ويسكت؟؟ وعندها وأذكرها بخشوع اجابه الشيخ برزانة تذكرنا برزانة الجبال: ستمل وتسكت.. يا ولدي.

ان رحلة الآلام عبر الجسد الشهودي ـ وأنت أدرى أيها الشهيد ـ كثيرا ما يكون لها مذاق الحلم الغامض الذي تمتزج فيه المرارة بالامل، الاغماءة بالصحوة. ان موجا من لون آخر. ومن بحر آخر يحملك.. فاذا انت عابر المضايق والخلجان الصخرية، وواقف امام مداخل الخلود،واذا هي مفتّحة لك المداخل والابواب.

لقد كنت ياعبد الامير واحداً منا..رجلا من رجال المسيرة الاسلامية العظيمة.. فاذا انت اليوم شهيد، تتطلع الينا من علو، شاهدا علينا وعلى المسيرة الظافرة وعلى الامة.

لماذا رحلت هكذا ياعبدالامير مبكرا في الرحيل؟

اني لاسمع في صميم الحياة من يهمس بصوت عميق: أما رأيت الى الاشجار الباسقة الطويلة كيف تتعرض للقطع قبل غيرها؟ والآبار العذبة كيف تنضب مياهها قبل سواها؟

وماكنت واخوتك المجاهدون لتقتحمون هذه المسالك الطويلة الحرجة لولم تكونوا تؤمنون بقدرة رسالتكم على تحقيق الانتصار الحقيقي للانسان أشد مما كان هتلر ـ بأعلى حماساته ـ يؤمن بقدرته على انقاذ المانيا. ولان كل قطرة من قطرات دماء الشهيد الغزيرة المتوهجة تتحول الى موقظ ومحّرض في طريقنا الصعب العظيم فأني لن أنصحهم أن يكفّوا عن قتل الشهداء ليقضي الله امرا كان مفعولا، ليحى من حيّ عن بينه، ويهلك من هلك عن بيّنه.

(٣)هواجس وضرعات:

ها ان الغربال الهائل يدور..فيفوز بشرف الاستشهاد من يفوز، ويظل يكابد في وعر الطريق من يظل، وينسلّ مستخفيا في دهاليز الظلام من ينسل.

وأنا: أين تراني أستقر؟ اني لأتلفتّ تلفت الغريب الباحث عن مأوى: أتخطئني الشهادة، فأظل أئن من التنقل في المدن الاخرى حاملا جراحاتي؟ أأكتفي ـ في خبر كل شهيد ـ بما أعاني من غليان الاعماق، فأمسك بالورق والقلم حتى أهدأ وأستريح؟

أأحمل خشبتي على ظهري واطوف باحثا عمن يصلبني؟ ولكن: من قال لك انك أنت الذي ترزق نفسك الشهادة؟! ماكنت لنفسك رزاقا. ولن تكون،

ها ان الدرب امام بصرك ممتد لاحب طويل. ها (هم) اخوتك المجاهدون السائرون حفاة على نواتيء الصخور ومخشوشن الطحالب والاشواك، يسير كل منهم مرفوع الهامة مشرق الجبين. وهاهم اولاء ـ احسهّم في دمي ـ يكافحون ويجاهدون ويقتحمون ويصابرون.

واناملهم التي طالما اقتلعت الاشواك القاسية تقطر دما اشّم فيه رائحة الايمان والنبل والكرامة، واقرأ فيه آيات الغد الاخضر السعيد.

وما تدري..فلعلك اذا وّفقت لتكون اخا لاخوانك هؤلاء الابطال ان ينظر اليك الجليل عّز اسمه نظرة رحيمة، فاذا هو يرزقك، واذا هو يختارك ليكون لك شرف اللقاء بأولئك السعداء. اذن عليك ان تكافح وتكافح، ولله الفضل والمنة اولا واخيرا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اين هي انامل الرحمة، فتغمرني بالراحة الابدية وبالفرح المستديم؟ كم حننت اليها.. وكم هي مبطئة عني هذه الانامل الرحيمة. لعلها تريد ان تعلمني اكثر، وتروضني اكثر، فانا ـ يبدو ـ مازلت غضا لم أتعلم كيف المشي في طريق ذات الشوكة الرائع العظيم.. مقتفيا خطوات الرجال المبصرين الكبار من النبيين والصدّيقين والشهداء، ومن والاهم واستضاء بنورهم.

أي رب…

لاتعاملني كراشد، فانا أرتمي ـ بكل جهلي وضعفي ـ على أعتاب عظمتك، أتمرّغ في التراب، أتضور جوعا الى نفحة نور منك تفتح لي، بين عيني، عيناثالثة لولاها أظل أعمى.

أي رب…

هاهم اولاء يتصارعون: جندك الابرار حملة المشاعل، وجند ابليس المخاتل الطريد.. جند الله وجند الطاغوت. وانها لمعركة دائرة فائرة.

وان جندك في النهاية لهم المنصورون، وان جندك في الخاتمة لهم الغالبون.. فلا تحرمني ـ يا رب ـ ان التحم، بحماسة مضطرمة، بمعسكرك. ولاتسلبني ـ يا رب ـ نعمة التسليم لك والتفويض اليك في حومة الجهاد، متحررا من هواجس نفسي الدنية، وآمال دنياي الفارغة، وامنيات هواي الغريره.

اين ستسلمني نفسي اذا ألقيت اليها القياد

انت وحدك ـ يا رب ـ من يعلم اشواقي ويطلع مني على الضمير، فلا تخيب ظني، فاني بك وحدك أتحرر، وبك وحدك افوز.