أضواء على المسيرة ـ دراسة الوقت
مقدمة البحث
قدمنا البحث الاول من سلسلة أبحاث ”اضواء على المسيرة“ بعنوان الاجتماع الحزبي، وهذا البحث الثاني هو دراسة الوقت والعمل. وفي هذا البحث، تظهر ظاهرة في الكتابة جديدة لم نكن نستعملها من قبل، وهي الاستعانة بنصوص لها علاقة بالبحث تنقل نقلا كاملا من بعض الكتب المطبوعة كملحق للبحث ترقم، ونشير اليها خلال بحثنا.
مراجعة اعمال الدعوة منذ خطواتها الاولى، مهمة ضرورية لسلامة سيرنا،كما ان متابعة العمل في أي خطة توضع لتنفيذ فكرة عملية للوصول الى هدفها المعين، مهمة ضرورية ايضا. فالمراجعة والمتابعة عمليتان ضروريتان، تكمل احداهما الاخرى.
الملاحظات التي تراها امامك الآن، حدثت في اوقات متباعدة وفي اقاليم مختلفة، صدرت عن دعاة مجاهدين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا. نسجلها هنا مقدمة لدراسة موضوع نكتبه مستقلا لاول مرة، وإن كنا تدارسناه في خطوات حياتنا العملية وطبقناه بمقدار امتداد ذلك التدارس.
والموضوع باختصار: تدارس الوقت.. وتدارس العمل.. وتوزيع الوقت على العمل..واعادة الاوقات الضائعة وترتيبها لحذف الهدر في الوقت..و توزيع العمل، واعطاء الاولويات لمجموعة الاعمال، فالعمل كذا أولى من العمل كذا، والعمل كذا اولى ان يصدر عن الداعية فلان، بدلا من الداعية فلان.
ان تدارس الوقت يعني تدارس وقت جميع الدعاة.. وتدارس العمل يعني تدارس اعمال جميع الدعاة.. اللجان تفعل ذلك والدعاة يفعلون ذلك،كل في موقعه. وينبغي في توزيع الاعمال الا نعطل طاقة أي داعية بحجة عدم الخبرة لديه. ان هذه الفكرة موجودة لدى بعض اللجان وهي ”فكرة تعطيلية“. انها تعطل الطاقات
الملاحظات
-
طلبت الدعوة في اقليم من الاقاليم من الدعوة في العراق مجموعة النشرات التي صدرت عن الدعوة، من الاوراق الاولى وأعداد الدعوة الاسلامية، وصوت الدعوة. ولعل ذلك كان في ايام قريبة من المحرم الحرام سنة ١٣٩٢ هجري. وكلف احد المجاهدين بتجميع المواد.. وقبل المجاهد التكليف واعتبر الامر سهلا هينا.. ومرت الايام دون جمع المواد الفكرية المطلوبة الى ان دارت سنة كاملة.. فسئل الاخ الداعية بعد تذكيره واستجابته بسهولة: هل تتذكر متى قبلت التكليف بجمع المواد؟ فأجاب: نعم، كان ذلك قبل حوالي شهرين.
وعندما ذكر بأن ذلك كان قبل سنة كاملة منذ المحرم السابق عندما كنا في طريقنا الى كذا وكذا.. أحس هذا المجاهد بالاحباط لعدم دقته في الشعور بالوقت، واسرع في مدة وجيزة بتنفيذ الطلب. فلماذا كان ذلك الداعية، حفظه الله، وهو بالمناسبة الآن في اتون معركة شرسة يكابد العمل في جو ارهابي بشع ـ كان يعتبر الامر في متناول يده ولم يعره اهتماما كافيا، لأنه عمل سهل لايحتاج الى جهد كبير، ولأن الاعمال الاخرى التي يمارسها كثيرة، ويعطيها الاولوية في التنفيذ. والاهم من ذلك انه لم يربط في ذهنه بين العمل والوقت فبقي العمل سائبا دون تحديد وقت لتنفيذه. ولكونه عملا سهلا فلا هو منفذ ولا هو منسّي. وتأخر انجازه سنة كاملة، مع انه عندما ربط بوقت فيما بعد. لم يستغرق انجازه اكثر من اسبوعين وكانت هذه الحادثة العابرة تنبيها حساسا الى ضرورة وضع الوقت موضع دراسة جادة وشاملة. وكانت نقطة ارتفع خلالها الاهتمام اكثر فاكثر بتدارس الوقت بين لجان الدعوة.
-
كان ذلك الذي سنتحدث عنه في ايام ما يسمى بالمد الشيوعي ايام كان عبدالكريم قاسم يحكم العراق، وحيث كان الشيوعيون يمثلون كلب الحراسة لهذا الطاغوت، وكانت هوايتهم آنذاك التجسس الشرس على العاملين في الساحة، وكان الدعاة مستهدفين لمراقبتهم وكانوا يسببون مضايقات كثيرة كنا في غنى عنها.
وفي هذا الجو المحموم بالمراقبة كانت التحركات صعبة والالتزام بالمواعيد كانت له علاقة بهذا الجو التجسسي المحموم.
كان (..) رحمه الله، وهو الآن شهيد سعيد حي يرزق عند ربه من الذين وصلوا ليلهم بنهارهم في العمل للدعوة الاسلامية وكان استغراقه بالعمل يؤخره عن المواعيد التي يرتبط بها، اضافة الى استصحابه هذه العادة من محيطه الاجتماعي الذي سبق انتماءه للدعوة وهو محيط اسلامي لا يحسب فيه للوقت حساب جدّي وكان رحمه الله يتساهل في الالتزام به. وكان ينبه الى هذا النقص في مثل هذه الظروف الصعبة اضافة الى ان الموعد هو وقت يرتبط به اكثر من شخص والالتزام بالوعد والموعد التزام اسلامي. الا ان انشغاله الدائم رحمه الله كان يؤثر على ذلك.
كان الشهيد السعيد قطبا يلتف حوله قطاع كبير من المجاهدين وكل حركة يتحركها تكون درسا مؤثرا في سلوك تلاميذه، وضبط المواعيد امر مهم في حياة الدعاة. تواعد رضوان الله عليه، مع احد اخوانه.. وجاء الى الموعد وهو مكان بعيد نسبيا، يستغرق الوصول اليه وقتا وجهدا وفي موسم قائظ، وفي ظروف تجسسية صعبة. جاء الى الموعد متأخرا بضع دقائق.. الا ان صاحبه كان قد ترك مكان الموعد في الوقت المحدد بقصد التنبيه الشديد الى اهمية الالتزام الدقيق. والتقيا في مكان قريب من المكان المعين فبادر الشهيد اخاه ببشاشته الدائمة:
هل نسيت الموعد؟
لم انس.. ولكنك لم تصل في الوقت المحدد.
نعم.. ان هذا الوقت هو الوقت المحدد.. كم الساعة الآن؟
تأخرت عن الموعد خمس دقائق!
وتصاعد غضب الشهيد منبثقا من جهد العمل في الظروف الصعبة ومن تأثير قيظ الحر في ذروة موسمه.
وانتهى الامر بالتراضي والتحابب وكان درسا نافعا.
-
احد المجاهدين الكبار تراكمت الاعمال على كاهله، والزم نفسه بالعمل في اكثر من منطقة. وكان التنقل بين البلدان المتباعدة يستهلك وقتا طويلا. وقد وهب وقته جميعه، حفظه الله، للعمل الاسلامي، ومع ذلك فان اعمالاً كان يتأخر في انجازها وعند الحساب كان عند نفسه انه لا يملك اكثر من ٢٤ ساعة في اليوم وعدا اوقات النوم القليلة فأنها تصرف جميعا في اعمال الدعوة. فليس هناك اذن اي تقصير. ولكن حساب الدعوة شيء آخر. الاوقات المحددة تصرف على الاعمال الاسلامية، ولكن ليست أي اعمال اسلامية. والوقت يصرف على الاولى فالاولى في حساب دقيق وضمن جدول مضبوط.
والاعمال الزائدة عن الحساب الزمني الذي يملكه الداعية يعطى للدعاة الآخرين لانجازه.
كان المجاهد، حفظه الله، لا يعير الاولويات اهتماما مناسبا ولم يكن على ثقة تامة بأن اخوانه يمكنهم ان يتقنوا الاعمال التي هو يقوم بها، وكان بسبب ذلك ينوء باعباء ويعطل طاقات بعض الاخوة، ويقصر في انجازه بعض الاعمال التي ينبغي ان يقوم هو بها دون سواه.
ان المحاسبة داخل الدعوة تلفت الى كثير من الامور وتصحح كثيرا من الامور.
-
نظمت الدعوة اجتماعا لتدارس اوضاع العمل في اقليم يؤمل ان يكون اثره عظيما، اذا سارت فيه الدعوة سيرا حسنا، وتخلف عن الحضور البعض ولم يول الحاضرون الاجتماع ما يناسبه فلم تحصل الفائدة المرجوة من الاجتماع. وهذه ظاهرة في ذلك الاقليم وليس حادثة. وهذا الوضع كان احد المحفزات لاصدار البحث الاول في هذه السلسلة من الابحاث عن الاجتماع الحزبي.
أن وضوح ربط الوقت بالعمل، ومعرفة الاولويات، واعطاء القضايا الاهمية المناسبة، تصحح اخطاء كثيرة.
-
يتجمع بعض الدعاة في بيوت تتسع للتجمع لا بسبب حلقة أو اجتماع حزبي أو اتصال للعمل، انما لقضاء وقت ممتع بين الاخوة ولا يخرج الحديث في هذا التجمع عن اطار الدعوة، ولكنه غير مرغوب فيه، اذ ان دقائق حياة الدعوة أي دقائق حياة الدعاة أثمن من أن تصرف بدون هدف واضح، وبدون نية القربى الى الله تعالى بعمل محدد المعالم. ويحدث هذا عندما تكون اوقات الداعية متخلخلة، أي ان فراغات كثيرة تتخلل اعماله، اما لأن استقراره العملي والنفسي لم يتم بعد بسبب الهجرة والانتقال من بلد الى بلد، واما لأن اوقاته لم تقدر تقديرا حقيقيا من قبل الداعية أو التنظيم الذي يرتبط به. وظهور مثل هذا الامر يعني التقصير وعدم ادراك هذا الامر يعني القصور.
هذه الملاحظات تدور حول ضرورة دراسة الوقت والعمل الذي هو موضوع هذا البحث. ولا نعلم ان حزبا من الاحزاب المعاصرة لديه مثل هذه الدراسة، ولذلك فأن ابتكار أي دراسة اجتماعية سياسية تكون في صيغة اولية يمكن ان تتبلور بصورة افضل فيما بعد. وهذه الدراسة هي نتيجة تجربة عملية من خلال عملنا الحزبي ابتدأت في الستينات وتبلورت اكثر في السبعينات.. وها هي ذي تخرج في سنة ١٤٠٠ هجري في اواسط سنة ١٩٨٠م الى حيز التنفيذ. وكانت جولة جمادي الاولى في مناطق تعمل فيها الدعوة حافزا نهائيا لإخراج هذه الدراسة، ضمن سلسلة ابحاث بعنوان ”اضواء على المسيرة“.
فاتحة البحث
هذه آيات بينات لها علاقة بالوقت وبالعمل وارتباطهما برب العباد سبحانه وتعالى، نستفتح بها ونستهدي والله الموفق.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٢٥﴾.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴿٢٦﴾.
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ.
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ.
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴿١٠٣﴾.
الوقت
الزمن ليس امرا مطلقا وانما هو امر نسبي، فهو في حياتنا الدنيا تتابع الليل والنهار، وتتابع الشهور والفصول. تتابع يرتبط بحركة كوكبنا في مجموعته التي خلقها وقدرها الله، تبارك الله احسن الخالقين. وهو في الكواكب الاخرى من هذا الكون امر آخر يختلف عما نألفه. والزمن في كل حالاته امر من امر الله.
الوقت في الحياة الدنيا
الوقت في الحياة الدنيا هو المحيط الزمني الذي يعيش الانسان فيه وكذلك ماحوله من احياء واشياء. ويسعى الانسان في هذا المحيط الزمني في دائرتين: دائرة يسيطر عليها ودائرة تسيطر عليه. فالامور الارادية يسيطر عليها، والامور الكونية تسيطر على الانسان. فخلق الانسان امر كوني،وعمل الانسان امر ارادي.
يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى الآية الكريمة برهان فطري لتثبت الاساس الاسلامي الاولي وهو علاقة الخالق بخلقه، بالبرهان الذي يراه كل الناس وكل من يدرك: ولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل. فالحياة هي الوقت الذي يعبره الانسان، وهي الوقت الذي يعبر الانسان، أو هي الاندماج بين الانسان والوقت.. ان هذا التلازم بين الوقت والانسان يجعل الرؤية التي يتلبس بها الانسان بالنسبة الى وحدتين من وحدات الوقت ـ الليل والنهار ـ والتوالج أو التداخل بينهما أمر لاشك فيه، ولوضوحه وتكراره ربمالاينتبه اليهما الانسان، فجاءت الآية الكريمة لتنبيهه وايقاظه من غفلته عن هذا الامر الواضح بالتساؤل البسيط ”ألم تر…؟“ لتنبيهه الى البرهان الفطري. وتنتقل الآية الكريمة بعد ذلك الى مجال آخر له علاقة بتتابع الوقت أو بسبب هذا التتابع ألا وهو: جريان الشمس والقمر، فالليل والنهار لهما علاقة معينة بجريان الشمس والقمر، والوقت كما تراه الآن منوط بالاجل الذي حدده الله لهذا الجريان.
والامر الاخير في الآية: علاقة الوقت بالعمل وعلاقة الله بالانسان. بعمل الانسان في حياته هو في الدائرة التي يسيطر عليها، وقد رسمها الاسلام مسارا لأعماله، دينا يلائم الفطرة ويسعد الانسان وله الخيار في ان يطيع أو يعصي في عمله ولاجبر على ذلك وان كانت القدرة على العمل من الله تعالى، ان الله بما تعملون بصير. والقرآن الكريم يستعرض حالات شتى من حالات الوقت، فيها للوقت تبيان وللانسان موعظة، نمرّ على بعضها لتكون دليلا لمعرفة حقائق الوقت واهميته في حياتنا يقول تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴿١٢﴾١
ان تتابع الليل والنهار، وولوج الليل في النهار، افرز مفردات وقتية كثيرة، اهمها: الفجر، الصبح، الضحى، الظهر، العصر، المغرب، الغسق، العشاء، السحر. وهذه الاوقات هي حالات كونية يمر عليها الانسان ويتأثر بها شاء أم أبى ومن من بني البشر من لا يتأثر بالليل اذا يغشى والنهار اذا تجلى؟ ويذكرنا القرآن الكريم بهذه الاوقات باساليب تأخذ بمجامع القلوب لمن يفهمها ويتأمل فيها، وفي الآيات وصف دقيق لحالات الوقت.
يقول تعالى يصف الليل في حالاته المتعددة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿١﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿٢﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿٤﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿١٧﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿١٧﴾ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿٣٣﴾. وكذلك في الآيات ذكر لمفردات الوقت،نتأمل بعضها بهدوء ولا نحاول ان نعتدي الى اسرار هذا الذكر الحكيم:
كَلَّا وَالْقَمَرِ ﴿٣٢﴾ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿٣٣﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ﴿٣٤﴾
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٢٥﴾
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿١٦﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿١٧﴾
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴿١٧﴾ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴿١٨﴾
وَالْفَجْرِ ﴿١﴾ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴿٢﴾ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴿٣﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿٤﴾
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿١﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿٢﴾
وَالضُّحَىٰ ﴿١﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿٢﴾
..الخ. وفي الملاحق المرفقة بهذا البحث تفاسير لهذه الآيات مأخوذة من ”الميزان“ و“في ظلال القرآن“ لمحاولة استيعاب مفهوم الوقت (انظر الملحق رقم ٢).
تنظيم الوقت في الحياة الدنيا
ومن الواضح ان الوقت مقسم من الوجهة الفطرية للانسان الى وقت لنشاط الانسان تارة ووقت لراحته تارة اخرى.. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ﴿٨﴾ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿٩﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿١٠﴾ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴿١١﴾. لانفهم من جعل النهار معاشا في الحياة الدنيا السعي على الرزق اليومي للعائلة فقط كما يفهمه المسلمون الراكدون، لأن هذا الامر تقوم به الحيوانات والكائناتالدنيا، والانسان لم يخلق ليكون شأنه شأن الانعام.
ان النهار ميدان واسع للسعي الحياتي الاصلي، للحصول على الحياة الكريمة من توفير لقمة العيش ومتطلبات الحياة، من ملبس ومسكن وتعليم ومحافظة على سلامة الجسد، والنفس، والنوع والعرض والاسرة والمال، والمحافظة على الدين والكرامة، والحصول على الاطمئنان والامان.
الاحساس بالوقت
يتفاوت الاحساس بالوقت عند الناس، وهو امر نسبي ومعقد في هذه الحياة الدنيا، فالقلق، والاطمئنان، والاستغراق بالعمل والبطالة، والتنظيم والعشوائية في العمل، ورهافة الحس وتبلده، والتجمع بين الناس والانفراد ووو…الخ.. امور كثيرة تتشابك فتؤثر على احساس الانسان بالوقت، والتطرق الى الآداب والشعر عند مختلف الشعوب لحالات وجدانية ونفسية تصف علاقة الانسان بالوقت، كما ان النوم يوقف الاحساس بالوقت فيتدنى فيه الى شبه العدم عندما يستغرق الانسان بالنوم، وهناك حالات وصفها رب العباد في كتابه الكريم لاوضاع نومية استغرق بها اهل الكهف وغيرهم ممن ذكرهم الله تعالى. وكذلك عند الموت. وعندما تذكر الحياة يوم القيامة، يكون الاحساس بالوقت فيها كما يمر الانسان بحلم، ومن هذه الآيات:
-
ان قصة اهل الكهف قصة حركية، لو أن أحد المفكرين الدعاة يتعرض لها ويستنبط منها ما يفيد، ونحن هنا نلمح منها الى الاحساس بالوقت فحسب ليكون لنا عبرة، فمئات السنين كانت تقاس باحساسهم الخاص يوما أو بعض يوم، فتأمل.
-
وهذه قصة اخرى من معجزات الله تشير الى تدني الاحساس بالوقت وتدلنا على ان حياتنا هذه التي نحياها في هذه الحياة الدنيا هي كيوم أو بعض يوم.. فتأمل واتعظ.
-
ان الآية الكريمة تشير الى قرب يوم القيامة. فالموت عندما يعبر العصور لا يكون الوقت شيئا عند الميت. ان المسافة الزمنية بين الانسان ويوم القيامة هي المسافة بينه وبين الموت، الا الشهداء فأن الحياة عندهم تمتد عند ربهم عبر العصور، وهنيئا لهم بما عملوا. وسترى هذه الحقيقة الكونية في الآيات التالية كذلك.
-
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴿٦﴾ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿٧﴾.
الزمن في الكون
يقول تعالى: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٥٧﴾. الزمن في الكون خارج نطاق هذا الكوكب يختلف عما نعهده في حياتنا الدنيا، ولهذا الزمن حساب آخر، عند الموت ويوم البعث وفي الجنة وعند الملائكة والجن… راجع الآيات كما في النقاط (٣،٤،٥،٦) في الفقرة السابقة. وفي القرآن الكريم آيات متعددة تدل على ذلك منها:
-
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.وفي الاحاديث النبوية ما يدل على ان العالم الاخروي يختلف كليا عن العالم الدنيوي، في حديث عن الرسول:
”ان ريح الجنة لتوجد من مسيرة خمسمائة عام“.
والبحث الملحق (مع القرآن في عالمه الرحيب) يعطي فكرة نيرة عن هذا الموضوع (اقرأ الملحق رقم٤).
الوقت والانسان
للانسان كما للاشياء ابعاد مكانية، وله ابعاد عقلية ونفسية خاصة, والوقت هو كذلك بعد اصيل من ابعاد الوجود الانساني الذي ابدعه الله في هذا الكون.
-
خلق الله الانسان من تراب في ترتيب نفسي بالقياس الى الانسان لا ندرك اسراره، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴿٢٠﴾.
-
واودع الله الانسان روحا هي من امر الله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٨٥﴾.
-
وهب الله الانسان العقل وفضله على مخلوقاته: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴿٦١﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾.
-
الانسان يمر بمراحل مختلفة في حياته
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ.
علاقة الفرد الانساني بالوقت تصاحبه من لحظة تكوينه الاولى ومن خلال تطوره الفطري حسب المفهوم الزماني في الحياة الدنيا الى ان تفارق روحه جسده، وعند ذلك يرتبط بالوقت وفق مفهوم آخر. وهذه المرحلة سنة كونية كما هي سنة تشريعية، بتتابع الاديان، وكما هي سنة اجتماعية واقتصادية يحياها الانسان في هذه الحياة.
ان علاقة الانسان الفاعلة والحركية والراقية بالوقت تمتد الى آفاق نشاطه الذهني والجسدي، تمتد الى آفاق عمله وسعة ادراكه وتنظيم حياته. وتنبثق هذه العلاقة من الذات، ومن الفكر الذي يلتزم به الانسان،ومن الفكر السائد بين الجماعة التي ينتمي اليها، ومن الفكر السائد في المجتمع، ولكن هذه العلاقة ربما لا تكون فاعلة ولا حركية ولا راقية، فالعلاقة اذن بين الانسان والوقت تختلف من بيئة الى اخرى، ومن جماعة الى اخرى ومن مجتمع الى آخر، كما تختلف من شخص الى آخر.
الوقت لدى المجتمع البدائي
نريد بالمجتمع البدائي المجتمع الجاهلي الوثني الذي لم تصل اليه اي من الرسالات الالهية. ومثل هذا المجتمع موجود عند قبائل منعزلة في بعض مناطق القارة الامريكية الجنوبية، وفي بعض الجزر في المحيط الهادي، وفي بعض المناطق في القارة الافريقية. يعيش الناس في هذه المجتمعات بذهنية مسطحة لا عمق فيها، ويعتمدون على وسائل بدائية في الغالب. وابرز ما في حياة افرادها الكسل والتراخي. واهمال الوقت. وتقتصر نشاطاتهم في الحصول على القوت اليومي البسيط للمحافظة على الحياة،وعلى ما يؤدي لاستمرار النوع. وتمضي الحياة عند هؤلاء بلا جهد يبذل لغاية اجتماعية. وبلا ثمرة مرجوة لتحسين اوضاع القوم. والوقت عندهم يستهلك حياتهم بلا عمل للدنيا ينمي متعهم الدنيوية، ولا عمل للآخرة كما ارادها الله للانسان.
الوقت لدى المجتمع المادي المتخلف
المجتمع المادي المتخلف هو المجتمع الجاهلي المسيحي اليوم كما في امريكا اللاتينية وافريقيا، والمجتمع الجاهلي البوذي والهندوسي في آسيا ـ عدا اليابان، فانها جاهلية، لكنها غير متخلفة.
وهذه البلاد يعيث فيها الاستعمار ـ فسادا فوق فسادها ـ ويسيرها حسب مصالحه ينهب ثرواتها وموادها الاولية، ويستغل مواقعها الجغرافية، ويفترس جهود ابنائها.. مقابل السلع الاستهلاكية التي يصدرها اليهم.
والوقت عند هؤلاء الناس رخيص يهدر من قبل الاكثرية بالتوافه من الامور، ويصرف من قبل الحكام والمثقفين لخدمة الاستعمار ولا تجني بلادهم من وقتهم الا التبعية والخضوع.
ولا تخلو هذه البلاد من اقليات تحس بآلام نفوذ الاستعمار وتعمل لمحاربته، ولكنها تسير على غير هدى، ليس لديها هدف واضح، وانما تتفاعل مع الاحداث، وليست اعمالها الا بمستوى ردود فعل عنيفة قصيرة النفس ازاء التخطيط والمكر الاستعماري ذي النفس الطويل، يقول شاعر امريكا اللاتينية:
الوقت نهر يجرفني.. وانا النهر
انه نمر يمزقني.. وانا النمر
انه النار تأكلني.. لكني انا النار
الوقت لدى مجتمع المسلمين المتخلف
المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون يختلف عن المجتمع المادي المتخلف بما فيه من بقايا مفاهيم وعادات اسلامية، وهذا الامر يمنعنا من وصفه بالمجتمع الجاهلي، لأنه تختلط فيه المظاهر الحياتية الجاهلية بالمظاهر الحياتية الاسلامية. ولكن الوضع السياسي فيه يشابه وضع المجتمع المادي المتخلف من حيث علاقة البلاد بالاستعمار والسيطرة الاقتصادية والسياسية والفكرية.. الخ. والمظهر السياسي والتخلف في استعمال الوقت سواء في كلا المجتمعين، مع اختلاف في وجود محاولات اسلامية جادة للخروج من المأزق الاستعماري والخروج من دوامة التخلف بكل ابعادها. وهذه الدراسة محاوله لاستعمال الوقت كسلاح فعال في عملية تغيير تبدأ من طليعة الامة وتمتد الى الامة، من خلال التغيير الحضاري الذي يسري فيها بفعل الدعوة الاسلامية بصورة خاصة، والحركة الاسلامية بصورة عامة.
ان مشكله التخلف المادي تبرز بشكل واضح في التخلف التنظيمي في الاعمال، أي فن ندرة أو انعدام الاستفادة الكافية من الطاقات البشرية وفي تضييع الوقت والجهل بمعرفة التنسيق بين الطاقات البشرية، والجهل بمعرفة توزيع الاعمال وتوقيتها والاغراق في هدر الوقت والجهد والمادة.
ولابأس هنا من عرض الصور عن المجتمعات المتخلفة، كتبها كتاب وصحفيون ومفكرون لتثبيت الفكرة المختصرة التي قدمناها علما بأن منطلقات الكتّاب هؤلاء مادية ومتأثرة بالحضارة المادية المعاصرة.
-
يقول تقرير صحفي:
تبين مؤخرا ان اسرائيل بدأت منذ سنة ١٩٧٥م باعداد دراسات مفصلة عن امكانات الاسلام المعاصرة وعن احتمال تأثير هذه الامكانات على السياسة الدولية، وعن وسائل مواجهتها. وحكام اسرائيل لطبيعتهم الغربية يهتمون بالوقت ويوظفون كل دقيقة فيه، بينما العرب والمسلمون لطبيعتهم المتدينة الصابرة التي ورثوها نتيجة القلق والخوف في مختلف عهود الاستعمار لا يهتمون بالوقت ولا يشعرون بقيمته.
-
قال احد الكتاب العرب:
”ان طغيان العقلية القديمة على القطاع الريفي في عالمنا العربي جعل ما يقرب من ٨٠% من مجموع السكان يعيشون على هامش الحياة المجتمعية الفاعلة. ان انسان هذا القطاع عدا اكثرية ساحقة، وفعلا اقلية مسحوقة. انه الجائع الذي يطعم مجتمعه، والبدائي الذي يحمل بذور حضارته الاصلية، يتملكه عالمه ومحيطه، ولا يملك منهما شيئا. جذوره الارضية المحلية عميقة وقوية، واغصانه العالمية ضعيفة عارية. اما الانسان المدني فهو يمثل القلة العددية المسيطرة انه المتخم الذي لا ينتج ولا يطعم. والمتحضر بدون جذور. ثروة الدنيا ملك قانوني له. جذوره القوية تكاد تكون معدومة. انما اغصانه العالمية ـ ولا اقول الانسانية ـ مترامية الاطراف. انه كما يقول عنه البرت حوراني: الانسان الغربي يستطيع ان ينتقل من حضارة الى حضارة ويتجلبب ثوب كل منها بنفس السرعة والسهولة التي يستطيعها في تغيير ردائه برداء آخر“.
-
وقال آخر:
”لابد من صد الغزو الحضاري ويتعين التمييز بين الغزو والخضوع من حضارة لاخرى، وبين مجرد التأثير. فالمشاهد الذي لا ينكر: ان العرب يتنازلون يوما بعد يوم وتحت تأثير انفتاحهم الذي لا ضابط له على المجتمعات والحضارة الغربية عن كثير من عاداتهم وقيمهم ومميزاتهم الخاصة تحت الضغط المادي“.
-
وقال آخر:
”ان عملية تسييس وتثقيف الجماهير وتكوين ثقتها بنفسها كقوة تاريخية محركة تعتبر غاية في الاهمية والضرورة.. وهذه الجماهير المحرومة في حالات كثيرة من الحد الادنى الضروري للمعاش المادي، والخاضعة لتقلبات امزجه الموظفين البيروقراطيين الكبار والصغار المتواطئين بحدود مختلفة مع اسيادهم الحكام.. ان هذه الجماهير يمكن ان تتحول فعلا الى قوة اجتماعية هائلة اذا انصهرت في بوتقة فكروية وتنظيمية وسياسية واحدة متجانسة، تتجه باتجاه الاطاحة بالسلطة السياسية والاقتصادية الذين لا يحسون في الحقيقة بقوتهم الآن، تلك الجماهير بمنظماتها السياسية تعيش تمزقاً سياسياً وفكروياً وتنظيمياً شاملاً وعميقاً“.
-
وقال آخر:
”العوامل التي تعيق التحديث هي: سيادة العوامل التقليدية التي كانت تعيق التحديث، منها اجتماعية واقتصادية، ومنها تربوية، ومنها عقلية وهي متشابكة فيما بينها واذا اردت ان اقتصر منها على عامل واحد، اقول: انه تخلف العرب في اتباع العقلانية في تفكيرهم وتصرفهم. انني اعتقد ان العامل الاساسي في التحديث سواء في الغرب أوفي الشرق وسواء عند اليمين أو اليسار هو اعتماد العقل نهجا في محاولة فهم اسرار الطبيعة واستثمار ثروتها، وفي سبيل تنظيم الحياة الانسانية. واعداء العقل كثير، منها الوهم: اي تصور الاشياء لا كما هي، وانما كما تتخيلها. والوهم ايسر من الجهد العقلي ومن اعداء العقل، الهوى: وهو تصور الاشياء كما تشتهيها. الجهد العقلي يتطلب مراسا وتضحية، وهو في نظري الجهد الثوري المطلوب. هناك ثلاث ثوريات الاولى، هي: الثورية على النظم المختلفة الخارجية والداخلية وعلى كل نوع من انواع الحكم والاستعباد، وهذه الثورية مشتعلة الآن في البلاد العربية، وان كانت هناك محاولات رجعية تحاول ان تكافحها وتصدها. اما الثورية الثانية، فهي ثورية العقل، اي الانقلاب الفكري على كل انواع التوهم والتخيل والهوى والتقاليد التي تقف في وجه رؤية الاشياء على حقيقتها واكتساب القدرة على استثمار موارد الطبيعة. اما الثورية الثالثة فهي الثورية الاخلاقية المهملة، اي ثورية المرء على كل ما يمنعه من التعاون مع اخيه وعلى كل ما يجعله يسعى الى السيطرة والغنى والقدرة على غيره، واذا كان الانسان هو الذي يصنع العلاقة الفاعلة بين العناصر الاساسية لكل حضارة فلابد ان يكون صاحب قدرة على ذلك كلّه. وهذه القدرة ليست قدرة ذاتية شخصية، بل هي قدرة الجماعة حين تدفعها قدرة الله فلا بد اذن من عالم للاشخاص يحسن الترابط بينه والتآلف الذي يتجاوز المصلحة الذاتية الى المصلحة الاجتماعية، ولابد اذن من عالم للافكار يحسن استخدام الوسائل، ولابد اذن من عالم للأشياء يمنح الافكار ابداع ما نصنع، والانسان امنه ورفاهيته في عالم الاشخاص المترابط وفي عالم الافكار القائم على المنهج وفي عالم الاشياء المنقاد الى ما فيه ذلك الانسان المتحضر والحضارة تنسب اليه وينسب اليها“.
-
وقال آخر عن العشائرية في البلاد العربية:
”آل صباح فرعان: السالم والجابر: يصارع جابر العلي من فرع السالم الامير جابر احمد الجابر وخليفته الشيخ سعد العبد الله“.
”آل سعود فرعان: فرع يقوده الامير فهد وشقيقه سلطان وزير الدفاع وسلمان حاكم الرياض، والمجموعة الثانية: الملك خالد والامير عبدالله رئيس الحرس ولهم قوة عشائرية“.
”التكارتة يسيطر منهم صدام حسين واخوانه: برزان وسبعاوي، وخاله خير الله طلفاح وابن خاله عدنان خيرالله وقريبه سعدون شاكر“.
”وهكذا انور السادات مع انسبائه واصهاره، وحافظ الاسد مع اخيه وعشيرته، والملك حسين والشرفاء… الخ“.
-
وقال كاتب آخر يصف الاتجاه الصناعي المتخلف والمرتبط بالاستعمار في البلاد العربية:
نمط جديد للتصنيع: الصناعة العابرة.
ولننظر في مثلين من ارقى امثلة هذا التصنيع ففي السعودية مثلا طرحت شركة ماركونا الامريكية للتعدين وبناء السفن فكرة مشروع متكامل للصلب برأسمال يبلغ بليون ريـال سعودي. وكونت لتنفيذه مجموعة مالية مع عدد من الشركات الدولية تتقاسم كلها مع شركة بترومين السعودية للبترول ملكية المشروع مناصفة بينهما. واتفق على ان تقوم الناقلات العملاقة بنقل خام الحديد من البرازيل الى السعودية حيث يتم انتاج الحديد والصلب بطاقة تبلغ (٣) ملايين طنا سنويا ترتفع الى (٥) ملايين، على ان يتم تصدير الانتاج الى اوربا واليابان. ان هذا المشروع الذي يقوم على استيراد خام الحديد من البرازيل والذي يعتمد بالدرجة الاولى على استهلاك كمية كبيرة من الغاز الطبيعي يحصل عليها من السعودية التي تقدمها بالمجان للشركة عند رأس البئر مما يجعل تكلفة الصلب المنتج على هذا النحو اقل من تكلفة أي صلب في العالم.
وفي البحرين فان شركة المنيوم البحرين (البا) التي تمتلك حكومة البحرين ١٩% من رأسمالها، بينما تمتلك الباقي مصالح امريكية وبريطانية والمانية وسويدية… اعتمدت هذه الشركة على استيراد مادة الالمنيوم الخام من استراليا لتتولى تحويلها فيها بفضل الغاز الطبيعي الموجود بوفرة فيها والذي لم يكن بالوسع نقله الا بتكلفة عالية. هكذا ينتج في البحرين المنيوم نقي بهدف التصدير الى الخارج.. وبواسطة جماعة مالية سويدية وبريطانية انشأت شركة اخرى لانتاج رذاذ المنيوم بهدف التصدير لاسواق اوربا الغربية، هذا بينما تصنع منتجات المنيوم في اوربا لحساب السوق الاوربية المشتركة.
ان المشكلة الجوهرية لهذا النمط من التصنيع تكمن كما هو واضح في انه يتخذ من البلد محطة للانتاج فحسب. تستفيد ان صح التعبير من المزايا النسبية لهذا البلد وبخاصة من خاماته او طاقاته أو موقعه لانتاج منتجات معينة للتصدير للسوق العالمية، ولهذا فهو نمط للتصنيع يقيم في رأينا صناعة عابرة على غرار التجارة العابرة: تستورد اغلب عناصرها لتعيد تصديرها، وان يكن ذلك بعد ادخال قدر من التصنيع عليها. وهذا الطابع العابر هو الذي يميز اغلب معالم التصنيع الحديث للتصدير. فهو نمط يهمل عن قصد ومنذ البداية السوق المحلية من جانبيها جانب العرض اي الانتاج إذ أنه لا يعني بتحقيق أي تشابك صناعي امامي أو خلفي في الاقتصاد القطري. وجانب الطلب اي الاستهلاك، اذانه لا يأخذ بالاعتبار الطلب المحلي وحتى حينما يضعه في اعتباره فهو انما ينظر اليه نظرة قاصرة، نظرة من ناحيتين:
الناحية الاولى: انه ينظر الى النمط الحالي للطلب المحلي مغفلا بذلك الطلب الاحتمالي مستقبلا.
والناحية الثانية: انه ينظر الى الطلب المحلي القطري مغفلا بذلك الطلب المحلي العربي. بل انه ليغفل حتى جانب العرض في الاقتصاد العربي، هذا الذي صارت تتشابه الآن؟ ـ وان يكن على مستوى جديد ـ مجالات التصنيع فيه، مما يثير ظاهرة جديدة تماما وهي ظاهرة المنافسة فيما بين العرب انفسهم (الحوض الجاف) أو بعرضهم لمزيد من المخاطر في السوق العالمية (الاسمدة ـ الغاز) فالشركات متعددة الجنسية المسيطرة على هذا النمط من التصنيع انما تحاول في الواقع ان تضع البلاد العربية بذلك في حالة تعبئة هيكلية فيما بين المشروع الام والمشروعات الفرعية التي تقام في البلاد العربية، اي فيما بين الاقتصاد المركزي والاقتصادات المتخلفة، ويبدو هذا بصورة جلية عندما تجعل في البلاد العربية صناعات استخراجية أو صناعات تحويلية ذات طابع التحويل الدولي أو المقاولة الجزئية وتكون موجهة دائما نحو الخارج، مما يخضع الانتاج الصناعي العربي لاعتبارات الانتاج والتبادل الخاصة بالشركات متعددة الجنسية على المستوى العالمي. وسنعرض هنا لثلاث صناعات عربية حديثة، هي صناعة الحديد والصلب، وصناعة الالمنيوم،وصناعة السيارات، لنرى مدى ما تمثله من تنمية عربية حقيقية.
لقد ركزت كل الاقطار العربية تقريبا اهتمامها على الصناعة الثقيلة مما ينذر ـ لو بقيت الاوضاع على ماهي عليه ـ بالافراط بالانتاج في قطاع الحديد والصلب. في السعودية مثلا مشروعان للحديد والصلب، الاول مناقصة كما ذكرنا بين شركة بترومين وشركة مركونا لانتاج (٥) ملايين طن سنويا، والثاني اصغر بين بترومين واحتكار استراليا. وفي العراق يعد لمشروع بطاقة انتاجية (١٫٦) مليون طن سنويا، وفي مصر: مجمع حلوان الذي ارتفعت انتاجيته من (٠٫٣) مليون طن الى (١٫٦) مليون طن سنويا، ويطمح ان يزيد الى (٢٫٨) مليون في عام ١٩٧٨م. وفي سوريا يتعاقد على مشروع لآلمانيا الغربية. وتعد الجزائر لزيادة انتاجها من ٤ مليون طن الى ٦ مليون طن في ١٩٨٠م. وتسعى تونس السعي نفسه. هذا بينما تقيم قطر مصنعا متكاملا للصلب مع شركتين يابانيتين على اساس طاقة تبلغ (٤٠٠) الف طن لا تستهلك منها سوى (٧٥) الف طن. وتشير كل التقديرات الى انه مع ذلك لن تزيد الطاقة العربية بأسرها من الحديد والصلب في عام ١٩٨٥م عن (٢٥) مليون طن وهو انتاج يمكن استيعاب اغلبه في البلاد العربية نفسها اذا نظر اليها مجتمعة لا منفردة، لكن من الصعب تصدير الباقي نظرا لأن صناعة الصلب العالمية منظمة على اساس خطوط وطنية مع مساهمة ضخمة في العادة من قبل الدولة، ولأنها تعاني هبوط الطلب عليها منذ سنوات وبخاصة في عام ١٩٧٥م.
اما مشكلة السوق لصناعة الالمنيوم فاخطر بكثير، فهنالك الآن مشروعان كبيران للالمنيوم، احدهما يعمل في البحرين كما ذكرنا، والآخر بدأ الانتاج في مصر. وهناك على الاقل مشروع ثالث مقترح أو بديء بتنفيذه في مصر ودبي أو قطر او السعودية بنصف طاقة مشروع البحرين.. والمشكلة هنا في ان الالمنيوم على عكس الصلب قطاع بالغ التدويل. والمشروعان القائمان ينتجان للتصدير سواء الى البلاد العربية او الى السوق العالمية وتشكو صناعة الالمنيوم على المستوى الدولي من فائض في طاقة صهر الالمنيوم مما ادى الى اغلاق عدد من المصانع في البلدان الرأسمالية.
أما صناعة السيارات فشأنها اخطر واخطر.. فقد جرى تزيينها في عيون بلدان العالم الثالث بوصفها صناعة حاسمة في عملية التنمية نظرا لكمية العمل نصف الماهر الذي تستوعبه، ولأهمية الانشطة الجانبية التي تولدها. وبعد ان تأثرت هذه الصناعة خاصة بالازمة الاقتصادية في عام ١٩٦٩م وتأثرت بارتفاع اسعار البترول من عام ١٩٧٣م، واصبح من المتوقع قيام عصر السيارات التي تسير بطاقة جديدة غير البترول بعد انتهاء عصر الطاقة الرخيصة، هرعت شركات صناعة السيارات الى اقطار عربية لتقيم فيها مصانع السيارات.
والواقع انه يوجد بالفعل قطاع لصناعة السيارات، هو في الحقيقة قطاع لتجميع السيارات. في مصر مثلا توجد النصر لصناعة السيارات، ومنذ اعلانهم سياسة الانفتاح وهناك مشروعات على اساس المشاركة قدمتها كبرى شركات صناعة السيارات في امريكا وبريطانيا، في مقدمتها جنرال موتورز وفورد وانترناشينال وليلاند. وفي السعودية مشروع مشترك مع جنرال موتورز التي تسيطر على ٦٠% من رأسماله لانتاج ٧٨٠٠ سيارة أو حافلة ولوري خفيف, ومشروع مشترك آخر مع شركة نيسان لانتاج يبلغ ٢٢ الف سيارة نقل. اما شركة بيجو الفرنسية فكانت تواجه منافسة من شركات اخرى ولاسيما جنرال موتورز وفولكسفاجن وكرايزلر. فهي تركز على سوريا والجزائر حيث اتفقتا في صيف ١٩٧٥م لاقامة مصنع لتجميع السيارات بطاقة انتاج تبلغ ١٥ الف سيارة. وفي المغرب وتونس توجد انشطة لتجميع سيارات رينو وفيات. وعلى الرغم من الازمات المالية التي تعرضت لها شركات صناعة السيارات العالمية مثل بيجو وليلاند وحتى فيات ومرسيدس، فان الصناعة التي تشملها مازالت صناعة تجميع. ولقد اعلن وزير الصناعة العراقي في العام قبل الماضي ان هذه الشركة غير مستعدة لمنح امتياز تجميع سياراتها وتصنيعها الا بنسبة تتراوح بين ١٥% و٣٠% ويبقى بعد ذلك كله ان نتساءل مرة اخرى عن مدى ما تحققه هذه الصناعات من تنمية حقيقية.
ان اقامة مجموعة من الصناعات حتى لو كانت متقدمة ولكنها محكومة باستراتيجية، ولم تتخذ من داخل البلد العربي، لا تعبر الاعن امكانية قيام صناعة تتوطن في ارضه، وقد تساهم في تنمية الناتج الصناعي وتطوير العمالة الصناعية ولكن مثل هذه الصناعة العابرة لا تساهم من خلال حياتها في انجاز أهداف التنمية العربية وحتى الآن فلم تفلح التنمية الصناعية في اقامة قطاعات صناعية تتوازن فيها الاهمية النسبية لبناء الصناعات الاستهلاكية والصناعات الانتاجية، بل لقد ادت بالعكس الى اقامة قطاعات صناعية ترتفع فيها الاهمية النسبية لناتج الصناعات الاستهلاكية أو الى اقامة صناعات تركز انتاجها في حلقة أو اكثر من حلقات انتاج سلعة واحدة أو عدد صغير من السلع اغلبها سلع بسيطة لا تكتمل نهائيا الافي الخارج أو الى نشوء نظام متكامل من الخدمات الاساسية حول صناعة استخراج البترول يكون من شأنه تسهيل وضع البترول تحت تصرف السوق العالمية وفي جميع الحالات. فلقد اتسمت هذه الصناعة الجديدة بأمرين: ارتفاع تكاليف الانشاء والتشغيل والنقل وارتفاع نسبة الطاقة الانتاجية العاطلة.
هذه النماذج المختلفة عن المجتمع المتخلف في العالم الاسلامي والعربي خاصة تعطي صورة كما يراها المفكرون في العالم العربي وفي الاطلاع عليها فائدة ان شاء الله.
الوقت لدى المجتمع الحضاري المادي:
المجتمع الحضاري المادي هو المجتمع الجاهلي المادي في الدول الصناعية في اوربا وامريكا، اليابان واسرائيل، رأسماليين وشيوعيين. والناس في هذا المجتمع اندفعوا نحو الاستفادة من الوقت في الحصول على السلع والمتع الجسدية بأوسع نطاق. ونمت عندهم الاشياء بما لم يسبق له مثيل في التاريخ الانساني. فلا يمر يوم لديهم الا ويزداد انتاج السلع البسيطة والمعقدة، من وسائل الرفاهية الى اسلحة الدمار والحرب، ويتميز المجتمع الشيوعي بالمركزية والمجتمع الرأسمالي بالانطلاق الفردي، وكلاهما يعمل في اتجاه واحد. وتبرز الحياة المادية في المجتمع الرأسمالي اكثر منها في المجتمع الشيوعي في مجالات الترف واللهو والركض وراء السلع والانتاج والربح والسيطرة من خلال التخطيط والمفاهيم الاجتماعية السائدة.
ولكي تتضح الفكرة اكثر سنختار بعض المقاطع التي تصور بعض مظاهر هذا المجتمع الجاهلي:
-
قالت مجلة حيروت اليهودية في ٢٨ شباط ١٩٥٥م:
ان البلاد الواقعة على سواحل البحر الاحمر غنية بالكنوز وبالمواد الخام، وان البلاد الافريقية هناك في حاجة الى اسواق والى وسيط لتسويق موادها الخام. ونحن نملك اليوم اسطولاً بحريا فخما قوامه (٥٠٠) باخرة تعمل في كافة موانيء العالم، وسير تفع عددها في سنة ١٩٥٦م الى اكثر من ذلك، وان من شأن أساطيلنا البحرية والحربية ان تحطم الحصار العربي المفروض علينا، وان تفرض هذه الاساطيل بدورها على بعض الدول العربية بشكل اقوى مما فرضوه علينا، وان من شأن هذه الاساطيل ايضا ان تحول البحر الاحمر الى بحيرة يهودية.
-
ويقول احد الكتاب الشيوعيين الروس:
الزمن الذي ينقضي بين اكتشاف رئيسي وبين تطبيقاته العملية على نطاق واسع يتقاصر بنسبة كبيرة، فلقد احتاج التصوير الشمسي الى (١١٢) سنة، والهاتف الى (٥٦) سنة، بينما كانت خمسة اعوام كافية لتعميم الترانزيستور.
مسألة فلسفية: كان انجلس يقول ان على المادية ان تغير من صورتها كلما ظهر اكتشاف رئيسي ظاهر الأثر في تاريخ العلوم. وقد بذل لينين جهودا جبارة، ليتمثل فيزياء عصره. ونحن الآن في حاجة الى بذل مجهود اكبر بلا حدود لنستطيع الارتفاع بالفلسفة الماركسية الى المستوى الراهن لتطور العلوم.
مسألة سياسية: ان هذا التزايد الرهيب في السلطان التقني على الطبيعة يضع بين يدي قبضة من الناس قدرا من المعارف ومن التنظيم يمنحهم سلطانا يثير الفزع، وهذا الحافز من السلطة التقنوية بين القادة والجماهير هو القاعدة في نظام الاحتكارات حيث تكون مركزة ادوات الانتاج قضية طبقية. ولكن حين تختلف الظروف اختلافا جذريا وبالاخذ بالاشتراكية يخلق هذا الوضع عوائق موضوعية تجعل من العسير تحقيق ديمقراطية اشتراكية فعلية.
مسألة تربوية: اذا كان مجموع المعارف قد تضاعف في مدى ثمانية اعوام أو عشرة فليس يكفي ان نضيف فصلا جديدا الى برامج سنوات الدراسة النهائية لنستطيع اعطاء الطلاب صورة للمعارف الجديدة، ولو كانت صورة اجمالية، بل ان البرامج نفسها اصبحت في حاجة الى ان يعاد النظر فيها بمجموعها. كما ان مسألة الثقافة خارج المدرسة تطرح طرحاً عاجلاً وجديداً.
قضايا التخطيط هي الآن اعقد كثيرا جدا مما كانت قبل اربعين بل قبل عشرين سنة.
في الاتحاد السوفياتي مثلا كانت مسألة التخطيط في البداية قضية خلق الاسس التقنية والاقتصادية للاشتراكية. كان هناك أولا تخلف عن البلدان الرأسمالية يجب تعويضه اي ان للخطة هدفا واساليب ووسائل كانت ـ ان صح القول ـ مرسومة على شكل سلبي مفرغ كقالب التمثال فيما سبق للدول المصنعة ان حققته من تقدم.
-
الهدف: خلق وسائل الدفاع وامكانيات الاستهلاك.
-
الوسيلة: اعطاء الاولوية المطلقة للصناعة الثقيلة ولانتاج ادوات الانتاج بغية تلبية متطلبات الدفاع والاستهلاك المقبل.
في النظام الرأسمالي ليس من المستطاع ان يقاد الاقتصاد قيادة واعية، اقصى ما في الامكان ان يستطاع لبعض التدخل توجيه الاقتصاد لا نحو غاية واحدة بل نحو غايات مختلفة، لأن مصالح الفئات الرأسمالية الكبرى هي في الاغلب متعارضة، هي التي توجه الاستثمارات بحيث تكون للخطة محصلة لنسبة القوى بين الفئات المتعارضة.
-
-
وقال احد الكتاب الشيوعيين:
ان اكثر الناس افاضة في الحديث عن محبة الله ومحبة القريبين قد اتخذوا غالبا من ذلك احبولة كاذبة يديمون بها نظاما اجتماعيا قانونه هو نقيض المحبة، وهو الاضطهاد المستمر للعامل وافساد كل العواطف الانسانية بحكم سنة النظام.
-
وقال احد الفلاسفة الرأسماليين قبل انتصار الشيوعية في روسيا:
الثورة العمالية لو حدثت لكانت كارثة، وانتصار الطبقة العمالية هو انتصار العبودية، وعلة ذلك ان الطبقة العاملة ليست هي الجزء الاقوى او الافضل من المجتمع ككل. وفضلا عن ذلك فهي تفتقر الى حب السيطرة على الدولة لأنها لا تملك العتاد المادي والذهني اللازم للتفوق الحقيقي… وعلى ذلك ففكرة الحكم البروليتاري هي فكرة مناقضة لذاتها، والبروليتاريا عاجزة عن الاحتفاظ بأي نوع من التفوق، وسرعان ما ستنتقم منها الطبقة الحاكمة القديمة وتقيم دكتاتورية مبنية على العنف.
ان الثورة الطاغية تؤدي دائما الى الدكتاتورية، التي تضع نفسها فوق المجتمع وتعلن نفسها سلطة مستقلة عن الدولة وتستولي على حقوق الدولة، وتتخذ مظهرها وقداستها فتكون هذه نهاية الثورة الاجتماعية.
لقد ادى عصر المنافسة الوحشية الذي اعقبته عملية اندماج بين اصحاب الاعمال الى الالقاء بكميات هائلة من الثروة في ايدي عدد صغير من اقطاب الصناعة، ونظرا الى ان اي ترف في الحياة تستطيع هذه الطبقة تحقيقة كان يظل عاجزا عن مجاراة زيادة دخلها فقد حدثت عملية ادخار على نطاق لم يسبق له نظير. وساعد استثمار هذه المدخرات في صناعات اخرى على وضع هذه الصناعات في قبضة نفس القوى المركزة في مرحلة المنافسة الحرة بين المنتجين وهي المرحلة السابقة على تجمعهم واندماجهم.
كانت الحالة المترقبة هي حالة انتاج فائض بحيث ان كل المصانع لم تكن تستطيع ان تظل تعمل الا بخفض الاسعار الى الحد الذي يضطر فيه المنافسون الاضعف الى اغلاق ابواب مصانعهم، لانهم لا يستطيعون بيع منتجاتهم باسعار تغطي التكلفة الحقيقية للانتاج. قد اكد المفكرون الايدلوجيون للاشتراكية الوطنية ان الجماعة التي يخضع لها الفرد خضوعا تاما تشكل حقيقة طبيعية يربط بين عناصرها الدم والارض ولا تخضع لمعايير او قيم عقلية.
-
قالت كاتبة فرنسية تهرب من الحضارة المادية المعاشة:
لم اعد استطيع الاستمرار في العمل، ولم اعد استطيع تحمل المكاتب والاوراق والارشيفات واركض وراء الوقت والتوقف لحظة آخر الشهر لقبض الراتب ثم العودة الى الركض والعمل مع الذين يصدرون الاوامر. ومع الذين يتلقونها. ومعنى العمل نفسه لم تعد له اهمية.. لماذا كل هذه الاوراق التي لا يقرأها احد؟ وحتى اذا قرأها احد لماذا هذه الثقافة التي تبعد عن الجوهر ولا تصل الى شيء؟ ولماذا انا في هذه الآلة الكبيرة؟ والى متى؟ ثم اني ما عدت احتمل صفوف السيارات الطويلة عند الضوء الاحمر.. اصبحت اصاب بما يشبه الدوران. اصبح رفضي للعمل وللمدينة رفضا جسديا خارجا حتى عن ارادتي.
ومع ان الحضارة الصناعية التي يحلم شبان آيار (مايو) ١٩٦٨م بسقوطها الوشيك لم تسقط، فهي دخلت منذ العام ١٩٧٣م في اعمق ازمة اقتصادية وبنيوية تشهدها منذ نصف قرن: اهتزاز نظام النقد، تدهور قيمة العملات، جمود النمو، قلق على مصادر الطاقة لامثيل له، انفصال المدرسة والثقافة عن الحياة الانتاجية وهذه الموجة العارمة من البطالة التي وصلت بعد سبع سنوات من الازمة الى عشرين مليون شخص في البلدان الصناعية وها هي هواجس الحروب ترتسم في الافق، لكن الاختلالات الاقتصادية التي طرأت على بنية العالم لم ترافقها ديناميكة تغييرية، وعلى العكس من ذلك تماما: ففي الوقت الذي تهاوى الايمان المطلق بالتطور تهاوت ايضا الايمانات التغييرية، وتداعى الاعتقاد بقدرة الايديولوجيات الثورية على احداث التحول الجذري في الحضارة وفي الحياة، وخفت بريق السياسة.
ان الثورات التي تألقت حولها احلام الشبيبة الغربية منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن ومنذ بداية القرن والتي التهبت مشاعر الرافضين الغربيين في انتظار تحقيقها هنا وهناك في آسيا وامريكا اللاتينية واوروبا.. لم تحمل ذلك التحول الجذري الموعود. ولم تستطع اي من هذه الثورات ان ترتفع في افق العالم كمثال لحلم التغيير.
-
قال احد الكتاب الشيوعيين الروس:
مدينة السيارات: اتخذت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ومجلس الوزراء في الاتحاد السوفيتي بتاريخ ٢٠ تموز (يوليو) عام ١٩٦٦م قرارا ببناء مصنع ضخم للسيارات في مدينة تولياتي. وكان ينبغي ان تتجسد فيه كل منجزات صناعة السيارات الحديثة في العالم. وكان على خبراء اربعين مؤسسة تخطيط سوفيتية ان يقوموا بحل هذه المهمة بالتعاون مع شركة فيات الايطالية وفي كانون الثاني يناير عام ١٩٦٧م دوى انفجار رفع كتلا من التراب المتجمد في سهل مغطى بالثلج على ساحل كويبيشف وبدأ بناء مصنع السيارات على ضفاف الفولغا بسرعة تشبه الانفجار حقا. وساهمت كافة الجمهوريات بقسطها في بناء المصنع، فلقد حملت من آلما ـ آنا المعدات الكهربائية، ومن يديفان المضخات ومن لفوف سيارات التحميل. وبعثت البلاد الى ساحة البناء هذه المعدات التكنيكية المعاصرة الجبارة مئتي بولدوزر واكثر من مئة حفارة وما يزيد عن الفي سيارة شحن.
هذه النماذج المختلفة تعطي صورة عن اوضاع المجتمعات المادية الحضارية السائدة، وفي الاطلاع عليها فائدة.
الانسان المسلم والوقت
القسم بالوقت
في القرآن الكريم مجموعة من الآيات يقسم الله تعالى فيها بمفردات الوقت، يقول تعالى:
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿١٦﴾ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ﴿١٧﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴿١٨﴾.
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴿١﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴿٢﴾.
وَالضُّحَىٰ ﴿١﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ﴿٢﴾.
وَالْعَصْرِ ﴿١﴾ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾.
ماذا نفهم من هذا القسم الذي يتكرر في القرآن الكريم؟
القرآن كلام الله.. الاشارة فيه دليل… والامر والنهي فيه حكم واضح لا مفر من الالتزام بهما، والافان الجحيم هي المأوى.
ماذا نفهم من هذا القسم الذي يتكرر في القرآن الكريم والذي تشير اليه الآية الكريمة ”هل في ذلك قسم لذي حجر“
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿٣﴾
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴿١٧﴾؟
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ..
هل ان قسم الله تعالى بمفردات الوقت من الآيات المحكمات، أم من الآيات المتشابهات؟ ما في القرآن من آية الا ولها ظهر وبطن، وما فيها من حرف الاّ وله حّد.ولكل حد مطلع، ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه مالم يكن بعد. يجري كما تجري الشمس والقمر.
وتعلموا كتاب الله تبارك وتعالى فأنه أحسن الحديث وأبلغ الموعظة وتفقهوا فيه. فأنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره، فأنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته، فأنه أحسن القصص.. واذا قريء عليكم القرآن فاستمعوا له وانصتوا، لعلكم ترحمون. واذا اهتديتم لعلمه فاعملوا كما علمتم، لعلكم تفلحون.
ان قسم الله تعالى بالوقت وتكراره يدل على امور: منها ان الآيات التي تسند بعضها لازالة اللبس والابهام تدل على اهمية الوقت وعلى اهمية مفرداته التي وردت في القرآن الكريم. وتكرار القسم بالوقت يدل كذلك على ان الوقت بالنسبة الى الانسان ذو اهمية كبرى، وان الله تعالى يشير الينا بقسمه سبحانه بالوقت من اجل ان نتجه الى احترام الوقت الذي هو وعاء اعمالنا في تقربنا منه تعالى.
توقيت اعمال ثابته ودائمة:
في الاسلام احكام كثيرة مؤقته وثابتة التوقيت يلزم الاسلام المكلفين بادائها وبتفصيلاتها الواضحة، فللصلاة والصيام والحج اوقات معلومة وثابتة، وكتب الفقه توضح تفاصيل هذه الاحكام، وهذه الاحكام تستند الى الآيات والاحاديث وهذا بعضها:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ.
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴿١٠٣﴾.
ان التوقيت في حياة الانسان أمر سار عليه الاسلام من خلال التوقيت الثابت لكثير من الواجبات ولكثير من المستحبات… فللاشهر اعمال، وللايام اعمال، ولمفردات الوقت اعمال.
”تقدموا بالدعاء قبل نزول البلاء، فأنه تفتح السماء في ستة مواقف: عند نزول الغيث، وعند الزحف، وعند قراءة الاذان، وعند قراءة القرآن، ومع زوال الشمس، وعند طلوع الفجر“.
التوقيت امر ثابت:
اذا استعرضنا بعض الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة نجد ان التوقيت امر اساسي. واهتمام القرآن بذكره يدل على ان المسلم عليه ان يلتزم به التزاما يؤدي الى تحويل حياة المسلم الى فعاليات دائمة مدروسة ومخططة ومؤقتة.
ولنستعرض بعض الآيات القرآنية التي تؤقت الاعمال:
فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ.
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴿٣٨﴾.
وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴿٤١﴾.
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴿٣٦﴾.
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا.
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴿٨١﴾.
الايام العظيمة:
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
الايام تقارن بالافعال، فالايام العظيمة هي الايام التي كانت أو تكون وعاءا زمنيا لاعمال عظيمة، والايام الحقيرة المنحطة هي الايام التي كانت أو تكون وعاءا زمنيا لاعمال حقيرة منحطة.
فأيام بدر، والخندق، وأحد، وفتح مكة، وايام بيعة العقبة الاولى، وبيعة العقبة الثانية، وايام الجهاد الاسلامي المرير في مكة، وايام القادسية واليرموك وحطين، وايام فتح القسطنيطينية والاندلس وبلاد الهند.. كلها ايام عظيمة.
وايام انحطاط المسلمين، وانكساراتهم، وخلافاتهم، وخذلانهم لأنفسهم، وايام استخلاف يزيد بن معاوية والخلفاء الفسقة، وايام حكم العملاء وتسلطهم على رقاب المسلمين.. كلها ايام مخذولة.
وفي الايام ما يرتفع قدرها الى ان تكون من ايام الله وذكرهم بأيام الله. ومن الليالي ما يرتفع قدرها الى ان تساوي عشرات الآلاف من الليالي الاخرى (رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل. حرس ليلة في سبيل الله افضل من الف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها).
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴿٣﴾ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴿٤﴾ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴿٥﴾… ولأهمية هذه الليلة الحقنا بهذا البحث تفسيرا كاملا لآياتها، لعل ذلك يفيد فكرة عند قراءتها (اقرأ الملحق رقم ٢)
ان الساعات التي نحياها يمكن ان تتحول باعمالنا التي هي من هدى الله عزوجل الى ايام لله عند الله وعند الناس، ويمكن ان تتحول الى ايام أوساعات أوليالي تساوي عند الله اضعاف اضعافها. فأن اعمالا يقوم بها الانسان تحبط جميع اعماله، وان اعمالا يقوم بها الانسان تحول سيئاته الى حسنات، وان اعمالا اخرى تأخذ حجمها الطبيعي ان خيرا وان شرا.
فبشرى لكم ايها الدعاة المخلصون بثواب الله ـ ان الاعمال العظيمة التي يقوم بها الدعاة ويلاقون الاذى في سبيلها ستؤدي الى ذهاب السيئات التي صادفتها حياتهم.
بشرى لكم ايها الدعاة المخلصون عباد الرحمن بغفران الله ورحمته بتبديل الله سيئاتكم حسنات.
وبالمقابل فان اعمالاً تحبط الاعمال جميعها، نعوذ بالله من ذلك.
بشرى لكم أيها الدعاة الآمرون بالقسط فأن مأوى اعدائكم النار.. وما لهم من ناصرين.
الكرام الكاتبون:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴿١٢﴾.
في رواية أن الملكين الموكلين يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر، فاذا هبطا صعد الملكان الموكلان بالليل. فاذا غربت الشمس نزل اليه الموكلان بكتابة الليل ويصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه الى الله عزوجل.. فلا يزال ذلك دأبهم الى وقت حضور أجله، فاذا حضر أجله قالاللرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنا خيرا، فكم من عمل صالح أريتناه، وكم من قول حسن أسمعتناه، وكم من مجلس خير أحضرتناه، فنحن اليوم على ماتحبه وشفعاء الى ربك. وان كان عاصيا قالاله: جزاك الله من صاحب عنا شرا، فلقد كنت تؤذينا: فكم من عمل سيء أريتناه، وكم من قول سىء أسمعتناه، وكم من مجلس سوء أحضرتناه،ونحن اليوم لك على ماتكره وشهيدان عند ربك.
مااروع هذا الترتيب لضبط جماح النفس الامارة بالسوء، وما اروع هذا الحافز الذي يحفز الدعاة الى الله لجعل ميزان اعمالهم ثقيلا:
قال رسول الله ﷺ:
من سّره ان يلقى الله عزوجل يوم القيامة وفي صحيفته شهادة ان لااله الا الله واني رسول الله وتفتح له ابواب الجنة الثمانية، ويقال له: ياوليّ الله ادخل من ايها شئت فليقل اذا اصبح: الحمد لله الذي اذهب الليل بقدرته وجاء بالنهار برحمته خلقا جديدا، مرحبا بالحافظين وحيّاهما الله من كاتبين، ويلتفت عن يمينه. ويلتفت عن شماله ويقول: اكتبا باسم الله الرحمن الرحيم اني اشهد ان لا اله الا الله وحده لاشريك له وان محمدا عبده ورسوله واشهد ان الساعة آتية لاريب فيهاوان الله يبعث من في القبور، على ذلك احيا وعليه اموت وعلى ذلك ابعث ان شاء الله. اللهم أقريء محمدا وآله مني السلام.
انها الصلة المباشرة يوميا برب العباد وملائكته ورسوله وآله. انها المعايشة الكاملة التي تبدأ يوميا عندما يصبح الانسان برحمة من الله وعند ذلك يكون الانسان حريصا على ان يملأ وقته بعمل الخير، لتكون علاقته بالكرام الكاتبين صحبة حسنة، وعلاقته بربه ونبيه واسلامه علاقة ترضي رب العباد.
ان هذا التنظيم الالهي الذي يربط الكرام الكاتبين بالانسان لهو حافز دائم لتوجيه كل ذرة من ذرات عمل الانسان.. وكل آن من وقته الوجهة الصحيحة المثمرة.
نتيجة:
ان علاقة المسلم بالوقت تجري بمقتضى مجرى القرآن والاسلام.
فالقسم الذي يكرره الله بالوقت وتوقيت الاحكام الثابته والاحكام المتغيرة، وايام الله، وتسجيل اعمال الانسان في ليله ونهاره، كلها تعطي مفهوما واضحا للوقت وكيفية استخدامه. وعلى الدعاة ان يتأملوا هذا الامر بعمق، وان يستوعبوه بمقدار ماتنفتح عقولهم ونفوسهم لذلك. وعلى القادرين على اغناء هذا الموضوع بالشرح والتوضيح أو بالتعمق والتوسع ان يستعينوا بالله لاتمام مانبدأ به، ومن الله العون والتوفيق.
الوقت والداعية:
عنصران ضروريان من مرتكزات الشخصية الاسلامية القيادية نحتاجهما للتغيير، انهماصفتان من صفات من يعمل لتغيير نفسه في مسيرة الخير من اجل الانتقال.. الانتقال من عالم انحط فيه المسلمون، الى عالم يسوده الاسلام.
اولهما: التألق الفكري في عالم الفكر يبرز فيما يبرز فيه ادراك دقائق الفكر الاسلامي، والاهتداء الى مفاهيم الاسلام المهجورة،والتعمق في فهم الحياة التي تحيط بعملنا.
ثانيهما: المسارعة الى الخير في التزام التطبيق العملي للمفاهيم الاسلامية الخيرة على وقائع الحياة المختلفة.
وفي ذلك يكون الداعية يسير في طليعة المسلمين يقودهم للعودة الى الاسلام بمفاهيمه والتزاماته. ولكن هل ان الدعاة جميعا يمثلون هذه الطليعة؟ وهل هذه الصفات يتصف بها جميعهم؟
التألق الفكري في عالم الخير صفة تنتقل من داعية لآخر دون عوائق لأن مسرى التفكير عند الدعاة واحد، ويتقاربون في نظرتهم الى الاشياء والاحداث بصورة عامة وتتطابق اهتماماتهم الحياتية. والمسارعة الى الخير تنبثق من الايمان المغروس في اعماق الداعية. وبالنتيجة فان الصفتين موجودتان عند الدعاة،و كذلك بقية الصفات التغييرية التي هي من مرتكزات الشخصية الاسلامية، ولكن قدلاترى بعض هذه الصفات واضحة تماما عند البعض: فقد تحجب عن الرؤية نتيجة عارض نفسي، أو تختفي لفترة تطول أو تقصر. ان امورا تؤثر على مسيرة الداعية تخبو من خلالها الحيوية في المساهمة بعملية التغيير الاجتماعي، وتتراخى من خلالها الرابطة المتينة التي تربط الدعاة بعضهم بالبعض الآخر، والتي تربط الدعاة بالعمل.
ومن الناحية التنظيمية هناك أمران يؤثران في هذا المجال:
الاول:
النظرة الفوقية للعمل الاسلامي التي تتميز بالعناية بالشكل اكثر مما تعني بالمضمون فينصرف الاهتمام الى النظام واللجان والمواقع والمراكز والاشخاص، فيحجب هذا الاهتمام الداعية عن العمل الحقيقي للاسلام. وعندما ينغمس الداعية في هذا الاتجاه تختفي مرتكزات الشخصية الدعوتية عنده، أو يفقد بعضها بالتدريج ويفقد الحس التمييزي في معرفة أولويات العمل تبعا للظروف المكانية والزمانية، وتبعا للاشخاص. فالعمل داخل الدعوة يقوم به من يعمل فعلا ويكون ذلك تعيناً وليس تعيينا. هذا مادرجنا عليه في تاريخنا العملي، وهو جزء من أعرافنا الحزبية، ولامبرر لتغيير عرف صحيح. ويدرك هذا من لايحجبه الشكل عن المضمون.
والثاني:
النظرة الافقية للعمل.. التي ترى الاشخاص وتركز عليهم، ولاترى الاعمال، وترى نقاط الضعف في الدعوة ولاترى نقاط القوة، وترى الاخطاء ولاترى المنجزات. والنظرة هذه تتجه الى الخلف اكثر مما تتجه الى الامام. والخط العملي للدعوة الذي نراه الآن شامخا في اقاليم اسلامية واصبح ظاهرة اسلامية تشق طريقها الى عقول وافئدة المسلمين هذا الخط كان خطا مرسوما وحّوله المجاهدون السائرون فيه الى حياة وحركة ارعبت المستعمرين وعملاءهم، حّوله المجاهدون الذين يعملون بصمت وينظرون الى الامام بثقة، ويبذلون ماوسعهم في سبيل الله. المجاهدون الذين يعملون في المجتمع كما يحرث الانسان الارض. ويقلبون الامور كما يقلب الحارث التراب ليحول الجدب الى خصب ويحول العمل الى ثمر. وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴿٣١﴾ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨﴾.
ان علاقة الداعية بالوقت عملية معقدة مركبة من جوانب،
اولها: ان يتحول وقت الداعية، كل وقته الى عمل في الخط الاسلامي.
وثانيها: ان تتحول هذه العملية الى تيار بين المسلمين.
ان الوقت الذي تحول الى ارخص الامور في حياة الركود التي يحياها المسلمون سيعود بفعل الدعاة الى مجده الذي وضعه الله تعالى فيه,عندما اقسم سبحانه به. ان العودة الى الاستفادة من الوقت بكل الطاقات سيسري في الامة كما سرت بعض المفاهيم الحيوية بفعل الدعوة، وكما تسري الحرارة في المادة.
من سّن سنة حسنةكان له أجرها، وأجر من عمل بها.
والفقرات التالية هي فقرات عملية للتطبيق وهي لب الموضوع فيما يختص بالوقت وما تقدم من فقرات في المقدمة وفاتحة البحث، والوقت، والاحساس بالوقت، والانسان والوقت.. الخ انما هي لابراز قيمة الوقت عند الله وعند الانسان، وعلاقة الوقت والانسان بهذا الكون وارتباطهم بالله تعالى وعلاقة الوقت بالانسان المعاصر في مختلف اوضاعه الحضارية.. انما هي لتثبيت مفهوم الوقت عند الداعية واعطاء هذا المفهوم الاهمية التي يستحقها.
“ المؤمن مشغول وقته“:
لم يمارس الدعاة جميعهم دراسة الوقت. والذين مارسوا دراسته لم يطبقوه تطبيقا واسعا على ساعات ليلهم ونهارهم، وهذا امر ينبغي ان نتجاوزه، لأننا مسؤولون عن عمرنا فيما افنيناه. وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ.
قال: لاتنس صحتك وقوتك وفراغك ونشاطك وشبابك ان تطلب بها الآخرة.
والمحاسبة داخل الدعوة تضم بين جوانبها دراسة الوقت، فمن حاسب نفسه وحاسب اخاه يعرف ذلك. وهذه المحاسبة يجب ان يتسع نطاقها داخل الدعوة لتفجير طاقات الدعاة والامة والاستفادة من الوقت بأقصى المستطاع فمن المصلحة العليا للأمة والدعوة، لكي يكون حسابنا يسيرا يوم الحساب العسير الذي سيتعرض له الانسان فيما بعد من رب العباد الذي لاتخفى عليه خافية مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٧﴾.
ان دراسة الوقت لها علاقة بأشياء كثيرة ومعقدة، فالدراسة تختلف باختلاف الدعاة وعمل كل منهم، وبامكانياته الفكرية والجسدية وارتباطاته المعيشية لعمله أوعائلته، وبارتباطاته الاجتماعية وصحته في تحمل الاعباء، ومقدار مايمكن ان يتحمله من اعباء وتكاليف لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ.
فمن الدعاة من هو متفرغ للعمل أو لجزء من العمل باختصاص معين ومن هو شبه متفرغ للعمل أو لجزء من العمل باختصاص معين ومن هو شبه متفرغ كأن يعمل في عمل لايأخذ جهدا كبيرا منه ويقضي جل اوقاته للدعوة، وما تتطلبه من اعمال تناسبه. ومنهم من يعمل بوظيفة أو بعمل مجهد أو غير مجهد. ومنهم المهاجر المستقر، والمهاجر غير المستقر، ومنهم من يقيم في بيئة صالحة للعمل مع الجماهير، أوفي بيئة غير صالحة للعمل مع الجاهير لسبب أولآخر، فيكون الداعية في هذه البيئة وكأنه شبه سجين. ومن الدعاة من هو مختف عن اعين السلطة فلايستطيع الحركة الاقليلا، ومنهم من هو معتقل أوسجين. ولكل واحد من هذه النماذج حالة خاصة يدرس وقته حسب الظرف الموضوعي الذي يحيط به.
ولاجل استيعاب موضوع دراسة الوقت من الافضل ان نتساءل:
ما المقصود بدراسة الوقت؟ ولماذا هذه الدراسة؟ ومتى تكون هذه الدراسة؟ ثم كيف ندرس الوقت وكيف يهدر الوقت؟
ما المقصود بدراسة الوقت؟
ينبغي ان يدرس الداعية وقته ووقت اخيه، من خلال اللجان والحلقات، فتدرس اللجان المسؤولة وقت افرادها، ويتسع نطاق الدراسة لتشمل جميع الحلقات، فتتم دراسة اوقات جميع الدعاة. وعندما يكون الداعية وحده في بلدة أو مدينة أوقرية فأنه يدرس وقت نفسه. ودراسة الوقت تعني معرفة وقت الداعية كيف يفنيه بالتفصيل؟ وهل ان الوقت مليء بالعمل؟ وهل في وقته فجوات كثيرة؟ وهل عمله الذي يتوزع على وقته عمل مثمر أو ان بعضه عمل غير مناسب أو ان جميع اعماله المثمرة مناسبة؟ فقد يقوم الداعية بعمل مثمر ولكن يمكن ان يستبدل به عملا آخر له أولوية ومردود افضل، والعمل الذي يقوم به يمكن ان يقوم به آخر، ويتفرغ هو لعمل اهم وأجدى، فتتوزع الاعمال بحيث تؤدى بتكامل وتغطي مساحة كبيرة من الاعمال. ودراسة الوقت تعني ارتباط الوقت بالعمل على ان تشمل جميع الاوقات المتاحة للعمل عند الداعية وارتباط العمل بالله تعالى، بأوامره ونواهيه قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٥﴾.
لماذا ندرس الوقت؟
يمكن ان نفهم اتجاه الاسلام في سعة اهتمامه بالوقت من دقة الحساب على العمل في الآية الكريمة فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾. وهذا الاتجاه يخالف تماما ماعليه المسلمون اليوم بصورة عامة، ولو فكرنا تفكيرا احصائيا بالاوقات التي تأكل حياة المسلمين وتذهب هباء بلا فائدة ولانتيجة مرجوة لدنياهم وأخراهم لوجدنا ملايين الملايين وما لايحصى من الساعات تستهلك باللهو والكسل وعدم المبالاة، والتوافه والاعمال المكروهة والمحرمة وهذا احد المظاهر البارزة للانحطاط العام الذي يلف بلاد المسلمين من اقصاها الى اقصاها.
هذه الحالة البائسة.. الاتستحق الدراسة؟ واهم ما في الدراسة ان نعرف من أين نبدأ.
ندرس الوقت للاهداف التالية:
-
ليمتليء وقت الداعية بالعمل المثمر المناسب كما امر الله تعالى وليكون ميزانه ثقيلا عند الله في يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش.
-
لتوسيع دائرة نفوذ العمل الاسلامي بين افراد الامة الاسلامية وتعميقه في مقومات المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون.
-
وليكون ذلك سنة حسنة متبعة في العالم الاسلامي نكون فيه طليعة المسلمين في استخدام الوقت للنهوض بالمسلمين من كبوتهم عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿٥﴾ يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿١٣ اما ماقدمه الانسان فهو ماعمله في حياته، واما الذي أخره فهو ما سنه في حياته فاقتدي به بعد وفاته
متى يبدأ الداعية دراسة الوقت؟
آيات بينات تبين فيما تبين الاساس الحضاري الاسلامي: علاقة الله عزوجل بالكون والحياة والانسان، وتبين المنطلق الحضاري الاسلامي وعلاقة الانسان بالله رب العالمين، وتبين اصول حضارتنا الاسلامية.
الاستشهاد بالآيات المترابطة له علاقة بالتساؤل: متى تبدأ؟ فأن عمل كل خير من بدئه الى انتهائه سوف تقرأه بالكتاب الذي تلقاه منشورا. فتأمل.
ابتداء دراسة الوقت والاستمرار فيها تعتمد على أمور منها:
-
ممارسة دراسة الوقت تحتاج الى قناعة كاملة بأهمية الوقت وضرورة استخدامه كاملا في سبيل الله. وعندما تبدأ هذه القناعة يكون الوقت قد حان لدراسة الوقت عند الدعاة في كل مكان فيه دعوة سواء أكان مكانا سارت فيه الدعوة اشواطا واسعة أو في مكان ابتدأت الدعوة فيه حديثا. وهناك اماكن فيها دعاة وليس فيها دعوة، وتكون دراسة الوقت لتحويل وقت الداعية وجعله ملائما لايجاد دعوة أو لتنمية الدعاة والدعوة في اماكن تواجدها.
-
عندما يرى الداعية لسبب أو لآخر صعوبة في التنفيذ الكامل عليه أن يدخل تعديلا على الدراسة ليكون الدخول الى الحيوية الكاملة في الحياة مرنا. وعلى الداعية في هذه الحالة ان يعطي جسده وذهنه فترات راحة اكبر، ويكون ذلك في مدّ وجزر تبعا للحالة النفسية والصحية التي تحيط به
”ولاتبغض الى نفسك عبادة الله“
لان الذي نحتاجه ليس الدراسة لذاتها وانما لنكوّن طريقا اوسع للعمل الاسلامي وان تملأ الحيوية جوانب العمل في جميع الاوقات.
-
قد تأخذ الانسان الغفلة في بعض الاحيان عن الالتزام الذي يلزم به الداعية نفسه بتطوع أو تكليف. والانتباه الى هذه الغفلة هو اتباع الحسنة السيئة لتمحوها. والغفلة مسرب من مسارب الشيطان للدخول الى رحاب النفوس المؤمنة. والاستسلام لهذه الغفلة هو تمكين للشيطان من النفس
-
الالتزام بملء اوقات المؤمن بالعمل الصالح امر صعب مستصعب. ومن ينتصر على نفسه فيلتزم يكن من الذين انعم الله عليهم من فضله، وهو دليل الحيوية الفائقة في هذه الحياة.
-
الحيوية أو الطاقة الحركية عند الانسان مرتبطة بالامل. والداعية يحيا في رحاب الامل بالله، وينطلق من منطلق حضاري رحب لاينقطع معينه، ولا تنفد مفرداته لتملأ آفاق النفس الانسانية في جميع جوانبها.
كيفية دراسة الوقت؟
عن رسول الله ﷺ:
”لايزال الشيطان هائبا لابن آدم، ذعرا منه ماصلى الصلوات الخمس لوقتهن. فاذا ضيعهن اجترأ عليه فادخله في العظائم“.
بني الاسلام بناءا محكما للاحاطة بحياة الانسان وتنظيمها تنظيما شاملا دقيقا، ومن ذلك ان محطات رئيسية لحياة الانسان تكون مصدراً حيويا للتنبيه المؤقت يؤثر تأثيرا مباشرا في نفسه، ينبهه الى انه يسير على الخط السليم ومن اهم هذه المحطات الصلاة اليومية علامة المؤمن التي تنهاه عن الفشحاء والمنكر. انها عمليه توقيت رائعة يتذكر الانسان من خلالها بصورة اكيدة ودائمة وعلى احسن وجه صلته بربه على مدار ساعات حياته، بفترات زمنية مؤقتة توقيتا يسيطر على ساعات اليوم من الفجر الى العشاء والى الثلث الاخير من الليل القريب من الفجر.
ان اهتمام الاسلام بتوقيت الاعمال والوقت أمر أوضحناه في الفقرات السابقة. وسيكون واضحا في الملاحق الملحقة بهذا البحث اقرأ الملحق رقم (٤). وان أهمال هذا الاتجاه الاسلامي لاحترام الوقت والتوقيت واضح كذلك في حياة المسلمين اليوم نجد ذلك في ضخامة عدد المسلمين وتفاهة قيمتهم، وقلة انتاجهم، وهوانهم في هذه الدنيا وابتعادهم عن الاسلام بعدا كبيرا، جهلا وكسلا وقلة ايمان ووقوعا تحت تأثير الفكر المادي، وخضوعا سياسيا واقتصاديا لسيطرة الكفار.
في الساحة الاسلامية مفهومان للالتزام بالاسلام: مفهوم راكد ومفهوم حركي. المفهوم الراكد: هو المفهوم السائد بين المسلمين الذي ورثناه من عهود الانحطاط الاسلامي في القرون الاخيرة التي اتاحت للكفار السيطرة على بلاد المسلمين. والذي زاد في ركود هذا المفهوم: الغزوة الفكرية الشرسة المادية الكافرة التي أثرت بصورة كلية على اكثر السياسيين والمثقفين في البلاد الاسلامية، وأثرت بصورة عامة على جميع المسلمين في العالم حتى اصبحت النظرة الفكرية الاسلامية النقية نادرة، ولكن رحمة الله ساقت دعاة الاسلام الى اعادة النقاء الفكري الاسلامي الى اوساط الامة مرة اخرى. وهذا هو الذي يمثل المفهوم الحركي للاسلام، وهو مفهوم عملي يهدف الى تثبيت العقيدة والالتزام الكامل بالاحكام. واعادة الاسلام الى الحياة كتيار حضاري يندفع من خلاله المسلمون الى نشره بكل ابعاده لدحر الحضارة المادية السائدة في عالم اليوم.
ان هذا المفهوم الحركي للاسلام الذي يلتزم به الدعاة الى الله بثقة عالية بالله سبحانه فلا يستوحشون من طريق الهدى لقلة من يغشاه سيكون نبراسا للخروج من الاوضاع المظلمة التي يعيشها المسلمون الى نورالاسلام، يعتمد فيه الدعاة على هداية الله وتوفيقه، وكفرهم بالطاغوت، وايمانهم بالله سبحانه واستمساكهم بالعروة الوثقى لاانفصام لها، وطلبهم منه سبحانه بافراغ الصبر عليهم وتثبيت اقدامهم واظهار الحيوية الدائمة على نشاطاتهم بمسارعتهم الى الخير أينما كان وفي كل الظروف الصعبة التي تحيط بهم.
ان اعطاء الوقت اهميته الصحيحة وربطه بالعمل الصالح احد الامور المهمة في اصلاح المسلمين وتغيير اوضاعهم
”خير العلم ما نفع وخير الهدى ما اتبع“.
التعامل مع الوقت لايخرج عن ثلاث حالات:
الحالة الايجابية:
وهي حالة الاستفادة من الوقت بحيوية وملئه بالعمل الصالح بعد دراسة وتخطيط.
الحالة الفطرية:
وهي حالة اعطاء الجسد من الوقت ما يستحق من الراحة للقيام بنشاطه واسترجاع قدرته على الحركة والفعالية.
الحالة السلبية:
وهي اهمال التخطيط للوقت وترك علاقة الانسان بالوقت سائبة بلا ضوابط دائمة.
ان دراسة الوقت تعني بالنسبة للدعاة اضعاف الجانب السلبي وانهاء وجوده في حياة الداعية بالمران في المرحلة الاولى والتصميم وعدم الغفلة بالمرحلة الثانية، اي اخضاع الحالة الفطرية الى الدراسة والتخطيط لمليء الفجوات فيها بما يرضي الله تعالى. والاسلام نبّه الى هذا الموضوع بصورة تفصيلية وستأتي الاشارة الى ذلك ان شاء الله تعالى.
ان الانسان المادي المتحضر ينظر الى الوقت نظرة ايجابية ولكنه من خلال ذلك يعطي التفاهات الحياتية قسطا عظيما من حياته باطلاق العنان لشهوات النفس والجسد.وان هذا الموضوع بالذات هو عامل من اهم العوامل التي تميز الحضارة الاسلامية التي يستعمل فيها المسلم علاقته بالوقت بايجابية عن الحضارة المادية المعاصرة التي انبثقت من اوربا وسادت عالم اليوم.
الحالة الايجابية:
يقول الامام علي عليه السلام:
”من أمضى يومه من غير حق قضاه أو فرض ادّاه أو مجد بناه أو حمد حصله أو خير اسسه أو علم اقتبسه فقدعقّ يومه“.
الاستفادة من الوقت بكفاءة وحيوية أمر من الامور التي تكون هدفا يعمل لتحقيقه جميع الدعاة ان شاء الله. ونستعرض افكارا تساعد على ذلك ولنا في قول الامام خير موجّه:
-
تحيط بالانسان البيئة الاجتماعية من جميع جوانبه كما يحيط الماء بالسمك. وللبيئة الاجتماعية مفاهيم يراها الانسان ويسمعها حية في بيته ومقر عمله وفي الاوساط الثقافية والسياسية، وفي المسجد والسوق، وعند الاهل والعشيرة، والاصدقاء والمعارف، وتواجه هذه المفاهيم الداعية انىّ اتجه. ويشكل هذا المحيط بمفاهيمه الراكدة عبئا على اكتاف الداعية، ليؤثر عليه ويشكل عقبات تكبر أو تصغر. ولكثرة تعايش الداعية مع هذه المفاهيم وباستمرار وتكرارها على ذهنه ومسامعه قديتأثر بها لونا من التأثر وهذا امر لايتساهل الداعية فيه مع نفسه أو مع اخيه ذلك ان عمله هو التأثير على البيئة الاجتماعية وعلى افرادها وليس التأثر بها فالمفهوم الحركي هو الذي يغزو المفهوم الراكد،وليس العكس تَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ.
وعلى الداعية اثناء عمله في بث المفاهيم التغييرية ان يكون في انتباه ويقظة دائمة، وان يكون ذا لياقة اجتماعية بحيث لاينعزل عن بيئته في عملية احباط مفعول المفاهيم الراكدة فيها اذ ان الانسان حريص على البقاء فيما تعود عليه.
-
فكر الدعوة ليس نظريا، ومفاهيمنا ليست ترفا عقليا.
اننا امة من الناس يرتبط ايماننا بالعمل الصالح دائما. ولذا فأن المفاهيم المطروحة تتحول الى عمل، وتجتازعملية نقل المفهوم الى عمل ثلاثة مراحل: نؤمن بصحة المفهوم بعد ادراكه ادراكا واضحا وعندها يتحول الى عمل. وعندما نصل مثلا الى ان الوقت ذو أهمية خاصة عند الله والقرآن والاسلام فلا نتردد بتحويل هذه الحقيقة الى عمل الى سلوك يومي نسلكه. ويظهر ذلك فنعرفه في أنفسنا ويعرفه الناس حولنا سلوكا وحركة وفكرا نبثه لنغير به الآخرين، وبذلك نكون صادقين مع انفسنا ومع الناس: اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴿١١٩﴾.
-
عمل الدعاة كعمل الانبياء عليهم السلام: عمل دائم بلا كلل ولاملل وعمل شاق في طريق شاق. وان الديمومة والمشقة في العمل تحتاج الى همم عليا والى ايمان وصبر وان المهام الملقاة على عواتق الدعاة لهي من سنخ المهام التي كان الانبياء يقومون بها.
والوقت كله عندئذ، وبما يستطيع الانسان يكون لله تعالى:
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦٢﴾.
-
دراسة الوقت تعني فيما تعني معرفة مفردات الوقت. وقت العمل يقرر على حدة ويؤقت بمجموعات تتناسب مع مفردات العمل المرتبطة بهذه الاوقات. بعض الاعمال تستغرق وقتا اكثر مما يستغرقه عمل آخر، فمثلا وقت الدراسة يستغرق وقتا اكثر من وقت المطالعة. وقت الدراسة والتأمل يستغرق وقتا اكثر من وقت الكتابة لأن الكتابة هي نتيجة الدراسة وحصيلتها، الحلقة الخاصة تستغرق عادة وقتا اكبر من وقت الحلقة المفتوحة، ايجاد صلة بالناس داخل المسجد يستغرق بصورة عامة وقتا اقل منها خارجه وهكذا… والمعرفة التفصيلية للوقت تعتمد على وحدة زمنية معينة، فقد تعتمد على اليوم أوعلى الاسبوع، أوعلى نصف الشهر أو على الشهر وذلك تبعا لتنوع عمل الداعية.
فالداعية الذي يتكرر عمله يوميا بتطابق تقريبي يعتبر اليوم وحدة زمنية يخضعها للدراسة. مثلا يصادف ان يكون الداعية متخصصا لتدريس عدد من الحلقات الخاصة والحلقات العامة المفتوحة باعداد متشابهة يوميا، فوقته يستغرق التحضير للحلقات والتنقل لتدريسها، ويقوم ببقية الاوقات بمطالعة ودراسة واتصالات بأوقات متشابهة تتكرر يوميا. أو يصادف ان داعية متفرغ للمطالعة والدراسة والكتابة ويقوم باعمال محددة ويتكرر ذلك يوميا، أو يصادف ان داعية يقيم في قرية صغيرة، نشاطه فيها محدد بحدود ضيقة، ويقضي نشاطاته يوميا بتشابه كبير. ويصادف ان يكون داعية خصص وقته للعمل في مدينة ضمن روتين نشيط يتكرر يوميا، وهكذا… والداعية الذي يتنوع عمله من يوم لآخر. وتتكرر اعماله بتطابق تقريبي اسبوعيا، يمكنه اتخاذ الاسبوع وحدة زمنية للدراسة. ان اتخاذ الاسبوع كوحدة زمنية هو الانسب بالنسبة الى غالبية الدعاة. وكذلك في الحالات التي يتجدد نوع العمل فيها من اسبوع لاسبوع بعكس اتخاذ نصف الشهر أو الشهر وحدة لدراسة الوقت.. وعلى كل حال فأن هذه الدراسة تحتاج الى اعادة نظر بين فترة واخرى لتبقى الاوقات مملوءة بأعمال ونشاطات واساليب تنبض بالحيوية والنمو.
-
يستعرض الداعية عدد الساعات واوقاتها في اليوم أو في الايام على مدار الاسبوع أو اي وحدة زمنية يختارها كما اوضحناه في الفقرة السابقة بترتيب واضح، فاذا كانت الوحدة الزمنية هي اليوم يأخذ الداعية الساعات الخارجة عن ساعات السعي في متطلبات الحياة المعاشية والتي يمكنه ان يهبها خالصة لله تعالى، فيرتبها ترتيبا عموديا أو ترتيبا افقيا. ويوزع الاعمال الاسلامية على الاوقات المحددة كل عمل بمايناسبه من وقت وعند ذلك يجد الداعية اما ان يكون لديه تطابق في العمل والوقت واما ان يكون الوقت فائضا عن العمل، أو ان يحتاج العمل الى وقت اكبر مما لديه. ولكل من هذه الحالات حل مناسب ينبع من الدراسة نفسها.
في حالة التطابق بين الوقت والعمل تأتي الدراسة لتضع أولويات التوزيع في العمل وانسجام العمل مع الوقت من النواحي المختلفة، من ناحية القرب والبعد المكاني، ومن ناحية الانسجام مع الاوضاع الاجتماعية والعرفية في مكان العمل ومن ناحية تناسب الوقت مع الاطراف الاخرى… الخ.
ومن خلال هذه الدراسة قد يجد الداعية ان لديه وفرا في الوقت يمكن ان يخصصه لعمل آخر، يزيد فيه من ثقل ميزانه يوم القيامة ويؤنس فيه الكرام الكاتبين الذين يصحبونه في الليل أو في النهار.
وفي حالة زيادة الوقت عن العمل يستعين الداعية بالمشرف عليه في تعيين اعمال يقوم بها في الاوقات الفائضة. وفي حالة عدم كفاية الوقت للاعمال التي كلفته بها الدعوة أو كلف بها نفسه يدرس الاولويات في العمل ليختار الاولى فالاولى. ويحاول الداعية خفض اوقات الراحة لقضاء بعض الاعمال ويتوزع العمل الباقي على غيره من الدعاة. وان كانت الوحدة الزمنية اسبوعا أو اكثر تسجل الساعات لكل يوم من الايام وتنظم الايام بالتوالي فتكون ساعات يوم الجمعة ثم ساعات يوم السبت ويوم الاحد… الخ. وتوزع الاعمال على الساعات في كل يوم, وتكرر الدراسة لايام الاسبوع بالاسلوب السابق. (انظر الملحق رقم ١).
-
يحدث بين فترة واخرى ان تزداد اعباء العمل على احد الدعاة بحيث تحتاج اعماله الى وقت اكثر من الاعتيادي كأن يتطلب العمل الاسلامي اعمالا مكثفة في وقت محدد من احد الدعاة أو ان تضاف لظرف معين اعمال جديدة لداعية مملوء وقته بالعمل وفي هذه الحالة يضغط الداعية وقت راحته الى الحد الادنى ويحمل نفسه اقصى جهد ممكن فينقص من ساعات النوم ويلغي اوقات الاكل ويحولها الى وقت اكل مع عمل وهكذا. وطبعا مثل هذا الامر لايكون الامؤقتاً حيث ان للجسد حقا يأخذه فاذا منع استرده على شكل آخر، كأن يتوعك الداعية أو يمرض اذا الح على جسده بالتعب المتواصل.
-
في الاوضاع الاعتيادية يملك الداعية حرية الاختيار للاعمال التي تناسب الدعوة، واوضاع الداعية الخاصة التي ينبغي ان تملأ وقته، ولكن هناك اوضاع غير اعتيادية تصادف الداعية تضيق فيها سبل الاختيار وتتحدد، وامثلة ذلك:
-
أ. الداعية السجين في زنزانة منفردة لايحصل فيها على قرآن يتلوه يعيش منفردا تحت ضغوط نفسيه وجسدية بالغة الصعوبة يتجاوزها الداعية بالاستعانة بالله وبعبادته: يقيم صلاته الواجبة وضعفها صلاة النوافل واضعافها صلاة التطوع.. يطيل السجود.. يكثر من الدعاء.. يستغرق في ذلك.. وينقطع الى الله القاهر فوق عباده.. عالم الغيب والشهادة.. الرحمن الرحيم.. يتأمل الداعية في زنزانته الضيقة في خلق الله الرحيب ويفكر في اوضاع العالم وصراعاته واوضاع المسلمين في الدرك الاسفل في السلّم الدولي في هذا العالم، واوضاع الدعوة بتنظيمها وواقعها واهدافها.
-
ب. السجين في السجون الاعتيادية وله حرية القراءة، وقد يكون لديه حرية الكتابة ويكون في وضع افضل من سجن الزنزانة. ويمكن ان يزيد اعماله بالقيام بدراسات مختلفة قرآنية واسلامية أو غير ذلك مما يتاح له، فقد ألف سيد قطب رحمه الله كثيرا من كتاب ”في ظلال القرآن“ في السجن، وقد ألف الشهيد الاول رحمه الله كتاب ”اللمعة الدمشقية“ في سجن دمشق ايام دولة المماليك.
-
ج. ويملك من الوقت افضل منهما الداعية المختفي عن اعين السلطة، ويكون عنده حرية الدراسة مفتوحة في موضوع من المواضيع الفكرية والعملية، اسلامية وسياسية وتنظيمية وعامة. وتكون له فرص الانتقال الخفي لانجاز اعماله التنظيمية المنوطة به.
-
د. وشبيه بالداعية المختفي في بعض النواحي الداعية المنقطع عن العمل بسبب الهجرة الاضطرارية في مكان لادعوة فيه ولاامكانية لاقامة دعوة فيه، بسبب حواجز الغربة والتقيّة, وبسبب اوضاع المسلمين الذين يتجلببون بجلباب الاقليمية والعرقية والمذهبية ويمكن مثل هذا الداعية ان يختص بموضوع يتعمق فيه وان يقوم ببعض الدراسات وكتابتها مما يفيد الدعوة والامة، ككتابة تقرير سياسي شهري أو اسبوعي عن وضع سياسي معين عالمي أو اسلامي وان يحاول ان ينشر بعض تقاريره في مجلة أو جريدة علنية، أو ان يكتبه بصورة صريحة ويبعثه للدعوة لنشره كما ويمكنه ايجاد علاقات عامة تستفيد منها الدعوة في فترة من الفترات.
-
-
في الاماكن التي يتجمع فيها الدعاة بسبب الهجرة الاضطرارية، وفي وضع تضيق به آفاق العمل بسبب الغربة وضيق المكان والطاقات المتجمعة بحالة تكدس.. في مثل هذه الاماكن تتعقد امور التنظيم ودراسة الوقت لوفرة الطاقات والوقت وشحة مجالات العمل في الوقت نفسه. وفتح مجالات الانطلاق في مثل هذا الوضع يحتاج الى عدة امور منها:
-
أ. فتح مسارب عمل للدعاة تستوعب جميع الطاقات.
-
ب. تنسيق دقيق بين الطاقات لكي لاتصطدم الاعمال بعضها مع بعض.
-
ج. وضع اولويات للعمل وفرز الاعمال البسيطة المتيسرة والاعمال التي تحتاج الى جهد ودراسة.
واول امر يمكن ان تفكر فيه الدعوة هو تنظيم الدعاة في حلقات مهما يكن مستوى الدعاة فيها، حتى ولو كان الدعاة قد استوعبوا فكر الدعوة بالتفصيل ويكون واجب الحلقات فكريا وعمليا، اسلاميا وتنظيميا وسياسيا وعسكريا… الخ.
وثاني الامور ان تصدر مجموعة من الدعاة نشرة محلية تحتوي على تقارير سياسية مفصلة، وتحتوي على فكر الدعوة بصورة عامة ويمكن ان تتطور النشرة بمقدار ما يبذل لها من جهد. وهذا العمل يحتاج الى طاقات متعددة، والى جهد جاد ومنتظم.
وثالثها: تؤلف لجنة امنية لمراقبة عيون السلطة المعادية التي تستهدف محاربة الدعوة.
ورابعها: يتغلغل الدعاة في المجتمع من بيئة فيها نقاط التقاء يمكن من خلالها ان تؤثر الدعوة في البيئة الجديدة.
وخامسها: تهتم الدعوة بتنمية اختصاصات الدعوة بالمواضيع التي يحتاجها العمل الآن وفي المستقبل.
وسادسها: تهتم الدعوة ان تكون الروح المعنوية لدى الدعاة عالية وان لايتسرب الى الدعاة روح الملل والتردد والتراجع والنقد الهدام.
وتقوم الدعوة بانشاء تنظيم مناسب يتدارس هذه الامور وغيرها من الامور لفتح مسارب العمل لكي تنطلق الطاقات وتسير الدعوة من خلالها الى الامام في تلك المنطقة.
-
-
في المعسكر تتجمع الطاقات البشرية لغرض معين، اذا لم يدرس الوقت فيها بتمعن وشمول واذا لم يملأ الوقت بكفاءة واذا لم تتجدد دراسته بين فترة واخرى يتحول الى عامل معيق ومثبط فاذا لم يكن الوقت معك فهو عليك.
نعمل لنملأ الوقت بما هو مفيد وبما هو مقبول ومستساغ ثم نعمل لان يكون الوقت عامل بناء فعال للشخصية، وان تكون الاعمال فيه مرغوبة ومنشطة للذهن والنفس والجسد والايتحول المعسكر الى مكان ممل من تتابع الساعات والايام في محيط جغرافي ضيق، والى ضجر من اعمال المفروض فيها ان تدخل الطمأنينة في النفس والاندفاع في العمل. المعسكر الذي ينتظم لمدة قليلة لاتحدث فيه مشاكل الملل والضجر، فالبرنامج المضغوط الذي يستفيد من جميع الاوقات في اعمال مناسبة ينقضي أمده بسرعة فيساهم في تجديد حيوية الاعضاء المشاركين. ولكن اذا كان الوقت المخصص للعمل في المعسكر طويلا فأن التكرار يحدث شيئا من الملل لبعض الاعضاء: وتلافيا لمثل هذا الاشكال يمكن ان تتجدد دراسة الوقت والعمل في المعسكر، ويتغير فيه ترتيب بعض الاعمال ويتجدد بعضها الآخر وتنظم بحيث تسري الحيوية في المعسكر على مدار الايام. ان التنظيم الداخلي في المعسكر والعلاقات بين افراده والاعمال التي تقام فيه كاطار للعمل التدريبي امر متعارف عليه في الاوساط الحزبية وهو برمته مأخوذ من المفاهيم الحضارية السائدة أو متأثر بها الى حد بعيد. وينبغي ان تعطي تجربتنا تصورا جديدا للاعمال والعلاقات في المعسكر لاننا نواة حضارة اخرى غير الحضارة السائدة وسلوكنا الحياتي يختلف عن السلوك الحياتي لاهل الحضارة المادية المعاصرة. وتجربتنا الجديدة تستهدي بنور تاريخنا المضيء وبنور مفاهيمنا الاسلامية اللَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ. وسنجد انفسنا بعد ان يمّر وقت مناسب على تجربتنا اغنياء بمفاهيم جهادية جديدة تختلف عن مفاهيم المعسكرات الحالية، ولدينا صيغ تنظيمية جديدة تنبض بالحيوية تملأ معسكراتنا. وهذه بعض النقاط لتنير لنا بداية الطريق في هذا المجال:
-
أ. يجب ان تسود اجواء المعسكر كما تسود اعمال أي تجمع يجتمع فيه الدعاة أو اي عمل يقوم به داعية أو اكثر: العلاقة الواضحة الجماعية والفردية بيننا وبين الله. وهذا هو منطلقنا في الحياة، وهذه العلاقة لها صياغات محددة، ومفاهيم واضحة في الاسلام، في القرآن والسنة، وعلى ألسنة أئمة المسلمين في جميع العصور.
منطلقات في مجال العمل:
إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ.
منطلقات في مجال العلاقات:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿٣﴾.
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ.
منطلقات في المحاسبة:
تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا.
-
ب. كما يجب ان يتحلى جميع المشاركين بمرتكزات الشخصية الاسلامية،وهي المفاهيم السامية التي تصف الشخصية الاسلامية كما يبينها الاسلام في القرآن والسنة وعلى السنة الائمة العظام عليهم السلام على مر التاريخ الاسلامي. وكما ظهرت في حياة المسلمين المؤمنين المجاهدين.
وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ.
إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ.
وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
”ان من اوثق عرى الايمان ان تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله“.
”المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه. اوسع شيء صدرا واذل شيء نفسا… طويل غمه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، سهل الخليقة، ليّن العريكة“.
”المؤمنون.. الذين اذا حدّثوا لم يكذبوا، واذا وعدوا لم يخلفوا، واذا أُؤتمنوا لم يخونوا، واذا تكلموا صدقوا، رهبان في الليل أسد في النهار“.
”انهم قوم الزموا انفسهم دوام المجاهدة وشدة المكابدة وضغط الاوقات واغتنام الطاعات ومفارقة الراحات والتلذذ بما التزموا به من الطاعات“.
-
ج. يجب ان تكون قواعد الحضارة الاسلامية فيما يخص العمل في المعسكر سائدة بين التجمع وهي الاوامر والنواهي الاسلامية التي تخص العمل الاسلامي.
وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم.
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ.
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ.
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿٢١﴾.
انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا ﴿٧١﴾.
-
د. وضع برامج ايمانية مختلفة ومتنوعة وموزعة على مدار اليوم لتقوية الاندفاع الذاتي في العمل الاسلامي.
-
ه. فتح مجال المحاسبة الذاتية والمحاسبة الجماعية.
-
و. فتح آفاق للعمل الاسلامي بتنظيم معين واسلوب مناسب خارج نطاق المعسكر في اوقات محددة.
-
ز. فتح باب التنافس والتسابق والتسارع لعمل الخيرات في جميع المجالات المتاحة: كان كل فرد من المسلمين يحمل حجرا لبناء المسجد وكان عماربن ياسر يحمل حجرين.
-
ح. ان التدريب امر موضوعي خاضع للتقنية المعاصرة ولا يتأثر بوجهة النظر الحياتية بحد ذاته، كاتقان الرماية أو السباحة أو ركوب الخيل أو الدبابة، ولذلك فلا مجال لذكره هنا وله مجالات اخرى.
-
-
دراسة الوقت تعتمد على هداية الله وتوفيقه والاستعانة به، على التفكير المتسلسل المنظم ومعرفة الامور وادراك الاولويات واختلاف الادوار باختلاف الاوقات والاماكن والاشخاص والاختصاصات وعلى حمل هموم الامة والبلاد. وحمل هموم الدعوة.
هذه النقاط العشرة هي مجمل ما توصلنا اليه في فهم الحالة الايجابية في التعامل مع الوقت.
الحالة الفطرية
في حياة الانسان هناك اوقات يخضع الجسد لسلطانها، منها:
النوم والمرض. وهناك اوقات تصرف على قضاء حاجات جسدية لاغنى عنها مثل الاكل. وهناك اعمال يخضع لهاالانسان مثل اشباع الغرائز، ومنها غريزة حفظ النوع وغريزة حفظ النفس… الخ. وهذه امور فطرية ولابد ان تأخذ وقتها من الانسان. ولكن الداعية يخضع اموره لاوامر الله. وفي الاحكام الاسلامية وفي القرآن والاحاديث مايوجه المسلم الى ملء الفراغات اثناء الحالات الفطرية لوقت الانسان.
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿٩﴾ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴿١٠﴾.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ﴿٤٩﴾.
”معاشر اصحابي اوصيكم بالآخرة، ولست اوصيكم بالدنيا. فانكم مستوصون بها، حريصون عليها، وبها متمسكون“.
وقد وضع الاسلام للانسان احكاما يذكر فيها الله قبل نومه واثناء يقظته من نومه وقبل اكله وبعد اكله واثناء مرضه… الخ.
الحالة السلبية
الحالة السلبية في التعامل مع الوقت حالة خطرة بل هي مرض اجتماعي من اشد الامراض الاجتماعية فتكا بالمسلمين. وعندما يضيع وقت الانسان هدرا تتحول حياته الى موت. فكيف يكون ذلك؟ المسلم الراكد في المجتمع الراكد لايبالي بالوقت ولايأبه له ولاينتبه اليه لافي المجالات العامةأو المجالات الخاصة عدا ماتقتضيه حاجات الانسان الفطرية وغرائزه وما تدفعه اليه. وتسير حياة المسلم سيرا عشوائيا بلا اي تخطيط، وببغاويا دون تمييز وتفكير اذا كان فيها حركة في اطار التأثيرات الحضارية الاستعمارية. أويكون المظهر البارز: الخمول والركود والتحجر نجد ذلك في زوايا المدن وفي انحاء الريف،ونراه في المتعلم والجاهل، وفي الرجل والمرأة،وفي كل مكان من انحاء العالم الاسلامي. انها الحقيقة المرة.. والاكيف نفسر أن مليون يهودي يقهرون الملايين العربية ووراءها الملايين بل مئات الملايين من المسلمين؟ وكيف نفسر ان الثروة الهائلة من الاموال في البلاد الاسلامية موضوعة بالكامل تحت تصرف اعداء المسلمين؟ وكيف نفسر تحكم الطغاة من عملاء المستعمرين في رقاب المسلمين في كل مكان؟
ولكي نتصور فداحة الخسائر التي تحيق بنا من جراء التعامل السلبي مع الوقت فلنخطوا خطوة حسابية بسيطة لنتعرف على جزء يسير من هذه الخسائر، فنحاول ان نصل الى رقم تقريبي توضيحي:
في عالم اليوم مليارد مسلم ينتشرون في قارة آسيا وافريقيا وبعضهم في القارات الاخرى باعداد قليلة نسبيا. ولو فرضنا ان (٥٠٠) مليون من هؤلاء قادرون على العمل ولو ان ساعة منحها كل واحد من هؤلاء للعمل في سبيل الله في المجال العام في الانتاج الصناعي أو الانتاج الزراعي أو العلاقات والخدمات كالخدمات الصحية والتعليمية والاسكان والتعمير.. الخ. ان هذه الساعة من المسلم تتحول الى ١٨٢ مليار ساعة ونصف المليار. ان هذا الكيان الضخم من الوقت لو تحول الى عمل نافع لحصلنا على نتائج باهرة من الاعمال.
وينبغي ان ينتبه كل المسؤولين في ايران المسلمة الى اهمية الوقت ويدفعوا الملايين المسلمة الى العمل المثمر. الملايين المسلمة التي باعت انفسها لله تعالى، والتي بذلت الغالي والرخيص في سبيل الله اثناء ثورتها الاسلامية العظيمة والتي لديها الاستعداد الكامل لاعطاء وقتها في سبيل الله.
فلوان القيادة السياسية طلبت من كل مسلم ومسلمة قادرين على العمل ان يعطي كل واحد منهم ١٠ ساعات في اليوم للعمل المثمر، ووضعت قائمة موسعة للاعمال المثمرة..ولو أن ٢٥ مليون من مسلمي ايران استجابوا للنداء.. فأن ايران ستحصل على ٩١ مليارد وربع المليارد ساعة عمل في السنة. ان هذا الوقت الهائل لو تحول الى عمل حضاري اسلامي لحصلنا على زخم حضاري ينقل حالة المسلمين من حالة العجز والضعف الى حالة القوة والنهضة الشاملة لأن اتجاه الاستفادة من الوقت سيكون الى الاعداد لخرق طوق الحصار الحضاري والعسكري والسياسي والاقتصادي والعلمي الذي يضربه طغاة العالم وعملاؤهم حول البلد الذي اتجه الى الاسلام، بقصد تدميره واعادته الى حظيرة التبعية الحضارية والفكرية والسياسية والاقتصادية بابعاده عن الاسلام. وسنحصل على نتائج تبهر العالم اجمع، وستنهار نتيجة ذلك السدود المصطنعة التي تحول بين المسلمين واسلامهم، وستتساقط الانظمة العميلة والمتداعية في العالم الاسلامي.
ماهي مظاهر الحالة السلبية في العالم الاسلامي؟
المظاهر كثيرة ومتشعبة ولامجال للدخول في تفاصيلها، ولكن لابد لنا من استعراض اهمها استعراضا دون شرح ودون ذكر تفاصيل:
-
اهم الامور الابتعاد عن الاسلام بجوهره وتفاصيله، بأحكامه ومفاهيمه بقرآنه وسنته.. والابتعاد عن فهم حاضر المسلمين وماضيهم ومستقبلهم.
-
ومن الامور عدم التفكير، وسطحية التفكير، والتقليد في التفكير.
-
ومنها الانحطاط الحضاري والمدني، والتخلف الزراعي والصناعي والعلمي.
-
ومنها اوضاع الاسرة السيئة من وضع المرأة الى تربية الاطفال الى العلاقات غير المبنية على الاسلام.
-
ومنها الحكم الفاسد والرشوة والسرقة والظلم والتحكم برقاب الناس.
-
ومنها الادارة السيئة والجهل بالتنظيم وعدم تكافؤ الفرص في الصناعة والزراعة والخدمات.
-
ومنها سوء مناهج التربية والتعليم في مختلف مراحل التدريس.
-
ومنها التفكيك الاجتماعي والتفرق الطبقي والعرقي والاقليمي والمذهبي.
-
ومنها الفردية والانانية والذاتية.
-
ومنها البطالة والركود والخمول والكسل والجمود والتحجر.
-
ومنها العادات السيئة واللهو والخمر والميسر والحشيش والترياق والقات وما شابه.
-
ومنها العادات الخلقية الفاسدة كالبغاء واللواط والتخنث والاسترجال وما شابه.
-
ومنها التقاليد الغربية والعادات الغربية كالركض وراء السلع والموديلات والاحتفالات الماجنة وغير الماجنة.
-
ومنها التكدس البشري في المدن الكبيرة واهمال الريف.
-
ومنها الارتجال بالاعمال وعدم التخطيط.
-
ومنها تفشي الامراض والجهل والفقر، وخاصة في الريف وهو مكان غالبية المسلمين في العالم.
هذا بالنسبة الى الامة الاسلامية بصورة عامة، وهو امر واضح لايحتاج الى دليل. ولو تفحصنا اوضاع الدعوة لوجدنا بعض مظاهر هذا المرض الخطير موجودة بشكل أو بآخر في اوساطنا كذلك والالما كان هذا البحث الذي بين يديك.
ان اولى الناس بمكافحة التعامل السلبي مع الوقت هم الدعاة الى الله: يدعون في ذلك انفسهم اولا، ويدعون الناس حولهم فيما بعد ان يصفوا الحساب مع كل اثر سلبي للتعامل مع الوقت فلاتكن كمن يأمر الناس بالمعروف وينسى نفسه.
ان الوقت يهدر من خلال اعمال معينة، ومن خلال الخمول. وأحد مصاديق مثل هذه الاعمال بعض العادات السيئة التي تقتل الوقت كليا وجزئيا وبعض هذه الاعمال واضحة السوء وبعضها خفي، وسنستعرض بعض الحالات وان كان البعض منها لايوجد في اوساط الدعوة،وانما قد يوجد عند بعض من تأثر بالدعوة، أو عند بعض الدعاة، ممن لايزال يتأثر بالعادات السيئة التي تملأ جوانب المجتمع الذي يعيش فيه. نذكر هذه الامور لتنبيه الدعاة الى خطورتها في قتل الوقت وهدره.
الغيبة، النوم الزائد عن الحاجة، التدخين، الاعتناء الزائد بامور الدنيا، الاندماج في العلاقات الاجتماعية الراكدة واعرافها داخل البيت، الجلسات المسترخية بين اصحاب العلاقات الخاصة كالاصدقاء والاقارب، ادمان الجلوس في المقاهي، اللعب في وسائل اللهو المختلفة، الادمان على متابعة الفرق الرياضية ونجوم الرياضة، الانسياق وراء شهوات الجسد، والادمان على سماع الاخبار، الاهتمام بالقضايا الشكلية داخل الدعوة، اخلاف الموعد تجمّع الحزبيين دون عمل حزبي،والتنقل الزائد، وسنتطرق الى شرح موجز لهذه الامور لأهميتها الخاصة.
١. الغيبة:
الغيبة مرض عضال ينشأ في المجتمع الراكد وهو صيغة من صيغ هدر الوقت، واتجاه في الشخصية الى نشر عيوب الآخرين والتلهي بها، بدل سترها أو الاشفاق عليها والعمل لاصلاحها.
٢. النوم الزائد عن الحاجة:
على الداعية ان ينظم اوقات نومه بحيث تؤدي الى اعطاء جسده قسطا من الراحة، فان النوم فطرة فطر الله الناس عليها وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ﴿٩﴾. وعلى الداعية ان لايسرف في اعطاء الجسد اكثر مما يحتاج فأن ذلك يعني الكسل والاسترخاء وعدم الجدية في اخذ الامور. وفي هذا المجال يمكن ان يضع الداعية لنفسه منهاجا يتماشى مع الاتجاه الاسلامي في هذا الموضوع والقواعد الصحية، مثل النوم المبكر وقيام الليل، واليقظة المبكرة الااذا اقتضت مصلحة المسلمين أو مصلحة العمل الاسلامي أو مصلحة الدعوة السهر في سبيل الله:
”حرس ليلة في سبيل الله افضل من الف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها“.
وينبغي على الداعية عدم الاسراف في نوم النهار وتحويله ـ اذا كان لابد منه ـ الى هجعة صغيرة بعد الغذاء لتنصرف القوى الداخلية في جسم الانسان الى معالجة الطعام الطاريء عليه ويكفي لذلك بضعة عشر دقيقة بعيد الاكل مثلا. وعلى الداعية ان يجتهد لتقليل ساعات النوم الى الحد الضروري لراحة الجسد واستئناف نشاطه بحيوية. وهذا الامر يختلف باختلاف الامزجة والاشخاص حسب الصحة العامة لدى كل فرد، وحسب العادات التي عود نفسه عليها. وفي بعض الاوساط عادات سيئة في هذا المجال على الداعية الذي ابتلى بها ان يغيرها بالتدريج وان يستعين بالله على ذلك.
علينا ان نؤدي الى الجسد حقه. واما العادات السيئة فعلينا ان نقلع عنها بلا تردد.
٣. التدخين:
التدخين وسيلة شائعة لاضاعة الوقت والمال وللاضرار بالجسد. واذا احصى الداعية المدخن عدد الساعات التي يقضيها في خدمة هذه العادة الضارة فأنه يجد ان وقتا ثمينا قد ضاع منه لوحوّله الى عمل صالح واحصاه له الكرام الكاتبون وتحول الى حسابه… لثقلت موازينه عند ربه. ولو ان الداعية اطلع على الاضرار الجسدية التي تلحق بالجسد من ادمان تعاطي هذه المادة وعلم مقدار ماتعيقه عن عمله في سبيل الله لاقلع عن هذه العادة. ولو ان الاموال التي تصرف على شراء هذه المادة الضارة حولت الى سبيل الله لكان ذلك اجدى وافضل. ان هذه تذكرة فلعلها تنفع في تقليص انتشارها.
٤. الانسياق وراء شهوات الجسد:
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
الحديث موجه الى اليافعين والشباب من الدعاة والمتعاطفين مع الدعوة.
للجسد حاجات جعلها الله عزوجل ونظمها تنظيما يؤدي الى راحة الفرد وتناسق المجتمع باحكام مفصلة. وعندما لايتاح للداعية ان ينظم حاجات جسده ومنها الزواج كما امر الله، عليه ان يقي نفسه بالاساليب التي رسمها الاسلام، فالصيام والرياضة الاسلامية السباحة والرماية وانواع التدريبات الاخرى والانشغال بالعبادة الاسلامية وأسماها الدعوة الى الله.. تساعد على التسامي الجسدي على هذه الحاجة، الى ان يتغلب الداعية على ظروفه بتنظيم حاجته الفطرية. ان من يتساهل مع نفسه الامارة بالسوء ويندفع وراء شهوات الجسد يضل وتضيع اوقاته هباء وينغمس في المعاصي فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٦٣﴾.
٥. العلاقات الاجتماعية الراكدة واعرافها في البيت:
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
للاسرة والزوجة والاولاد حقوق على رب البيت وعليه ان يؤدي هذه الحقوق
”واما حق ولدك فتعلم انه منك، ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وانك مسؤول عما وليته من حسن الادب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب فاعمل في امره عملا يحسن اثره عليه في عاجل الدنيا المعذر الى ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والاخذ له منه ولاقوة الا بالله، واما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم ان الله جعلها سكنا ومستراحا وأنسا وواقية. وكذلك كل واحد منكما يجب ان يحمد الله على صاحبه ويعلم ان ذلك نعمة منه عليه، ووجب ان يحسن صحبة نعمة الله عليه ويكرمها ويرفق بها. وان كان حقك عليها اغلظ وطاعتك بها الزم فيما احببت وكرهت مالم تكن معصية، فأن لها حق الرحمة والمؤانسة وموضع الشكوى انها قضاء اللذة التي لابد من قضائها وذلك عظيم ولاحول ولاقوة الا بالله“.
ومن الواجبات الملقاة على عاتق الداعية ان يبذل الجهد للتأثير في عائلته، ليجعل اهتماماتهم اهتمامات سامية وان يقرب اذهانهم للاتجاه نحو مرضاة الله والعمل الاسلامي وان يلزمهم بالتقيد بالواجبات الاسلامية والانتهاء عن محرماتها. وأحد الموازين التي يوزن بها الداعية هو مقدار توجيه من له السلطة عليهم نحو العمل الاسلامي بقربهم أو بعدهم وخاصة الاولاد عن العمل الاسلامي. واذا كان تأثير الداعية على اولاده مضمونا أو شبه مضمون ولايفعل ذلك أو اهمل ذلك أو بعدهم عن العمل الاسلامي خوفا عليهم فيكون ايمانه بالعمل الاسلامي ضعيفا وارتباطه به مرتبطا بمصالح دنيوية، نعوذ بالله من ذلك. هذه امور ينبغي ان يقوم بها الداعية. وهناك امور اخرى وهي من الجهة الثانية لهذا الاتجاه، وهي ان على الداعية ان لايصرف وقتا كبيرا في التفاهات الناتجة عن العلاقات والعادات والاعراف الراكدة التي يعيشها المجتمع، وهو ان لم يتمكن من التأثير على بيته فليحذر من أن يؤثر عليه، وتضيع اوقات ثمينة من حياته بالامور التافهة.
٦. الاعتناء الزائد بامور الدنيا:
-
أ. التفكير الدائم بتنمية المال.
-
ب. التفكير في المأكل والمشرب والمسكن والحديث المتطاول حولها في البيت ومع الاصدقاء..
هناك حد ادنى من هذه الامور يحتاجه الداعية.ويختلف ذلك باختلاف الظروف المعيشية التي تحيط بالداعية. وليس هناك ضرورة لأن يضيف الداعية من وقته الى هذا الحد. ويمكن ان يوزع بعض هذه الاعمال على افراد عائلته الذين يمكنهم ان يقوموا بها حسب الاعراف السائدة لكي لاينشغل بامور نتيجة سوء توزيعه ويهدف الداعية الى ان يصل الى نتيجة نهائية يكسب بها وقتا ليضيفه الى عمله في سبيل الله.
٧. الجلسات المسترخية:
يكثر في المجتمع الراكد اجتماع الناس في جلسات مسترخية فيها لهو بريء أو لهو محرم بين الاصدقاء المتجانسين بالعمر.
والداعية عندما يكون في محيط تكثر فيه هذه الجلسات قد ينجذب اليها بحكم العادة المستمرة أو بحكم الصداقة أو القرابة، وتكون بعض هذه الاجتماعات كعادة اجتماعية يقيمها وجهاء القوم يقتل فيها الوقت بالحديث التافه والغيبة.. وقد استقطب التلفزيون تجمع الناس حوله، واصبح وسيلة لقتل الوقت دون حساب لوقت أو لعمل وبذلك فان التلفزيون ساهم في خلق أو تثبيت امراض اجتماعية جديدة.
الداعية يقاطع الاسترخاء في هذه الجلسات ويعارضها اصلا، الااذا غزاها بقصد التأثير والعمل الدعوتي.
٨. الجلوس في المقاهي:
يألف الناس في بعض المدن والبلدان الجلوس الطويل في المقاهي لقضاء الوقت. الداعية يتخذ هذه العادة سلمالتوثيق صلته ببعض الناس بقصد التوعية الاسلامية، والتوعية السياسية،في حلقة مفتوحة، وربط البعض بالدعوة. وتكون صلته بالمقهى مدروسة ومؤقتة. وماسوى ذلك اهدار للوقت.
٩. اللعب بالوسائل الملهية:
هناك العاب منصوص على حرمتها، واخرى ليس على ممارستها نص. وقد كثرت هذه الالعاب في النصف الثاني من القرن العشرين وتشكل تجارة مربحة للرأسماليين الغربيين. وهي بعمومها وسيلة لقتل الوقت فاذا كان الداعية في بيئة تنتشر فيها هذه الالعاب بين الكبار فعليه ان يبين اضرارها وان لايمارسها، فينغمس في مستنقع الوقت المهدور.
١٠. الادمان على متابعة الفرق الرياضية ونجوم الرياضة:
تشيع في العالم هواية متابعة العاب الفرق الرياضية واخبار نجوم الرياضة. وهذه احدى وسائل التسلية واشباع الروح المعنوية الجماعية والفردية لديهم. وهذا اتجاه تعويض لعجز المذاهب المادية عن اشباع الحاجات المعنوية في النفس الانسانية.
وقد انجرف المسلمون الى اتباع هذا الاسلوب تقليدا وانسياقاً وراء الحضارة الغازية، نتيجة الفراغ والاستلاب الحضاري السائد عند المسلمين اليوم. وهذه امور نراها في بعض شبابنا دون الالتفات الى معناها، ومغزاها فهي عندهم اشباع لمعنويات ضمن سباق حضاري متكامل في نفوسهم. وهي عندنا اسلوب ملهاة سياسية وضياع اوقات جماعية. ان الرياضة في الاسلام اعمال هادفة لمصلحة الفرد والمجتمع والدولة.
علّموا اولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل،
وكل رياضة تؤدي دورا حياتيا مفيدا فاننا نمارسها. اما ان تتخذ الرياضة تلهية جماعية فأن ذلك هدر للوقت.
١١. الادمان على سماع الاخبار:
الحصول على المعلومات السياسية وتمييز الغث من السمين والصحيح عن الخاطيء، والدعاية عن الحقائق، احدى مهمات الداعية وخاصة الذين يتابعون موضوعا سياسيا معينا أو يختصون به.
ولكن هذا الامر لايقتضي سماع الاخبار من الراديو في كل نشرة ومن كل الاذاعات فأن بعض الدعاة عندما يجد وقتا لديه فأنه يصطنع الراديو ملهاة له، على اعتبار انه اداة اطلاع سياسية. ان متابعة مايحدث في العالم لايقتضي ذلك. فأن قراءة جريدة يومية ومجلة سياسية، والاستماع الى نشرة اخبار مفصلة لاذاعة واحدة أو اثنتين كافية للمتابعة اليومية لما يحدث في العالم.
عدا المختص فأنه يعين عدة اذاعات لاستماع تعليقاتها السياسية ونشرات اخبار تفصيلية بقصد التقاط اسرار مايحصل من احداث في العالم بالمتابعة المكثفة والواسعة.
١٢. الاهتمام بالقضايا الشكلية:
في بعض الاحيان وعند بعض الاشخاص وفي بعض الاوساط تكون للقضايا الشكلية اهمية خاصة، انبعاثا من الفردية، ورفعا لشأن ”الأنا“ وهذه الاهمية الخاصة ترفع شأن الشكل على حساب المضمون. وكل اتجاه لتغليب الشكل على المضمون يعيق العمل لأنه يخلق الحساسيات الشخصية، ويحول اتجاه العمل من خطوة الى الامام الى دوران حول الذات بدوامه يزداد فعلها كلما توغلنا في هذا الاتجاه، ويهدر الوقت ويضيع فيما يضر ولاينفع. على ان للشكل في بعض الاحيان اهمية، لايمكن معها اهماله بشرط ان يأخذ حجمه الطبيعي من الاهتمام. ان توازن الامور هذه ينمو في محيط يتسامى جميع اعضائه عن صغائر الامور، وتتسع فيه الصدور والنفوس لامتصاص الهنات من الاخرين وترتفع فيه الهمم الى العلاء.
”المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه، اوسع شيء صدرا، واذل شيء نفسا، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همه كثير صمته، مشغول وقته شكور صبور سهل الخليقة، ليّن العريكة“.
١٣. تجمع الحزبيين دون عمل حزبي:
ان الحب في الله من اعظم الصفات التي يتصف بها الداعية، وهي من مرتكزات الشخصية الاسلامية ومن اوثق عرى الايمان ان يحب في الله ويبغض في الله ويعطي في الله، ويمنع في الله.
ان هذه الصفة تدفع الداعية لأن يستزيد في علاقته مع اخوانه الدعاة.
ان علاقاتنا في الظروف الصعبة التي تحيط بنا وبحاجتنا الى كل دقيقة من حياتنا لنبذلها في عمل مفيد، تجعلنا نتقيد في علاقاتنا بما يقتضيه التدبير لامور العمل لابما تقتضيه عواطفنا.
يتجمع الدعاة احيانا في بعض الظروف في بيت من البيوت لاحدهم انسجاماً مع عادات اجتماعية تألف التجمع، وانسياقا مع عاطفة الحب المتبادل في الله بين الاخوة في الله، وذلك دون عمل يقتضي هذا الاجتماع، وانما لظروف يجد فيها بعض الدعاة انهم دون عمل، فقضاء الوقت مع الاخوة افضل شيء عندهم. ثم ان الداعية أو الدعاة عندما يتجمعون لايخرج حديثهم عن محيط الدعوة واخبارها ومفاهيمها، وعندئذ يجد الداعية نفسه وكأنه في مهمة حزبية، وهو ليس كذلك. ان هذا العمل اذا تحول الى ظاهرة يؤدي الى تقوقع الدعاة على انفسهم، فبدلا من ان ينشط الداعية في المجتمع ويلاقي المصاعب يلجأ الى صومعة مع اخوانه ليقضي وقته في راحة نفسية.
ان هذا مسرب جماعي لضياع الوقت، وخطورته انه من الممكن ان يتحول الى ظاهرة في بعض الظروف، وفي بعض الاماكن، خاصة وان ظاهر هذا العمل انه عمل حزبي، وباطنه تقوقع واضاعة للوقت.
١٤. اخلاف الموعد:
من العادات السيئة السائدة في المجتمع اخلاف الموعد.
وتجر هذه العادة ذيولها على الدعاة، حيث لم يتمكن بعضهم من التخلص من بعض العادات السيئة على نطاق يضيق أويتسع. وهذه العادة مضرة من عدة وجوه: ففيها اهدار مزدوج للوقت من خلال الاطراف المرتبطة بالموعد، اضافة للمخاطر التي تنتج من اخلاف الموعد في الظروف الصعبة. وسنعود الى هذا الموضوع مرة اخرى في بحث دراسة العمل ان شاء الله.
١٥. التنقل الزائد:
في بعض الاحيان يتوزع عمل الداعية في اماكن متباعدة عن مكان اقامته. ويضطر ان يضيع اوقاتا كثيرة في التنقل. واذا لم يتمكن الداعية من اعادة توزيع العمل مع اخوانه لتلافي هذا الامر فأن عليه ان يعمل للاستفادة من وقت التنقل بأمور تهم العمل كالمطالعة والدراسة والتفكير في امور تهم العمل.
تمت الدراسة الاولية للوقت وستليها دراسة العمل عند مشيئة الله تعالى، ونقول انها دراسة اولية لأن هذه الدراسة انما هي توجيه دراسي اكثر منها مستكملة، وخاصة فيما يتعلق بدراسة الوقت كما في القرآن وكما هي في الحديث الشريف حيث لم يكن الوضع متاحا لاستعراض الحديث الشريف المتعلق بهذا الموضوع. وكذلك دراسة توقيت الاحكام وما يتعلق بالحكم والفوائد الحياتية للمسلم في حياته الخاصة، وللمسلمين في حياتهم السياسية والاجتماعية والعسكرية… الخ. ونأمل من الدعاة ان ينتبهوا للدراسات التي تقدمها الدعوة فتكون دليلا لدراسة مفصلة ومعمقة يقدمونها كفكر خاص للدعوة أو ثقافة عامة للامة… ان شاء الله تعالى.
الملحق رقم (١)
جدول عمل لداعية متفرغ
في يوم يكون فيه الفجر في الساعة الثالثة، والظهر في الساعة الثانية عشرة، والمغرب الساعة السادسة والنصف.
الوقت | العمل |
---|---|
الساعة ٣٠/٢ بعد منتصف الليل الى الفجر | نهوض من الفراش، بذكر الله، وضوء، قيام الليل، قراءة القرآن. |
الساعة ٣ـ ٥ | صلاة الفجر والنافلة، والقيام بدراسة يتطلبها العمل الدعوتي |
الساعة ٥ ـ٣٠/٥ | هجعة بعيد طلوع الشمس. |
الساعة ٣٠/٥ ـ ٧ | فطور، مطالعة جريدة، سماع اخبار، حديث مع العائلة وقضاء بعض الامور العائلية. |
الساعة ٧ـ ٣٠/٧ | تحضير للحلقة |
الساعة ٣٠/٧ ـ ٨ | وقت للانتقال الى مكان الحلقة |
الساعة ٨ـ ٣٠/٩ | حلقة |
الساعة ٣٠/٩ـ ١٠ | تحضير لاجتماع حزبي |
الساعة ١٠ـ ٣٠/١١ | اجتماع حزبي |
الساعة ٣٠/١١ـ ٣٠/١٢ | الى الجامع وصلاة الظهر جماعة،و الاتصال بالمصلين. |
الساعة ٣٠/١٢ـ ٣ | قضاء بعض الامور البيتية والغداء وجلوس مع العائلة ومطالعة خفيفة وهجعة قصيرة بعد الغداء لمدة ربع ساعة. |
الساعة ٣ـ ٦ | زيارات مقصودة وحلقة مفتوحة. |
الساعة ٦ـ ٣٠/٧ | صلاة المغرب جماعة، ودرس قصير |
الساعة ٣٠/٨ـ ٩ | دراسه |
الساعة ٩ـ ٣٠/٢ صباحا | مراجعة اليوم ونوم مع ذكر الله. |
الملحق رقم (٢)
الميزان في تفسير القرآن
قوله تعالى ”والليل اذا عسعس“ عطف على الخنس، واذا عسعس قيد الليل. والعسعسة تطلق على اقبال الليل وعلى ادباره. قال الراغب ”والليل اذا عسعس“ اي اقبل وادبر، وذلك في مبدأ الليل ومنتهاه فالعسعسة والعسعس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل. انتهى. والانسب لاتصال الجملة بقوله ”الصبح اذا تنفس“ انه يراد بها ادبار الليل. ويقال المراد بها: اقبال الليل، وهو بعيد كما عرفت. قوله تعالى ”والصبح اذا تنفس“ عطف على الخنس و“اذا تنفس“ قيد الصبح وعّد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الافق ودفعه الظلمة التي غشيته، نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح وقد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن احاطت به متاعب اعمال شاقة، ثم وجد خلأ من الزمان فاستراح فيه وتنفس، فعد اضاءته للأفق تنفسا منه، كذا يستفاد من بعضهم. وذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف: فأن قلت: مامعنى تنفس الصبح قلت اذا اقبل الصبح اقبل بأقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز، انتهى. والوجه المتقدم اقرب الى الذهن.
في ظلال القرآن
”والليل اذا عسعس“ اذا اظلم. ولكن اللفظ فيه تلك الايحاءات كذلك فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس، عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لايرى، وهوايحاء عجيب واختيار للتعبير رائع.
ومثله ”والصبح اذا تنفس“ بل هو اظهر حيوية واشد ايحاء والصبح حي يتنفس. انفاسه: النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي. واكاد اجزم ان اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لاتحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح انه بالفعل يتنفس، ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك ان قوله تعالى ”فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل اذا عسعس والصبح اذا تنفس“ ثروة شعورية وتعبيرية. فوق مايشير اليه من حقائق كونية. ثروة جميلة بديعة رشيقة، تضاف الى رصيد البشرية من المشاعر وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر.
الميزان في تفسير القرآن
قوله تعالى ”فلا اقسم بالشفق“ الشفق الحمرة، ثم الصفرة ثم البياض الذي يحدث بالمغرب اول الليل.
قوله تعالى ”والليل وماوسق“ اي ضمّ وجمع ما تفرق وانتشر في النهار من الانسان والحيوان فانها تتفرق وتنتشر بالطبع في النهار، وترجع الى مأواها في الليل فتسكن. وفسر بعضهم ”وسق“ بمعنى طرد، اي طرد الكواكب من الخفاء الى الظهور.
في ظلال القرآن
”فلااقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر اذا اتسق.. لتركبن طبقا عن طبق“ هذه هي اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها، لتوجيه القلب البشري اليها، وتلقي ايحاءاتها وايقاعاتها… لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن والجلال المرهوب. وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة، فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب، بعد الغروب.. وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة. ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق. كما يحس برهبة الليل القادم ووحشة الظلام الزاحف ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون. ”والليل وما وسق“.. هو الليل وما جمع وما حمل.. بهذا التعميم، وبهذا التجهيل، وبهذا التهويل والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير.. ويذهب التأمل بعيدا وهو يتقصى مايجمعه الليل ويضمه ويحمله من اشياء واحياء واحداث ومشاعر وعوالم خافية ومضمرة. ساربة في الارض وغائرة في الضمير.. ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة، ولم يبلغ من الصور مايحتويه النص القرآني القصير ”والليل وما وسق“.. انما يغمره من النص العميق العجيب، رهبة ووجل وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون.
الميزان في تفسير القرآن
قوله تعالى ”والفجر وليال عشر والشفع والوتر. والليل اذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر“ الفجر: الصبح، والشفع: الزوج. قال الراغب: الشفع ضم الشيء الى مثله، ويقال للمشفوع شفع. انتهى. وسري الليل: مضيّه وادباره. والحجر: العقل ”والفجر“ اقسام بالصبح، وكذا الحال فيما عطف عليه من ليال والشفع والوتر والليل. ولعل ظاهر قوله: ”والفجر“ ان المراد به مطلق الفجر، ولايبعد ايضا ان يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة. وقيل المراد فجر ذي الحجة وقيل فجر المحرم اول السنة. وقيل: فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ليلة جمع، وقيل المراد به صلاة الفجر، وقيل النهار كله وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها وهي وجوه رديئة.
وقوله (وليال عشر) لعل المراد بها الليالي العشر من اول ذي الحجة الى عاشرها. والتنكير للتفخيم. وقيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان. وقيل الليالي العشر من اوله وقيل الليالي العشر من اول المحرم، وقيل: المراد عبادة ليال عشر، على تقدير انه يراد بالفجر صلاة الفجر.
وقوله (والشفع والوتر) يقبل الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة، وهو الانسب على تقدير انه يراد بالفجر وليال عشر فجر ذي الحجة والعشر الاول من لياليها.
في ظلال القرآن
”والفجر وليال عشر. والشفع والوتر. والليل اذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر“ وهذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق، ذات الارواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة: ”والفجر“ ساعة تنفس الحياة في يسر وفرح وابتسام وايناس وودّ وندى. والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا، وكأن انفاسه مناجاة، وكأن تفتحه ابتهال. وليال عشر اطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى قيل هي العشر من ذي الحجة وقيل هي العشر من المحرم وقيل هي العشر من رمضان. واطلاقها هكذا اوقع واندى. فهي ليال عشر يعلمها الله، ولها عنده شأن، تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة، وكأنها خلائق حية معينة ذوات ارواح، تعاطفنا ونعاطفها، من خلال التعبير القرآني الرفاف. والشفع والوتر.. يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب جو الفجر والليال العشر. ومن الصلاة الشفع والوتر.. وهذا المعنى هو انسب المعاني في هذا الجو.حيث تلتقي روح العباده الخاشعة بروح الوجود الساجية، وهي تتجاوب الارواح العابدة مع ارواح الليالي المختارة، وروح الفجر الوضيئة.
”والليل اذا يسر.“ والليل هنا مخلوق حي يسري في الكون وكأنه ساهر يجول في الظلام أو مسافر يختار السري لرحلته البعيدة. يا لأناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويالجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر والليالي العشر والشفع والوتر! انها ليست الفاظا وعبارات انما هي أنسام من أنسام الفجر… وانداء مشعشعة بالعطر ام انه التجاء الاليف للقلب والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟ انه الجمال ـ الجمال الحبيب الهامس الطليق الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية اللطيفة، انه الجمال الابداعي المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة.
ومن ثم يعقب عليه في النهاية ”هل في ذلك قسم لذي حجر؟“ وهو سؤال للتقرير ان في ذلك قسما لذي لبّ وعقل. ان في ذلك مقنعا لمن له ادراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام ـ مع افادتها التقرير أرق حاشيه ـ فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق.
الميزان في تفسير القرآن
قوله تعالى ”والشمس وضحاها“ في المفردات: الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار وسمي الوقت به انتهى. والضمير للشمس، وفي الآية اقسام بالشمس وانبساط ضوئها على الارض.
قوله تعالى: (والقمر اذا تلاها) عطف على الشمس والضمير لها واقسام بالقمر حال كونه تاليا للشمس.والمراد بتلوه لها ان كان كسبه النور منها، فالحال حال دائمة وان كان طلوعه بعد غروبها. فالاقسام به من حال كونه هلالا الى حال تبدره قوله تعالى ”والنهار اذا جلّاها“ التجلية الاظهار والابراز وضمير التأنيث للارض، والمعنى واقسام بالنهار اذا اظهر الارض للابصار.
وقيل: ضمير الفاعل في ”جلاها“ للنهار، وضمير المفعول للشمس، والمراد الاقسام بحال اظهار النهار للشمس فأنها تنجلي وتظهر اذا انبسط النهار، وفيه: أنه لايلائم ماتقدمه فأن الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس.
وقيل: الضمير المؤنث للدنيا، وقيل للظلمة، وقيل: ضمير الفاعل لله تعالى، وضمير المفعول للشمس. والمعنى: واقسم بالنهار اذا اظهر الله الشمس: وهي وجوه بعيدة.
قوله تعالى: ”والليل اذا يغشاها“ اي يغطي الارض فالضمير للارض كما في ”جلاها“ وقيل للشمس وهو بعيد، فالليل لايغطي الشمس وانما يغطي الارض وما عليها.
والتعبير عن غشيان الليل الارض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها، حيث قيل: ”والنهار اذا جلّاها والليل اذا يغشاها“، للدلالة على الحال ليكون فيه ايماء الى غشيان الفجور الارض في الزمن الحاضر الذي هو اوائل ظهور الدعوة الاسلامية، لما تقدم ان بين هذه الاقسام وبين المقسم بها نوع اتصال وارتباط، هذا مضافا الى رعاية الفواصل.
في ظلال القرآن
”والشمس وضحاها. والقمر اذا تلاها. والنهار اذاجلاها. والليل اذايغشاها والسماء ومابناها. والارض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد افلح من زكاها وقد خاب من دسّاها“..
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية، كما يقسم بالنفس وتسويتها والهامها، ومن شأن هذا القسم ان يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى، وان يوجه اليها القلوب تتملاها تتدبر ماذا لها من قيمة وماذا بها من دلالة حتى استحقت ان يقسم بها الجليل العظيم.
الميزان في تفسير القرآن
قوله تعالى ”والليل اذا يغشى اقسام بالليل اذا يغشى النهار على حد قوله تعالى“ يغشى الليل النهار“ الاعراف ٥٤ ويحتمل ان يكون المراد غشيانه الارض أو الشمس.
قوله تعالى: (والنهار اذا تجلّى) عطف على الليل والتجلي ظهور الشيء بعد خفائه، والتعبير عن صفة الليل بالمضارع وعن صفة النهار بالماضي حيث قيل:“يغشى“ و“تجلى“ تقدم فيه وجه في تفسير اول السورة السابقة.
في ظلال القرآن
”والليل اذا يغشى والنهار اذا تجلى… وما خلق الذكر والانثى“..
يقسم الله سبحانه بهاتين الآيتين: الليل والنهار مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد ”الليل اذا يغشى“. ”والنهار اذا تجلى“.. الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها ويخفيها. والنهار حين يتجلى ويظهر فيظهر في تجلية كل شيء ويسفر، وهما آنان متقابلان في دورة الفلك ومتقابلان في الصورة، ومتقابلان في الخصائص، ومتقابلان في الآثار.. كذلك يقسم بخلقه الانواع جنسين متقابلين: ”وما خلق الذكر والانثى“ تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا.
تفسير سورة القدر من كتاب الميزان
بسم الله الرحمن الرحيم. انا انزلناه في ليلية القدر. وما ادراك ماليلة القدر. ليلة القدر خير من الف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بأذن ربهم من كل امر. سلام هي حتى مطلع الفجر.
تذكر السورة انزال القرآن في ليلة القدر، وتعّظم الليلة بتفضيلها على الف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها. والسورة تحتمل المكية والمدنية ولايخلو بعض ماروي في سبب نزولها عن ائمة اهل البيت عليهم السلام وغيرهم عن تأييد لكونها مدنية.
قوله تعالى (انا انزلناه في ليلة القدر) ضمير انزلناه للقرآن وظاهره جملة الكتاب العزيز لابعض آياته ويؤيده التعبير بالانزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج.
وفي معنى الآية قوله تعالى ”والكتاب المبين انا انزلناه في ليلة مباركة“ وظاهره الاقسام بجملة الكتاب المبين ثم الاخبار عن انزال ما اقسم به جملة.
فمدلول الآيات ان للقرآن نزولا جمليا على النبي ﷺ غير نزوله التدريجى الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة، كما يشير اليه قوله: ”وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا“ وقوله: ”وقال الذين كفروا: لولانزّل عليه القرآن جملة واحدة! كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا“.
فلا يعبأ بما قيل: ان معنى قوله ”انزلناه“ ابتدأنا بانزاله والمراد انزال بعض القرآن. وليس في كلامه تعالى ما يبين ان الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: ”شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن“ فأن الآية بانضمامها الى آية القدر تدل على ان الليلة من ليالي شهر رمضان. واما تعينها ازيد من ذلك فمستفاد من الاخبار، وسيجيء بعض مايتعلق به في البحث الروائي التالي ان شاء الله قدسماها الله تعالى ليلة القدر والظاهران المراد بالقدر التقدير، فهي ليلة التقدير، يقدر الله فيها حوادث السنة من ليلة الى مثلها من قابل من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: ”فيها يفرق كل امر حكيم، امرا من عندنا، انا كنا مرسلين رحمة من ربك“ فليس فرق الامر الحكيم الا احكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير. ويستفاد من ذلك ان الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها امور السنة من الليلة الى مثلها من قابل اذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان، تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها، وان صح فرض واحد من ليال القدر المتكررة ينزل فيهاالقرآن جملة واحدة. على ان قوله ”يفرق“ وهو فعل مضارع ظاهر في الاستمرار. وقوله خير من الف شهر وتنزل الملائكة.. الخ يؤيد ذلك. فلا وجه لما قيل: انها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير ان يتكرر. وكذا ماقيل: انها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي ﷺ ثم رفعها الله، وكذا ماقيل: انها واحدة بعينها في جميع السنة. وكذا ماقيل: انها في جميع السنة، غير انها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان وسنة في شعبان وسنة في غيرها. وقيل ان القدر بمعنى المنزلة وانما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، وقيل: القدر بمعنى الضيق وسميت ليلة القدر لضيق الارض فيها بنزول الملائكة، والوجهان كما ترى! فمحصل الآيات ـ كما ترى ـ انها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها احكام الامور بحسب التقدير. ولاينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فأن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر والتغير في التقدير أمر آخر. كما ان امكان التغير في الحوادث الكونية بحسب المشيئة الالهية لاينافي تعينها في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ”وعنده ام الكتاب“. على ان لاستحكام الامور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور اسبابها وشرائطها تامة وناقصة. ومن المحتمل ان تقع في ليلة القدر بعض مراتب الاحكام ويتأخر تمام الاحكام الى وقت آخر، ولكن الروايات كما ستأتي لاتلائم هذا الوجه. قوله تعالى: ”وما ادراك ما ليلة القدر“ كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها. ويؤكد ذلك اظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل ماليلة القدر؟ ليلة القدر خير، ولم يقل وما ادراك ما هي؟ هي خير.
قوله تعالى: ”ليلة القدر خير من الف شهر“ بيان اجمالي لما اشيراليه بقوله: وما ادراك ماليلة القدر من فخامة امر الليلة. والمراد بكونها خيرا من الف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على مافسره المفسرون، وهو مناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس الى الله، فاحياؤها بالعبادة خير من عبادة الف شهر. ويمكن ان يستفاد ذلك من الآية المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: انا انزلناه في ليلة مباركة.. وهناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي ان شاء الله.
قوله تعالى ”تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر“. تنزل اصله تتنزل. والظاهر من الروح هو الروح الذي من الامر، قال تعالى ”قل الروح من امرربي“. والاذن في الشيء الرخصة فيه، وهو اعلام عدم المانع منه.
ومن في قوله ”من كل امر“ قيل بمعنى الباء وقيل لابتداء الغاية وتفيدالسببية، اي بسبب كل امر الهي. وقيل للتعليل بالغاية اي لاجل تدبير كل امر من الامور. والحق ان المراد بالامر ان كان هو الامر الالهي المفسر بقوله (انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن). فمن للابتداء وتفيد السببية، والمعنى: تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بأذن ربهم مبتدأ تنزلهم وصادرا من كل امر الهي. وان كان هو الامرمن الامور الكونية والحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية والمعنى: تتنزل الملائكة والروح في الليلة باذن ربهم لاجل تدبير كل امر من الامور الكونية.
قوله تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر). قال في المفردات السلام والسلامة: التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة، انتهى فيكون قوله سلام هي اشارة الى العناية الالهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين اليه وسدباب نقمة جديدة تختص بالليلة. ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما اشير اليه في بعض الروايات. وقيل المراد به ان الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين، ومرجعه الى ماتقدم.
بحث روائي
في تفسير البرهان عن الشيخ الطوسي عن أبي ذر قال: قلت يارسول الله القدر شيء يكون على عهد الانبياء ينزل عليهم فيها الامر فاذا مضوا رفعت؟ قال: لابل هي الى يوم القيامة.
اقول: وفي معناه غير واحد من الروايات من طرق اهل السنة وفي المجمع عن حماد بن عثمان عن حسان بن ابي علي قال: سألت ابا عبدالله عليه السلام عن ليلة القدر فقال: اطلبها في تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين.
اقول: وفي معناها غيرها. وفي بعض الاخبار الترديدبين ليليتين الاحدى والعشرين والثلاث والعشرين، كرواية العيّاشي عن عبد الواحد عن الباقر عليه السلام. ويستفاد من روايات انها ليلة ثلاث وعشرين وانما لم تعين تعظيما لامرها ان لايستهان بها بارتكاب المعاصي وفيه ايضا في رواية عبدالله بن بكير عن زر ارة عن احدهما عليهما السلام قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه: انه قال لرسول الله ﷺ: ان منزلي ناء عن المدينة فمرني بليلة ادخل فيها، فامره بليلة ثلاث وعشرين.
اقول: وحديث الجهني واسمه عبدالله بن أنيس الانصاري مروي من طرق اهل السنة ايضا، أورده في ”الدر المنثور“ عن مالك والبيهقي. وفي الكافي باسناده عن زرارة، قال: قال ابو عبدالله عليه السلام: التقدير في تسع عشر، والابرام في ليلة احدى وعشرين، والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين. اقول وفي معناها روايات أخر، فقد اتفقت اخبار اهل البيت عليهم السلام انها باقية متكررة كل سنة، وانها ليلة من ليالي شهر رمضان وانها احدى الليالي الثلاث.
واما من طرق اهل السنة فقد اختلفت الروايات اختلافا عجيبا يكاد لايضبط والمعروف عندهم انها ليلة سبع وعشرين فيها نزل القرآن. ومن اراد الحصول عليها فليراجع ”الدر المنثور“ وسائر الجوامع.
وفي الدر المنثور اخرج الخطيب عن ابي المسيب قال: قال رسول الله ﷺ رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليّ فانزل الله ”انا انزلناه في ليلة القدر“.
اقول وروي ايضا مثله عن الخطيب في تاريخه عن ابن عباس، وايضا مافي معناه عن الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن الحسن بن علي. وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن ائمة اهل البيت عليهم السلام وفيها ان الله تعالى سلّى نبيه ﷺ باعطاء ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر، وهي مدة ملك بني أمية. وفي الكافي باسناده عن ابن آبي عن غير واحد عن ابي عبد الله عليه السلام قال له بعض اصحابنا ولااعلمه الاّ سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من الف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة قدر. وفيه باسناده عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران انه سأل ابا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: انا انزلناه في ليلة مباركة، قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر، فلم ينزل القرآن الافي ليلة القدر. قال الله عزوجل ”فيها يفرق كل امر حكيم“ قال يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل خير وشر طاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك الليلة مقضي فهو محتوم ولله عزوجل فيه المشيئة.
قال: قلت ”ليلة القدر خير من الف شهر“ اي شيء عنى ذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من صلاة وزكاة وانواع الخير خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة قدر، ولولا مايضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين مابلغوا، ولكن الله يضاعف لهم الحسنات.
اقول: قوله ولله فيه المشيئة يريد به اطلاق قدرته تعالى، فله أن يشاء مايشاء ان حتم فأن ايجابه الامر لايقيد القدرة المطلقة، فله ان ينقض القضاء المحتوم وان كان لايشاء ذلك ابدا. وفي المجمع روي ابن عباس عن النبي ﷺ انه قال: اذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل فينزل جبرائيل ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري ولواء على بيت المقدس ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طورسيناء، ولايدع فيها مؤمنا ولامؤمنة الا سلّم عليه الاّ مدمن خمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران.
وفي تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله باسناده عن ابي بصير قال كنت مع ابي عبدالله عليه السلام فذكر شيئا من امر الامام اذا ولد، فقال استوجب زيادة الروح في ليلة القدر. فقلت جعلت فداك اليس الروح هو جبرائيل؟ فقال: جبرائيل من الملائكة، والروح اعظم من الملائكة، أليس أن الله عزوجل يقول تنزل الملائكة والروح.
اقول: والروايات في ليلة القدر وفضلها كثيرة جدا،وقد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة ولااكثرية كطلوع الشمس صبيحتها ولاشعاع لها، واعتدال الهواء فيها، أغمضنا عنها.
تفسير سورة القدر في ظلال القرآن
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال ليلة الاتصال المطلق بين الارض والملأ الاعلى، ليلة بدأ نزول هذا القرآن على قلب محمد ﷺ، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لن تشهد الارض مثله في عظمته وفي دلالته وفي آثاره في حياة البشرية جميعا، العظمة التي لايحيط بها الادراك البشري ”انا انزلناه في ليلة القدر وما ادراك ماليلة القدر.. ليلة القدر خير من ألف شهر“. والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير، بل هي تفيض النور الهادي الساري الرائق الودود، نور الله المشرق في قرآنه: انا انزلناه في ليلة القدر. ونور الملائكة والروح وهم في غدّوهم ورواحهم طوال الليلة بين الارض والملأ الاعلى ”تنزل الملائكة والروح فيها بأذن ربهم من كل أمر“. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الارواح السارية في هذا الوجود ”سلام هي حتى مطلع الفجر“.
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان: ”انا أنزلناه في ليلة مباركة، انا كنا منذرين. فيها يفرق كل امر حكيم امرا من عندنا، انا كنا مرسلين. رحمة من ربك انه هو السميع العليم“. والمعروف انها ليلة من ليالي رمضان كما ورد في سورة البقرة ”شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان“. اي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول ﷺ ليبلغه للناس.
في رواية ابن اسحاق ان اول الوحي بمطلع سورة ”العلق“ كان في شهر رمضان ورسول الله ﷺ يتحنث في غار حراء، وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان وبعضها يعين الليلة الواحدة والعشرين وبعضها يعينها ليلة من ليالي العشر الاخيرة، وبعضها يطلقها في رمضان كله، فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في ارجح الآثار.
واسمها ”ليلة القدر“ قد يكون معناه التقدير والتدبير، وقد يكون معناه القيمة والمقام، وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم: حدث القرآن والوحي والرسالة، وليس اعظم منه ولا اقوم في احداث هذا الوجود، وليس ادل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد، وهي خير من ألف شهر والعدد لايفيد التحديد في مثل هذه المواضع في القرآن انما هو يفيد التكثير. والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر، فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون ان تترك في الحياة بعض ماتركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الادراك البشري ”وما ادراك ما ليلة القدر؟!!“ وذلك بدون حاجة الى التعلق بالاساطير التي شاعت حول هذه الليلة في اوهام العامة، فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن وافاضة هذا النور على الوجود كله، واسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الانسانية، وبما يتضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الارض والضمير. وتنزيل الملائكة وجبريل عليه السلام خاصة باذن ربهم ومعهم هذا القرآن باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة وانتشارهم فيما بين السماء والارض في هذا المهرجان الكوني الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا.
وحين ننظر اليوم من وراء الاجيال المتطاولة الى تلك الليلة المجيدة السعيدة ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الارض في هذه الليلة، ونتدبر حقيقة الامر الذي تمّ فيها ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان وفي واقع الارض وفي تصورات القلوب والعقول فاننا نرى امرا عظيما حقا، وندرك طرفا من مغزى هذه الاشارة القرآنية الى تلك الليلة: وما ادراك ماليلة القدر.
لقد فرق فيها من كل امر حكيم، وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين، وقد قررت فيها من اقدار اكبر من اقدار الافراد، اقدار امم ودول وشعوب بل اكثر وأعظم اقدار حقائق واوضاع وقلوب، ولقد تغفل البشرية لجهالتها ونكد طالعها عن قدر ليلة القدر وعن حقيقة ذلك الحدث وعظمة هذا الامر، وهي منذ ان جهلت هذا واغفلته فقدت أسعد واجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي. سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع. الذي وهبها اياه الاسلام ولم يعوضها عما فقدت مافتح عليها من ابواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة فهي شقية شقية على الرغم من فيض الانتاج وتوافر وسائل المعاش. لقد انطفأ النور الجميل الذي اشرق في روحها مرة وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت الى الملأ الاعلى. وغاب السلام الذي فاض على الارواح والقلوب فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة الى عليين. ونحن المؤمنين مأمورون ان لاننسى والانغفل هذه الذكرى وقد جعل لنا نبينا ﷺ سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في ارواحنا لتظل موصولة بها أبدا، موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها، وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام، ومن تحّريها، والتطلّع اليها في الليالي العشرة الاخيرة من رمضان. في الصحيحين: ”تحروا ليلة القدر في العشر الاواخر من رمضان“ وفي الصحيحين كذلك ”من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفرله ما تقدم من ذنبه“.
والاسلام ليس شكليات ظاهرية، ومن ثم قال رسول الله ﷺ في القيام في هذه الليلة ان يكون ايمانا واحتسابا… وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة. ايمانا وليكن تجردا لله خلوصا واحتسابا ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن.
والمنهج الاسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وايضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولاتقف عند حدود التفكير. وقد ثبت ان هذا المنهج وحده هو اصلح المناهج لاحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك. وان الادراك النظري وحده لهذه الحقائق دون مساندة العبادة وعن غير طريقها لايقر هذه الحقائق ولايحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولافي حياة الجماعة، وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها ايمانا واحتسابا هو طرف من هذا المنهج الاسلامي الناجح القويم.
الملحق رقم (٣)
مع القرآن في عالمه الرحيب
في القرآن الكريم اشارات ولمحات معجزة عن البعد الزمني في الكون تثير الدهشة والتساؤل. ولوتيسر لجمعها وتنسيقها وتحليلها عالم طبيعي أو رياضي (مؤمن) وقارنها بنسبية (اينشتاين) التي ادخلت البعد الزمني كبعد جديد ثالث في دراسة الكتلة الكونية لرأى بامّ عينيه العجب العجاب، ولأدرك يقينا ان هذه الاحاطة الرياضية الشاملة بابعاد الكون وعدم التقيّد بمقاييس الارض ونسبياتها المحدودة سيما في زمن نزول القرآن حيث علوم الطبيعة والرياضة لازالت تحبو بعد، ولم تتجاوز مرحلة طفولتها. وهذه النظرة الكلية التي تطل على الكون ولاتندمج فيه… انما هي جميعا من لدن العليم الخبير الذي احاط بكل شيء علما. ولست هنا بالذي يبحث عن هذه التحليلات والمقارنات، وما انا بقادر عليها.. انما اريد ان اقدم بعض الملاحظات الاولية في هذا الجانب المعجز من القرآن الكريم، ومن حياتنا البشرية على السواء لأنه ـ والحق يقال ـ يثير الرغبة في التأمل ويدفع الى الاستقصاء حتى ولو أوقع المتأملين والباحثين في عشرات الاخطاء.. ولكن عذرهم انهم يريدون بهذا البحث ان يتعبدوا لله جل جلاله ويتقربوا اليه.
ما الذي يلفت الانظار في القرآن الكريم بهذا الصدد؟ حشد من الآيات واللمسات والاشارات مثبتة في حنايا السور هنا وهناك نذكر منها هذه الآيات الموحية ذات الدلالة العميقة ”قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم!“ ”ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا الاساعة من النهار“ يونس ٤٥. ”يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون ان لبثتم الا قليلا“ الاسراء ٥٢. ”وقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين“ المؤمنون ١١٣. ”ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة“ الروم ٥٥. ”ثم يعرج اليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون“ السجدة ٥. ”يسأله من في السماوات والارض كل يوم هو في شأن“ الرحمن ٢٩. ”كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا ”الاّعشية أو ضحاها“ النازعات ٤٦. ”اذ يقول أمثلهم طريقة: ان لبثتم الايوما“ طه ١٠٤. ”وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعّدون“ الحج ٤٧. ”ادعو ربكم يخفف عنا يوما من العذاب“ غافر ٤٩. ”ان ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام“ الاعراف٤٥. ”الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة ايام“ السجدة٤.
ان بين هذه الآيات المثبته في حنايا القرآن ـ وغيرها كثير ـ ترابطا وانسجاما رياضيا حقيقياً. وان فيها تأكيدا مستمرا على الحقيقة الطبيعية الكبرى التي لم تنكشف بعض جوانبها للعلم الا اخيرا. تلك هي ان الزمن في الارض والزمن في امداء الكون ليسا سواء، وان هناك فرقا شاسعا بين الوحدة الزمنية الارضية والوحدة الزمنية الكونية تبلغ تارة ٣٦٥٠٠٠ ضعفا، وتارة اخرى تبلغ ١٨٢٥٠٠٠٠ بحساب القرآن الكريم نفسه.. فأين نحن في حياتنا الدنيا وفي ايامنا الضئيلة التافهة هذه؟! ومن اجل ذلك سيشده الناس يوم القيامة وسيظنون ان حياتهم لم تكن سوى ساعة من نهار وانهم لم يلبثوا الا قليلا.. وعندها يسأل أحدهم: كم لبثت؟ يجيب: لبثت يوما أو بعض يوم!.. اما المجرمون فيقسمون انهم ما لبثوا غير ساعة. ويقول امثلهم طريقة: ان لبثتم الا يوما!! يسعى هؤلاء المجرمون الى التأكد من هذه الحقيقة الواضحة للعيان, فيلتمسون من الله جل وعلا ان يسأل العادين، فلعل عندهم الخبر اليقين.. من اجل ذلك كانت دعوة الكافرين، وهم يتخبطون في اعماق جهنم ان يخفف ربهم عنهم يوما واحدا من العذاب. فما اشد هذا اليوم الكوني وما اطوله! فهو ربما يكون ثمانية عشر مليون ومئتين وخمسين الفا من ايامنا على الارض!! حقيقة رهيبة هائلة… تقشعر لها الابدان وتشعرنا لوكنا مؤمنين قليلا بضآلتنا وتفاهتنا وانحصارنا في زاوية من زوايا الكون لا تعدو ايامها ان تكون لحظات من الايام هناك، فيما وراء عالمنا الارضي ونسبياته المحزنة!!.
ورغم ان الله سبحانه يريد ان يرفعنا ويطهرنا ويكرمنا على العالمين، ويمنحنا مكانة كبيرة في هذا الكون الشاسع نتجاوز بها انحسارنا وضآلتنا وتفاهتنا، فاننا نرفض هذه المنحة ونشيح عن هذا النداء الكبير ونتجمع على بعضنا خائفين مرتعدين كالديدان من اجل الانسمع صوتا ينقلنا من الحفرة الضيقة الى رحاب الكون!! من اجل ذلك قال رسول الله ﷺ
”ان الله يمهل ولايهمل“
وانه
”يملي للظالم حتى اذا اخذه لم يفلته“.
وهذا الامهال للكفار والطواغيت والمجرمين يبدو في حسابنا الارضي طويلا، وقد يتجاوز السنوات، وقد يمتد الى عقود السنين وربما قرونا. فما اشد هذا اليوم الكوني وما اطوله!! فهو ربما يكون ثمانية عشر مليونا ومئتين وخمسين الفا من ايامنا على الارض!! لكي تحق كلمة الله على الظالمين ويأخذ العدل الالهي مجراه، لكن هذه الايام والسنين والعقود والقرون لاتعدو في زمن الله يوما أو بعض يوم، ومن ثم كان تمهل الله بطيئا في حسابنا، سريعا سرعة مذهلة في حساب الملأ الاعلى… واذاكنا نحن نستبطيء عقاب الله حينا.. فلربما كان الملأ الاعلى يتسرعه احيانا.. وما كان لنا اذن الا أن نذعن لأمر الله، وتتيقن نفوسنا عدله الازلي الشامل الذي يتجاوز نسبيات الزمان والمكان الى القيم المطلقة التي لاينحرف بها ميزان ولايطيش عندها جزاء أو عقاب.
ومن بين هذه الآيات (المحكمة) نلتقي بحقيقة (طبيعية) اخرى لاتقل في خطورتها وضخامتها عن الحقيقة السالفة، ان لم تفقها وتتجاوزها الى ماهو اشد واخطر.. ان القرآن الكريم يعلن ان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والارض في ستة ايام. ويكررهذا الاعلان في اماكن عديدة، ثم يفصله في سورة (فصلت)، فيقول ”قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا، ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها وقدّر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين. ثم استوى الى السماء ـ وهي دخان ـ فقال لها وللارض: ائتيا طوعا أو كرها، قالتا: أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين واوحى في كل سماء أمرها“. ولنا ان نتصور لابحسابنا الارضي ولكن بحساب المطلقات القرآنية، الامداء الزمانية لهذه الايام الستة التي صمم فيها الله سبحانه بناء السماوات والارض، واعد كرتنا الارضية لاستقبال الحياة وانمائها وتطويرها على يد الانسان خليفة الله في الارض وسيد مخلوقاتها!! ولنا ان نتصور ـ كذلك ـ كيف تم هذا التصميم والاعداد المعجزين القائمين على قوانين وسنن ونواميس غاية في الدقة والاتقان والانضباط ليس اقلها قوانين الجاذبية وتصريف الرياح وحركة النهار والليل وانبات النخل والرمان والعنب، من قلب التربة، وتوازن نسب مكونات الغلاف الغازي، وخلق الانعام، وارساء الجبال، وتكثيف الغاز والدخان الى كتلة صلدة صالحة للحركة والبناء، وتزيين السماء الدنيا بالمصابيح الزرقاء، وتفجير الحياة في الطين اللازب!! ولنا ان نتصور ـ وبعد هذا وذاك ماذا تريد هذه الآية ان تقول لنا: ” يسأله من في السماوات والارض، كل يوم هو في شأن“ كل يوم! واي يوم؟ انه ذلك الذي قلنا انه قال ربما يبلغ ١٨٢٥٠٠٠٠ يوما من ايامنا ”فبأي آلاء ربكما تكذبان“ ونريد ان نقف قليلا عند هذه الآيات، ففيها من الحقائق الشاملة والايحاءات العميقة مايهزّ الفكروالوجدان. والعجيب انها تعرض هذه الحقائق الرياضية باسلوب يقطر موسيقية وتأثيرا ووجد انا.. ولنتدبرها معا: ”سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع. من الله ذي المعارج. تعرج الملائكة والروح اليه في يوم كان مقداره خمسين الف سنة!! فاصبر صبرا جميلا. انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا“ المعارج٧ـ١.
ان الملائكة والروح، وقد تجردت من عوائق الجسد والتراب التي تقيدالانسان وتجاوزت قوانين الزمان والمكان الارضية النسبية، وتصعد الآن في طريقها الى بارئها عبر معارج امداء لايحيطها قط خيال انسان مهما امتد به الخيال… لانها ستجتاز هذه الامداء التي تبعثرت فيها خمسمائة مليون مجرة في كل منها آلاف المجموعات الشمسية كمجموعتنا واكبر ستجتاز هذه كلها في يوم واحد، لكنه ليس كأيامنا.. انه بحساب ايامنا يبلغ ثمانية عشر مليونا وربع المليون يوما، ولكنه يوم كوني اشار اليه (اينشتاين) في نسبيته تلك التي قادته الى آفاق جديدة رحبة في ميدان العلوم الطبيعية الرياضية.
واذكر مرة اني كنت استمع الى ندوة تلفزيونية علمية وتحدث احدهم عن جوانب في هذه النظرية، وقال فيما قال،
ان وصول انسان ما الى احدى المجرات وسمائها.. يحتاج الى خمسمائة سنة ضوئية، وان هذا الانسان نفسه اذا تيسر له جهاز ينقله عبر الفضاء بسرعة الضوء فانه سيختزل هذه المدة الشاسعة الى مايقرب من خمسين سنة فحسب.
ان الملائكة والروح المتخفف من اعباء الجسد وشد الاعضاء لايعجزها ان تفوق في حركتها سرعة الضوء، ثم فهي تعرج الكون كله في طريقها الى خالق الكون جل وعلا في يوم واحد في حساب حركتها الزمنية عبر الكون.. ولكنه في حسابنا؟! ومن ثم ينادي الله في علاه رسوله الكريم، وهو يشقى بدعوة اناس يرون يوم الحساب بعيدا كبعد السراب، فاصبر صبرا جميلا. انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا!!
وهذا يقربنا بعض الشيء في فهم حادثتين زمنيتين عرضهما علينا القرآن الكريم في سيرة نبيين من انبيائه عليهم السلام وتكريما لهما وتقديرا.. حادثة نقل عرش بلقيس من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال. والاسراء بالرسول من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى ثم العروج به الى رحاب الكون في ليلة واحدة أو جزء من ليلة!!
نقرأ عن الاولى (قال: ياايها الملأ ايكم يأتيني بعرشها قبل ان يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن: انا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك،فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم اكفر؟ ومن شكر فانما يشكر لنفسه، ومن كفر فأن ربي غني كريم. قال: نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لايهتدون؟ فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين. النمل٣٨ـ٤٢).
الاتلفتنا في هذا العرض عبارات كهذه (عنده علم من الكتاب) (وأوتينا العلم من قبلها)؟! ثم ألايثير تساؤلنا تفوق (الانسان) الذي عنده علم من الكتاب على (العفريت) وتمكنه من اختزال عملية النقل من ست ساعات الى سدس اللحظة؟! وربط سليمان اتيانه العلم من قبلها بكونه مسلما اي مقادا لامر الله وسنته ونواميسه؟ ثم ألا يعني هذا كله ان منح (علم الكتاب) لرجل أوعفريت أو نبي أو ملك هو اطلاعه على الدستور الرياضي والطبيعي لقوانين السماوات والارض ومن ثم (تسخيرها) الى اقصى مدى ممكن لتحقيق منجزات زمنية ومكانية خارقه؟
ان الناس قبل ان يسخروا قوى البخار والكهرباء والذرة كانوا يقطعون المسافة بين بغداد والقاهرة بشهرين أو ثلاثة، ولو قيل لهم حينذاك ان بامكان الانسان ـ لو حظى بمزيد من العلم بنواميس الطبيعة وسنتها ـ ان يختزل هذه المدة الى ايام والى ساعات.. فانهم لن يصدقوا، وسوف يتهمون المتسائل بالجنون، أو بشطط الخيال على اقل تقدير. ومضت الايّام والسنون.. وسّخروا الكهرباء والبخار والذرة، وصرنا نصل الى اقصى اطراف الارض بساعات معدودات ونجتاز الارض صوب القمر ونتطلع للذهاب الى ماهو ابعد من مجموعتنا الشمسية في يوم قريب أو بعيد.. ولو قال لنا قائل الآن انه سيجيء يوم يكشف فيه العلماء عن مزيدمن السنن والقوانين الطبيعية والرياضية وانهم سيتمكنون بذلك من صنع اجهزة تنقل الانسان الى القمر في ساعات، لوصفناها بالجنون أو بشطط الخيال على اقل تقدير.. ولكن ذلك اليوم سيجيء. وسيجيء حتما.. طالما كان هناك سعي دائِب للكشف عن مزيدمن جوانب العلم الذي تسير به السماوات والارض. وكثيرا ما يقول القائلون ويكتب القصاص ويخرج المخرجون روايات عن محاولات تجري لنقل الاجسام والاشياء من مكان الى مكان بعيد بسرعة كسرعة الضوء بعد تفكيكها الى تكويناتها الذرية الاولى. واعادة تركيبها في المكان الذي استقرت فيه متحدية حواجز المكان والزمان.. وهذا الامر كذلك لايستبعد ان يتحقق في يوم قريب أو بعيد.. وهل كان بامكان احد قبل قرنين ان يصدق ان بامكان (قنبلة) لاتتجاوز حجم كتاب عوملت فيها الذرات التافهة الحقيرة معاملة خاصة معقدة ان تدمر مدينة كبيرة بأسرها تمحقها محقا من الوجود في دقائق ولحظات؟!
ان القوانين والسنن الطبيعية التي تسيرّ السماوات والارض الى غاياتها المرسومة في علم الله، والطاقات التي تحتويها هذه الكتلة الكونية هي، هي، في كل زمان. والذي يتاح له الاطلاع على بعض جوانبها وفاعليتها يستطيع ان يأتي بالعجب العجاب، ان يتحدى الوقائع المألوفة ويتجاوز تحديات الزمان والمكان فكيف وان هذا العلم سيمنح مباشرة من الله سبحانه، معززاً بارادته التي لاتغلب لذلك الرجل الذي (عنده علم من الكتاب) أو الى نبي كسليمان عليه السلام هل يعجزهما ان يأتيا بعرش بلقيس عبر آلاف الاميال في جزء تافه ضئيل من لحظة زمنية؟!
ونقرأ عن الحادثة الثانية في سورة الاسراء: (سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، انه هو السميع البصير). ونقرأ في سورة النجم:
(ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوى. اذ يغشى السدرة مايغشى. مازاغ البصر وما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى). وفي صحيح البخاري نقرأ عن مالك بن صعصعة ان نبي الله ﷺ حدثهم عن ليلة أسري به فقال: ”ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض، قال الراوي: وهو البراق يضع خطوة عند اقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى السماء الدنيا.. الى آخر الحديث الشريف: لقد امتطى رسولنا الكريم ﷺ ـ اذن ـ براقا انطلق به من القدس ليجتاز به امداء الكون صوب ”سدرة المنتهى“ حيث: جنة المأوى“.. من اجل ان تتاح للرسول ﷺ فرصة نادرة المثال لرؤية جوانب من الملكوت عن كثب تكريما له وتقديرا.
ان البراق هذا المخلوق المجهول الذي يضع خطوة عند اقصى طرفه، والذي قطع المسافات الشاسعة في ليلة واحدة أو جزء من ليلة وربما في لحظات خاطفة يشتق اسمه من عالم الضوء والكهرباء وهي تسمية ذات مغزى عميق جاءت في عصر لم يكن فيه احد يعرف شيئا عن قوانين الضوء وسرعته وطاقات الكهرباء وامكاناتها. وهي لعمري رمز مابعده رمز للتعبير عن الانسجام الكامل بين رحلة الرسول ﷺ وبين سنن العلوم وقوانينها.. تلك الرحلة التي لم يرد لها ان تكون اعجازا تفحم المشركين بعد، اذا لم تقنعهم معجزة القرآن ذاتها بقدرما اريد لها ان تكون رحلة تكريم يطلع الرسول ﷺ على اطراف الكون الذي ابدع الله صنعه واتقن حبكه. وان كان من بديهيات القول ان بامكان الله سبحانه ان يتجاوز السنن والقوانين في اية لحظة يشاء لأنه جلت قدرته صانع السنن والقوانين.. لكن هذه الحقيقة الكبيرة لاتمنعنا من القول بأن رحلة الرسول ﷺ يمكن ان تجد لها تفسيرا وتحليلا حتى على نطاق الطبيعة والرياضيات. وفي صبيحة اليوم التالي عندما تحدى مشركو مكة الرسول ﷺ ان يصف لهم بيت المقدس ان كان رآه حقا.. طفق الرسول يصفه وكأنه معروض عليه عرضا: أزقته واسواقه وباحته وكنائسه وطرقاته. عن جابر، قال رسول الله: ”لما كذبتني قريش نمت في الحجر فجلى الله لي البيت المقدس فطفقت اخبرهم عن آياته.. وانا انظر اليه“!! لحظة من لحظات تجاوز الابعاد والحواجز الزمانية والمكانية تعتمد السنن نفسها التي نقل فيها عرش بلقيس من اقصى الجنوب واسري بالرسول ﷺ الى اقصى الشمال وعرج به في ليلة أو جزء من ليلة الى اقصى الكون.
الملحق رقم (٤)
من شروط النهضة
الوقت:
”ما من يوم ينشق فجره الاوينادي: ياابن آدم انا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فاني لااعود الى يوم القيامة…“
(حديث شريف)
الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الازل.
فهو يمر خلال المدن يغذي نشاطها بطاقته الابدية، أو يذلل نومها بانشودة الساعات التي تذهب هباء، وهو يتدفق على السواء في ارض كل شعب ومجال كل فرد، يفيض من الساعات اليومية التي لاتغيض، ولكنه في مجال ما يصير، ثروة وفي مجال آخر يتحول عدما. فهو يمرق خلال الحياة ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما انجز فيه من اعمال.
ولكنه نهر صامت حتى اننا ننساه احيانا، وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ ـ قيمته التي لاتعوض. ومع ذلك ففي ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، اذا استيقظت، ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب، لايقوّم الوقت بالمال كما ينتفي عنه معنى العدم، انه يصبح جوهر الحياة الذي لا يقدر.
وحينما لايكون الوقت من اجل الاثراء أو تحصيل النعم الفانية اعني حينما يكون لازما للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود، والانتصار على الاخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لاتعوض، ففي هذه الساعات، لاتهم الناس الثروة أو السعادة أو الالم، وانما الساعات نفسها، فيتحدثون حينئذ عن ”ساعات العمل“ اعني العملة الوحيدة المطلقة التي لاتبطل ولاتسترد اذا ضاعت، ان العملة الذهبية يمكن ان تضيع، وان يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لاتستطيع اى قوة في العالم ان تحطم دقيقة ولا ان تستعيدها اذا مضت.
وحظ الشعب العربي والاسلامي من الساعات كحظ اي شعب متحضر ولكن.. عندما يدق الناقوس مناديا الرجال والنساء والاطفال الى مجالات العمل، في البلاد المتحضرة.. اين يذهب الشعب الاسلامي؟؟! تلكم هي المسألة المؤلمة.. نحن في العالم الاسلامي نعرف شيئا اسمه ”الوقت“ ولكنه الوقت الذي ينتهي الى عدم، لاننا لاندرك معناه، ولاتجزئته الفنية. لأننا لاندرك قيمة اجزائه من ساعة ودقيقة وثانية، ولسنا نعرف الى الآن فكرة الزمن الذي يتصل اتصالا وثيقا بالتاريخ مع ان فلكيا عربيا مسلما هو (ابوالحسن المراكيشي) يعتبر اول من ادرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العالم المادي في عصرنا. وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والانتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا.
هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والاشياء.
فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كانا ومايزالان يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة الى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا. وانما يكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة من الساعات الاربع والعشرين التي تمر على ارضنا يوميا.
ان وقتنا الزاحف صوب التاريخ. لايجب ان يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولاشك ان التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الاسلامي تماما قيمة هذا الامر، ولكن بأية وسيلة تربوية؟…
ان من الصعب ان يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب!!…
ومع ذلك فكل علم له مرحلته التجريبية التي تتصف بالاحتمال والمحاولة، وهمايسبقان ضرورة الفكرة الواضحة التي يستخلصها العقل في المرحلة التالية.
فينبغي ان تحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي يعلم (المسلم) علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، فاذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الاسلامية في جميع اشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية.
وسيثبت هذا (النصف ساعة) علميا فكرة الزمن في العقل الاسلامي اي في اسلوب الحياة و المجتمع، وفي سلوك افراده. فاذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولا في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة.
ولابد لنا في خاتمة هذا الفصل ان نورد تجربة قريبة منا، وواقعة تحت انظارنا وهي ايضا في متناول المقاييس العملية, وهذه التجربة هي ما حدث في المانيا عقب الحرب العالمية الثانية تلك الحرب التي خلفت وراءها المانيا عام ١٩٤٥م قاعا صفصفا، حطمت فيها جهاز الانتاج، ولم تبق لها من شيء تقيم على اساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شؤونها تحت احتلال اربع دول، فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الالماني في مستهل سنة ١٩٤٨ وكان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه.
واليوم بعد عشر سنوات تقريبا نرى معرض المانيا يفتح ابوابه بالقاهرة في شهر مارس ١٩٥٧م فتذهلنا المعجزة، اذ ينبعث شعب من الموت والدمار وينشيء الصناعات الضخمة، التي شهدناها.
ولو اننا حللنا تلك المعجزة لوجدنا فيها عوامل شتى لاسبيل الى انكارها، من بينها الاقتصاد في الجهاز الاداري، وفي التكاليف الادارية، فقد اصبح كثير من اعمال الحكومة يقوم به افراد الشعب كواجب عليهم، ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها هو: الزمن.
فقد فرضت الحكومة عام ١٩٤٨م على الشعب الالماني كله، نساء واطفالا ورجالا، التطوع يوميا ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان، من اجل الصالح العام فقط.
ولقد سمي هذا التجنيد العام (روبوتير أربيت) أي العمل للمصلحة العامة. فهذه المعجزة الاجتماعية التي أتت بها المانيا قد كان للزمن في اخراجها حظ موفور، ويمكننا ان ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يبق لديه من الوسائل اثر الحرب الثانية الا العناصر الثلاثة: الانسان، والتراب والزمن.
هنالك… حيث تهدد الصحراء وجودنا وحيث لانملك في ايدينا سوى هذه العناصر الثلاثة سيرى العالم ازدهار حياتنا من جديد هناك حيث يخيم الجهل والفقر سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن، والعلم والرفاهية.
-
الجعل: الخلق والايجاد، والآية: العلامة الواضحة، والمحو: طمس ما فيه. ^