من الثقافة السياسية

العراق في مهب الرياح الدولية

صدر في جمادي الاولى ١٣٩٧ هجري

يحتوي هذا البحث على النقاط التالية:

العصور الجاهلية.
العصور الاسلامية.
العصر الاستعماري.
معالم السياسة البريطانية في العراق.
الصراع الانكليزي الاميركي.
موقفنا.
خاتمة.

مرت على العراق خلال تاريخه ثلاث مجموعات من العصور تباينت فيها أسس الحياة الفكرية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية وتغيرت فيها معالم الحياة اليومية في الاحقاب المتعاقبة وكان التغيير يأتي دفعة واحدة او يحصل بتغيير فوقي يسعى لتغيير الجذور.

ونبدأ من العصر الجاهلي:

نشأت في العراق حضارات جاهلية متعددة منها الحضارة السومرية والاكادية والبابلية والكلدانية والآشورية، واجتاح الارض العراقية غزاة من خارج اراضيه منهم اليونانيون عبروا خلاله عبورا والفرس اقاموا فيه قرونا، وقد انتهت صلتنا بهذه العهود الجاهلية من ناحية فكرية وعاطفية منذ ان نعمنا بنعمة الاسلام.

ولكن محاولات عديدة قام الاستعماريون ويقومون بها لاحياء العلاقات النفسية والعاطفية بيننا وبين الحضارات الجاهلية كأسلوب لمحاولة تجاوز التأثير الاسلامي على المسلمين وعلى غيرهم من الناس العائشين معهم وذلك بالتفتيش المتواصل على آثار الجاهليين وعلى مفاهيم حضاراتهم وابراز اهمية هذه الامور بوسائل الدعاية المختلفة. يقول المختصون بالاثار ان علماء الاثار الغربيين اهتموا بجميع الحضارات التي عاشت في هذه المنطقة الا الحضارة الاسلامية لم يفطنوا اليها الا في وقت متأخر، وهذا ليس من قبيل الصدفة، فقد عمل الاستعماريون على احياء النعرة المصرية في مصر والفينيقية في لبنان والاشورية والبابلية والسريانية والعبرانية ثم العربية والفارسية والتركمانية وكان ذلك من وسائل الاستعمار الثقافي الذي سوف نكتب عنه بمشيئة الله ومعونته.

وقد وجد المستعرون صدى ضئيلا في مجال احياء النعرة المصرية والفينيقية والاشورية وبشكل صوري مفتعل تبناه بعض رجال القلم والصحافة من نصارى البلاد العربية واصاب المستعمر نصيبا اكبر في مجال احياء النعرة العربية والفارسية والتركمانية في نفوس الفئة المتعلمة من بلاد العرب وفارس وتركيا.

وكان من جملة ردود الفعل لظهور هذه النعرات نشوء منظمة فدائيان اسلام بقيادة الفتى الاسلامي السيد نواب صفوي الذي دبَّر اغتيال كسروى الاديب القومي الفارسي المتعصب للحضارة الفارسية والعدو للاسلام.

العصور الاسلامية

هاجر رسول الله ﷺ الى يثرب وتحولت هذه المدينة الصغيرة نواة لاول دولة اسلامية على هذه الارض يعيش فيها الانسان ضمن مجتمع جديد وحضارة وليدة، انطلق انسان هذا المجتمع وهذه الحضارة ليثبت وجوده في عالم السياسة، عالم رعاية شؤون الناس ولينشر رسالته الالهية لتنير الحياة، لايؤمن بحد بشري ولا حد جغرافي، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ‌ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَ‌فُوا ۚ إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ لا يمنع انطلاق الانسان المسلم بحر او نهر او جبل او صحراء ولا يقف دونها تغير الالسن والاقوام، ودليله في الدعوة، ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَ‌بِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ ودليله الآخر، وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ، ومدت الدولة الاسلامية ظلالها الى الجزيرة العربية وزالت ظلال الدولة الكسروية وتحولت بلاد فارس وما تبعها الى جزء من بلاد الاسلام وانحسرت ظلال الدولة القيصرية الى حدود أوروبا.

فقد منّ الله على الذين استضعفوا في الارض وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين وكذلك ينجز وعده.

انه مدّ رسالي قد يسبقه فتح عسكري او دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وليس تسلطا ولا استعلاء في الارض.

وانضوت ارض السواد، أرض العراق، تحت لواء الدولة الاسلامية ودخل اهل العراق الى رحاب الدين الجديد وابتدأ مجد العراق واستمد اهله امجادهم من الاسلام وبالاسلام. دخل العراق في رحاب الدولة الاسلامية بعد اثنتي عشرة سنة من ابتداء تأسيس الدولة واصبح العراق جزءا لا يتجزأ من أرض المسلمين ولم يمض وقت طويل حتى أصبح العراق مركزا للدولة الاسلامية عندما انتقلت عاصمة الخلافة من المدينة المنوره الى الكوفة في عهد الامام علي بن ابي طالب(ع)، وبقيت الكوفة والبصرة من العواصم الفكرية والسياسية في بلاد المسلمين حتى بعد انتقال المركز السياسي الى دمشق ثم عاد المركز السياسي للمسلمين الى العراق في بغداد وسامراء في عهد الخلافة العباسية.

كانت بغداد او سامراء المركز الحقيقي لقيادة العالم لبضعة قرون من الزمان فكانت تمثل المركز السياسي والتجاري والمالي الاول في العالم.

وعندما ضعفت السلطة العباسية على بلاد المسلمين بدأت ظاهرة استقلال الولاة الاداري ثم تحول الى تعدد للدول الاسلامية وكل منها تعتبر نفسها ممثل المسلمين وتسعى للسيطرة على جميع البلاد فلم يكن تعددا انفصاليا بمقدار ما كان يمثل عملا سياسيا اصلاحيا لم يتمكن من السيطرة الكاملة فسيطر سيطرة جزئية وقسم منه يمثل طموحا سياسيا لقيادات عسكرية، فظهرت دول الموحدين والمرابطين والفاطميين والايوبيين والعثمانيين والصفويين والمماليك… الخ.

قامت هذه الدول في بلاد مختلفة من العالم الاسلامي وبفترات تتعاصر او تتتالى.

وتعرض العراق في اواخر الدولة العباسية الى غزو مغولي كاسح نتيجة لضعف القيادة السياسية العباسية في مراحلها الاخيرة وانتقلت المراكز السياسية من العراق الى تركيا وفارس وغيرها من بلاد المسلمين.

ثم توالى على العراق حكم العثمانيين وكانت الدولة الصفوية تنازعهم في فترة زمنية تغلب بعدها العثمانيون واستقروا في العراق.

العصر الاستعماري

ابتدأ الميزان الدولي يميل الى مصلحة اوروبا على حساب المسلمين بعد أن اعترى أعمالهم السياسية وأفكارهم العملية جمود وقف دون الابداع وبعد أن تحرك الفكر الاوروبي وانطلق الانسان الاوروبي يبدع ويبني ويتحكم بمصائر الشعوب.

وما ان اطل القرن التاسع عشر الميلادي حتى شملت السيطرة الاوروبية جميع انحاء المعمورة وصار العالم الاسلامي بدوله الثلاث، العثمانية والقاجارية والمغولية تحت وطأتهم المباشرة او تحت نفوذهم.

وكان من ابرز معالم هذه الفترة:

امتداد السيطرة الاوروبية الى القارات الاخرى.
استغلال البلاد الواقعة تحت السيطرة الاوروبية ابشع استغلال للانسان والارض والثروات الطبيعية.
محاولة ضم اراضي الدول التي لم تقع بعد فريسة للاستعمار في آسيا وافريقيا والسيطرة عليها.
الصراع بين الدول الاستعمارية في اوروبا.

وكان للعراق نصيب من النفوذ الاجنبي على اعتبار انه جزء من الدولة العثمانية التي يتكالب عليها المستعمرون الاوروبيون.

وكان ذلك هو ابتداء العهد الاستعماري في العراق وكان العراق مطمعا للدول الاستعمارية الانكليزية والفرنسية والالمانية.

فكان النشاط الاستعمارى يدخل الى العراق اما بواسطة رئاسة الدولة العثمانية في استنبول او من خلال الاتفاق مع الولاة مباشرة، وكان نابليون فرنسا ذا اطماع استعمارية واسعة فسعى للسيطرة على مصر وسعى للوصول الى الهند من طريق العراق وايران، وكان في صراع دائم مع المستعمرين البريطانيين.

وبعد فشله في مصر أعاد الكرة لدخول المنطقة الاسلامية فأرسل مبعوثيه الى المنطقة ليكوّن صلات مباشرة مع الولاة وفي عام ١٨٠٥ أعد العدة للحملة على الهند ولأجل التهيئة لهذه الحملة عقد اتفاقية مع والي بغداد لتأمين مرور القوات الفرنسيةعبر العراق وقد شكل والي بغداد باشراف فرنسا وحدة عسكرية نظامية وكذلك تحالفت فرنسا مع الدولة القاجارية في ايران.

واثار نشاط الفرنسيين في العراق مقاومة الانكليز وكان للانكليز في العراق فرع لشركة الهند الشرقية التي مهدت لاستعمار الهند لتقوم بخدمات الخطوط البريدية من الهند الى اوروبا عبر العراق، كان قد انشيء في نهاية القرن الثامن عشر للميلاد وكان لممثلي الشركة نفوذ على الولاة في بغداد وقام ممثلو الشركة بأحباط نشاط الفرنسيين وعزل الولاة الذين يتعاونون مع فرنسا بواسطة الباب العالي.

انهزمت فرنسا امام بريطانيا في العراق في بداية القرن التاسع عشر وخلا الجو للانكليز فتأسس في العراق جيش نظامي باشراف ممثل شركة الهند الشرقية في الربع الاول للقرن التاسع عشر واستعمل هذا الجيش للانفصال عن السلطة المركزية الا انه فشل، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحول العراق الى شبه مستعمرة انكليزية وكان حاله في ذلك كبقية البلدان الاسلامية فبعضها وقع فريسة مباشرة للاستعمار الاوروبي والقسم الباقي وقع تحت النفوذ الاستعماري لاحدى الدول الاوروبية وقد تحولت البلاد الاسلامية الى سوق لتصريف السلع الاوروبية ومصادر للمواد الخام بواسطة الاتفاقيات الخاصة التي كانت تعقد مع الدول الاوروبية مثل امتيازات السكك الحديدية والبنوك وصناعة التعدين، وفي نهاية القرن التاسع عشر امتدت يد الامبراطورية الالمانية للسيطرة على الدولة العثمانية باسم الصداقة وكان للعراق نصيب في المطامع الالمانية.

وتحول الصراع من اجل السيطرة على الدولة العثمانية الى حرب بين المانيا وبجانبها الدولة العثمانية وبين بريطانيا وفرنسا وروسيا (الحرب العالمية الاولى) وانتهت الحرب بانكسار المانيا وانسحاب روسيا منها واقتسام غنائم الحرب بين بريطانيا وفرنسا وكان العراق من نصيب بريطانيا حسب اتفاقية سايكس بيكو سنة ١٩١٦م. واحتلت القوات الانكليزية بغداد سنة ١٩١٧م وتولى السلطة فيها العسكريون وتحول العراق الى تابع للادارة البريطانية في الهند.وقاوم المسلمون الاحتلال الانكليزي مع القوات العثمانية وكانت القوات المساعدة للجيش العثماني من العشائر بقيادة علماء من النجف الاشرف، وبعد انكسار الجيش العثماني وسيطرة بريطانيا على العراق لم تستقر الاوضاع السياسية واستمرت مقاومة الحكم الانكليزي المباشر وكانت ثورة العشرين بقيادة علماء من النجف الاشرف وكربلاء والكاظمية.

ولكن الدهاء الانكليزي بالاضافة الى القوة العسكرية تمكن من تهدئة الاوضاع بالاستعانة بعملاء بريطانيا من أهل البلاد وتألفت اول حكومة عربية عميلة برئاسة عبد الرحمن النقيب، اذ ان الانكليز خلال ممارستهم نفوذهم الاستعماري في اواخر عهد الدولة العثمانية تعاونوا مع مجموعة من وجهاء المسلمين مثل السيد النقيب وبعض وجهاء واعيان العراق الذين كانوا يحتلون بعض المراكز السياسية في ولاية العراق.

استقر الاستعمار الانكليزي في العراق بعد ان انهارت المقاومة المسلحة للثوار وشتتت قيادة الثورة بالنفي والسجن، وكان من اهم اسباب انهيار المقاومة.

الفرق الكبير بين القدرة العسكرية البريطانية وقدرة الثوار العسكرية.
عدم وجود تنظيم دقيق لدى الشعب الثائر.
عدم وجود وعي سياسي لدى قيادة الثوار.
وجود مجموعة كبيرة من وجهاء البلاد يتعاونون مع المستعمرين.

و اتجهت القيادة الدينية التي كانت تقود الثوار الى المقاومة السلبية فحرم علماء النجف التعاون مع السلطات وقبول الوظائف الحكومية. ولكن هذه المقاومة السلبية كانت سارية المفعول في قسم من العراق دون قسم آخر فتكونت اجهزة حكومية من اهل البلاد المتعاونين مع الاستعمار الانكليزي. وكانوا على أكثر من مستوى. فقد أوجد الانكليز طبقة من الافندية وشيوخ العشائر ممن لا يعترضون على أي تعاون معهم وهيأوا لهم اسباب الثراء والرفاه المادي ثم وسعوا دائرة هذه الطبقة بايجاد طراز من الاهداف يسعى اليها من يشاء من المتعلمين والقادرين على القيام بأعمال وظائف الدولة العليا بحيث تتلاءم هذه الاهداف مع الخط العام للسياسة البريطانية في العراق.

وتفرد الانكليز بحكم العراق دون منازع الا فترة ضئيلة اثناء الحرب العالمية الثانية عندما تولى السلطة ضباط اربعة حاولوا قلب السلطة الموالية لبريطانيا مستعينين بألمانيا النازية. وكان التسلط الانكليزي يشمل النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، فالاسواق العراقية محتكرة للبضائع الانكليزية والمادة الخام الاستراتيجية الممثلة بالنفط ملك لشركة بريتش بتروليوم. وحكام العراق يحملون الولاء الكامل للنفوذ البريطاني، والارض العراقية مباحة لشركة النفط ضمن الامتياز ومباحة لاقامة القواعد الانكليزية ومسرح الجاسوسية البريطانية.

معالم السياسة البريطانية

ومن معالم السياسة البريطانية في العراق:

اولا: رتب الانكليز عند دخولهم العراق واستيلائهم عليه دوائر الحكومة بما يلائم مصالحهم فالمؤسسات الحكومية التي لها علاقة مع مصالح الناس تركت امورها فوضى وكل ما له علاقة بنقل المواد الخام واستيراد السلع نظم تنظيما جيدا فالميناء في البصرة وخطوط السكك الحديدية وقطاراتها وانابيب نقل البترول ومحطات ضخها والبنوك كلها نظمت تنظيما يفي بأغراض النهب الاستعماري. وكذلك تولت المؤسسات التي لها علاقة بتثبيت النفوذ الاستعماري كدوائر الاستخبارات العسكرية وشرطة الامن وكل ما له علاقة بضبط الامور ومراقبة تحركات السياسيين والتحركات الشعبية في العراق، واما دوائر الثقافة والطابو والمحكمات والشرطة ودوائر الخدمات الاخرى فانها وضعت بحيث تكون معرقلة ومعيقة لمصالح الناس.

ثانيا: عمل الانكليز على تعميق وتوسيع الانقسامات المذهبية والعرقية والعشائرية والدينية واوجدوا فوارق جديدة بين الضابط والجندي والمتعلم والأمي تطبيقا لفكرتهم فرق تسد.

أ. غذى الاستعمار الفوارق لدى الناس واتخذت مجموعة مفاهيم الطبقية كأمر مسلم به فيخضع الشخص خضوعا كاملا لمجموعة من الناس ويتحكم تحكما كاملا بمجموعة اخرى وسرت هذه الامور في قطاعات كبيرة من الناس وعلى سبيل المثال اتسعت الفجوة بين المتعلم والأمي، فالمتعلم او صاحب الدرجة الجامعية يستعلي على العامي واتخذ الاستعلاء والتكبر شكلا نظاميا فهناك مؤسسات تعتمدعلى قواعد الظلم والجور كفكر عملي ثابت وضعه الاستعمار ليكون في مأمن من ائتلاف الناس. فالعلاقات المعاشة بين الضابط العسكري والجندي او ضابط الشرطة والشرطي تتميز بفجوة نفسية واسعة فالضابط يستخدم الجندي او الشرطي استخداما عاديا ويستقبل الجندي هذا الامر بتسليم كامل لأن ذلك اصبح كعرف من الاعراف وذلك تحت مظلة الانضباط العسكري. وفي مجال آخر أقطع الاستعماريون الانكليز بعض أعوانهم الاقطاعيات والاراضي وانشأوا طبقة الملاك المترفين وطبقة اخرى من الفلاحين المعدمين.
ب. لعب الانكليز على اوتار المشاعر المذهبية والدينية والعرقية وازداد انقسام المسلمين في العراق بين شيعة وسنة وعرب واكراد ونمت مشاعر الانفصال بين الاشوريين. وللانكليز اساليب خبيثة في هذا المجال استخدموها في كل مكان حلوا فيه وبقيت آثار اللعبة الاستعمارية في العراق يتوارثها السياسيون العملاء عهدا بعد عهد حتى تركزت آثارها واصبحت تقليدا من تقاليد الحكم المحلي. وحتى ان الحديث النزيه في هذا المجال يورث بعض الحساسية حتى لدى الواعين ومرد ذلك ان لبعض هذه الامور جذورا تاريخية نمت في عهد السلاطين العثمانيين والصفويين ولكن لابد من خوض الحديث لمعرفة الواقع المعاش ونرجو من الله تعالى ان لا ينطقنا الا بالحق.

عاش العراق في القرن التاسع عشر للميلاد كجزء من الدولة العثمانية وعندما ابتدأ الانكليز في مد نفوذهم للعراق كانوا يتعاملون مع الولاة ومعاونيهم الذين هم من المسلمين السنة بينما المسلمون الشيعة كانوا يمثلون الجبهة المعارضة للسلطة العثمانية والجهة المضطهدة على اعتبار انهم يحملون ولاء للدولة المعارضة للدولة العثمانية في المنطقة وهي الدولة القاجارية وقبلها الدولة الصفوية. وعندما دخل الانكليز للعراق غزاة حاربتهم القيادات الشيعية بتنظيماتها العشائرية مع الجيش العثماني على اعتبار انهم كفار محاربون، ثم استمروا بحربهم الى ان انهارت مقاومتهم العسكرية فاستمروا بالمقاومة السلبية، واستعان الانكليز بالسياسيين الموجودين على الساحة العراقية وهم بأكثريتهم الساحقة من المسلمين السنـَّة واستمر هذا الوضع الى الآن، ولا يجرؤ احد من المخلصين على الخوض في هذا الموضوع خوفا من ازدياد الفرقة المذهبية المعقدة،وهو من الامور التي لا يعالجها الا الاسلام والعاملون من اجله.
ج. المشكلة الاخرى في هذا المجال انفجرت على شكل المشكلة الكردية.

الفكر السياسي الذي يعيش في اجوائه المسلمون عربا واكراداً وفرسا واتراكا، هنودا وماليزيين وافغانيين وافريقيين هو الفكر السياسي الذي غرسه الاستعمار على الاعم الاغلب. ومن مفاهيم هذا الفكر او تطبيقاته حلول الرابطة الاقليمية والرابطة العرقية والرابطة المذهبية بدلا من الرابطة الاسلامية. وبعد الحرب العالمية الاولى توزع الاكراد بين ثلاثة اقاليم سياسية رئيسية هي تركيا والعراق وايران.

وبما ان المفاهيم العامة هي مفاهيم اقليمية وعرقية فقد كانت استجابة الاكراد للتحريك السياسي على اساس العرق سريعة وانتشر بينهم شعار المطالبة بدولة كردستان انسجاما مع الجو السياسي العام.

ومن المفارقات العجيبة عند المسلمين انهم يكرهون الاستعمار والمستعمرين الا انهم يستسيغون التعاون معه تعاون الضعيف مع القوي في سبيل التخلص من استعمار يبتلون به فهم يعملون للتخلص من استعمار للوقوع بمخالب مستعمر آخر.

لم يستنكر السوريون تعاون زعمائهم مع بريطانيا كعملاء للتخلص من الاستعمار الفرنسي ولم يستنكر المسلمون في العراق تعاون زعمائهم مع الالمان كعملاء للتخلص من الاستعمار الانكليزي وكذلك الاكراد لم يستنكروا عمالة زعمائهم للانكليز ثم للاميركان في سبيل تحقيق شعار دولة كردستان وعندما يصرح أحد زعماء الاكراد بأنه يتعاون مع الشيطان في سبيل انشاء دولة كردستان فانه يبرر اتصاله بالاستعمار.

ان الشعوب المتعددة انصهرت بالاسلام وان الحل الوحيد للمشاكل العرقية والمذهبية في عالمنا هو العودة الى الاسلام.

ثالثا: للانكليز اسلوب معروف في خلق المشاكل الاقليمية في البلاد الواقعة تحت نفوذهم وهذا ما اوجدوه في العراق.

ينطبق على العراق بوضعه الحالي وبحدوده الجغرافية ما ينطبق على مصر وسوريا وايران والسعودية وبقية البلدان الاسلامية.

فهو نتيجة التقسيمات الاقليمية التي اوجدها الاستعمار قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها، وقد تقصدالاستعماريون في تقسيماتهم ايجاد تداخل اقليمي او عرقي نتيجة لتضارب المصالح بين المستعمرين من جهة وبقصد ايجاد مشكلات اقليمية وعرقية كامنة يمكن للاستعمار ان يثيرها في الوقت المناسب الذي يعينه. والحدود السياسية الحالية هي نتيجة هذه التقسيمات الاستعمارية. ومن الملفت للنظر ان المسلمين ألفوا الاوضاع التي وضعهم فيها الاستعمار وتقولبت افكارهم السياسية بالقالب الذي اراده لهم، فالاقليمية كما حددها الاستعمار للاقاليم المختلفة اصبحت بنظر كثير من المسلمين فكرا سياسيا يعيشونه حتى ان أفكار الوحدة العربية عندالقوميين العرب تعيش في مدّ نظري واعلامي وينقلب هذا المد الى جزر عندما يصطدم عمليا بالحدود الاقليمية. وللعراق مشاكل حدودية مع ايران ومشاكل حدودية مع الكويت، وقد حلّ العراق مشكلة الحدود مع ايران بالخضوع للتفسير الايراني تحت ضغط الاحداث التي نتجت عن اخطاء متكررة للساسة العراقيين تتمثل بأخطاء سياسية فجة اقرب للطفولية منها للنضج وقد وقع الحكام بعهد البكر بفخ لم يفلتوا منه الا بعد تنازلات في الحدود بين العراق وايران. واما الحدود العراقية الكويتية فقد كانت الكويت ولا تزال تطالب بتثبيت الحدود التي لم تعرف المعالم منذ ظهور الاسلام وحتى قبله،فان الكويت والعراق بقيا بلدا واحدا وحتى الحرب العالمية الاولى حيث كانت تبعية العراق والكويت واحدة مما جعل تثبيت الحدود لا معنى له.

وبعد ان خرج العراق عن النفوذ الانكليزي في عهد عبد الكريم قاسم أثيرت قضية الحدود او الكيان السياسي للكويت بشكل فج ومبتور الامر الذي جعل قضية الحدود بنظر الساسة الكويتيين امرا بالغ الاهمية وقد نجحوا بعد ازاحة عبد الكريم قاسم عن الحكم في أخذ تصريح من حكام العراق بتثبيت الحدود مقابل ٣٠ مليون دينار وزعت على الحكام، الا ان ذلك لم ينه القضية فقد تراجع العراق عن اقراره ولاتزال مشكلة الحدود بين الكويت والعراق بدون تثبيت.

رابعا: الاستيلاء على ثروة البلاد النفطية.

وجود النفط في العراق هو احد نقاط جذب الاطماع الاستعمارية وتكالبها على مد نفوذها اليه وتسلطها عليه.

استولت بريطانيا بوقت مبكر على نفط الموصل من السلطان العثماني كبداية وتحولت بقية الثروة النفطية في كركوك وجنوب العراق لشركة بريتش بتروليوم.

بعد الحرب العالمية الاولى طالبت الولايات المتحدة بالحاح مشاركتها بالثروة النفطية وكذلك فرنسا فتنازلت بريطانيا عن قسم من الاسهم لاميركا وفرنسا وهولنده الا ان الامتياز والسيطرة بقيت كاملة لبريطانيا. نعمت بريطانيا بأرباح الثروة النفطية في العراق بدون منازع وحتى انقلاب ١٩٥٨م الذي أحدث رجة عنيفة للنفوذ البريطاني، اتجه قائد ثورة الرابع عشر من تموز عبد الكريم قاسم الى المنطقة الرئيسية للنفوذ البريطاني وهو امتيازات النفط، ودارت مفاوضات صعبة بين عبد الكريم قاسم وشركات النفط انتهت بالفشل واصدر عبد الكريم قاسم القانون رقم ٨٠ المشهور الذي قلـَّص مساحة الامتياز التي كانت تشمل جميع الاراضي العراقية الى المساحة التي تحيط بالآبار المستغلة فقط وانشأ شركة النفط الوطنية وبذلك انتهت مرحلة من مراحل السيطرة الانكليزية على الثروة النفطية في العراق.

حاولت بريطانيا استعادة بعض نفوذها لأن عهد السيطرة الكاملة على الثروة النفطية كان قد انتهى في جميع انحاء العالم وبدأت تطبيقات أساليب جديدة لارساء قواعد العلاقات بين الشركات الاستعمارية والدول المنتجة للبترول. كان لشركة بريتش بتروليوم نفوذ خاص بالعراق، اذ انها كانت والى امد طويل أحد أعمدة الحكم في العراق ولها عملاء محليون منتشرون في مختلف انحاء العراق. والشركة كانت مخططة رئيسية لانقلاب ١٩٦٨م الذي جاء بالعميل الانكليزي البكر الى حكم العراق لينهي معها مشكلة النفط على أسس جديدة فقد كانت الشركة تفكر في التخلص من فرعها في كركوك المسمى أي. بي. سي. شركة نفط العراق وذلك:

لأن الشركة استخرجت الف مليون طن من الآبار وهي كمية ضخمة استنفذت اكثر المخزون.
كانت الشركة تواجه متاعب مع سوريا حيث طريق تصدير النفط الى البحر الابيض.
البديل لهذا الخط غير اقتصادي بالنسبة للشركة حيث يكلف الشركة أكثر مما تأمل من الربح.
تعويضات ورواتب تقاعد الموظفين والمستخدمين في الشركة تقدر بمبالغ طائلة.
عوضت الشركة بكمية كبيرة من النفط الخام بعد اتفاقها مع الحكومة وتم الاتفاق ضمن مسرحية التأميم بقصد ظهور العميل بمظهر المحرر وانتقلت العلاقة النفطية الى استلام النفط الخام في الموانىء بدلا من الصيغة القديمة.

خامسا: العلاقة مع الاحزاب.

وللانكليز دخل في الحياة الحزبية او لمظهر الحياة الحزبية في العراق، وقبل ابراز هذا الموضوع نعرض مفهومنا عن الاوضاع الحزبية قبل شرح علاقة الحياة الحزبية بالرياح الدولية.

لم يعرف العراق منذ ان اندثر الحزب العباسي بانهيار الخلافة العباسية ومنذ ان فقد الحزب العلوي فعاليته السياسية بانصراف قياداته للدراسات الاسلامية النظرية والعملية الفردية والاهتمام بالمشاكل بعيدا عن خوض غمار السياسة بشكل منتظم مدروس لم يعرف العمل الحزبي والحياة الحزبية بالمفهوم الحقيقي لهذه الكلمة.

وقد تكون هذه الحقيقة غير مفهومة لكثرة الاحزاب الظاهرية ولتوضيح المقصود لابد من معرفة مفهوم الحزب لدينا وتطبيق هذا المفهوم على الواقع. من أهم مقومات الحزب:

عمل جماعي منظم.
وضوح الاهداف المتعلقة بمصالح الناس وبعلاقة المجتمع.
وضوح الطريق لتحقيق الاهداف.
الالتزام بالاهداف وطريقة العمل.

ولو استعرضنا الاحزاب العراقية لوجدنا انها تفتقد عنصرا اواكثر من مقومات العمل الحزبي الحقيقي.

فالعمل الجماعي لا يتاح له الظهور الا في نطاق ضيق وذلك للسياسة الاستعمارية التي تعتبر العمل الجماعي مضرا بمصالحها وخطرا على وجودها.

قد تسمح لنشاط حزبي موال للسلطة ويكون في الحقيقة نشاطا من نشاطات السلطة وليس نشاطا حزبيا، وتجربة حزب البعث في العراق اوضح مثال، فالحزب أداة في يد السلطة وليس له الا ما تسمح به واعضاء الحزب البارزين صفوا تصفية شبه نهائية واستعيض عنهم بمن يسير مع السلطة بلا تردد.

والعمل الجماعي الصادر عن حزب البعث هو نشاط حكومي وليس نشاطا حزبيا وسيختفي هذا النشاط عندما يتخلى الاستعمار الانكليزي عن عميله ويزاح الحزب عن موقعه الذي هو اقرب للخدعة السياسية منه الى الحقيقة السياسية.

ولا تمتلك الاحزاب المعلنة في العراق وضوحا في الاهداف بل تمتلك بعض الاحزاب اهدافا لفظية وتمتلك اخرى اهدافا منقولة من اهداف جماعة حزبية اخرى.

فحزب البعث مثلا يطالب بالوحدة العربية وقدوصل الى الحكم في الاقليم العراقي والاقليم السوري في آن واحد وبدلا من ان يتحد الاقليمان المجاوران انقسم الحزب الواحد الى حزبين هذا بالاضافة الى ان الاهداف المكتوبة غير محددة المعاني ولا تحوي أي مقاصد فعلية.

وبالنسبة الى الحزب الشيوعي فان تبعيته المطلقة لروسيا تفقده أي معنى من معاني وجود الاهداف فهو منفذ لدولة اجنبية بصرف النظر عن أي هدف او فكر.

وبالنسبة لرعاية شؤون الناس فانها مفقودة فقدانا كاملا من العقلية العملية لقيادات الاحزاب كلها.

أما الاحزاب الاسلامية فانها لم تصل بعد الى حجم فعلي من حيث العمل الجماعي بحيث يمكن اطلاق اسم الحزب عليها ولاتزال حتى الآن في مرحلة عملها الاولية.

وتستعمل لفظة الاحزاب للتعبير عن مفهوم واقعي يطلقه الناس على النشاطات السطحية التي تقوم بها هذه التجمعات التي تسمى بأسماء حزبية مختلفة.

ظهرت النشاطات الحزبية في العراق التي نراها ونرى امتدادها اليوم بعد انتصار الحلفاء بريطانيا وفرنسا واميركا وروسيا في الحرب الثانية. فقد اتبعت بريطانيا اسلوبا جديدا بالتعامل مع البلاد الواقعة تحت نفوذها لتجديد الخدعة على الشعوب وتمديد بقائها فيها بامتصاص النقمة عليها، وذلك بواسطة تحقيق بعض الشعارات التي تألفها وتعمل على تحقيقها القيادات السياسية في البلاد الواقعة تحت النفوذ وغالبا ما تكون هذه الشعارات غير بعيدة عن المصادر الاستعمارية نفسها.

منحت بريطانيا الاستقلال الظاهر لمجموعة كبيرة من المستعمرات وأقامت الجامعة العربية وسمحت بقيام الاحزاب في العراق، فأجازت السلطات العراقية خمسة احزاب هي: حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وحزب البعث وحزب الاتحاد الوطني وحزب الجبهة الشعبية.

وتقدم الحزب الشيوعي بطلب اجازة باسم حزب التحرير الوطني فلم يجز وتقدم بطلب تأسيس عصبة مكافحة الصهيونية فأجيز. وفي تلك الفترة كان للاخوان المسلمين نشاط في نطاق ضيق وللاكراد حزب باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني له نفوذ بين عوام الناس من الاكراد.

ان التحفز الشعبي في العراق يتأثر بالنشاط السياسي ولذلك فان الاستعمار يكبح جماح النشاط السياسي لكي لا يفلت الزمام من يديه فهو يعطي بعض الحرية لبعض الوقت ليتلافى الانفجار الشعبي ثم يسلب الحرية بعد ان ينفس عن مشاعر الناس المكبوتة، وقبل ان يتحول النشاط السياسي الى فعاليات حقيقية. ولابراز صلات بعض الاحزاب بالتيارات الدولية نورد هنا بعض الحقائق السياسية عنها:

الحزب الوطني الديمقراطي: عرف هذا الحزب بميوله الاشتراكية وباتزانه بعرض القضايا السياسية وبتبنيه الفكر الماركسي. وانكشف بعد قتل عبد السلام عارف ان الانكليز يرغبون بتولي كامل الجادرجي رئاسة الدولة في العراق الا ان مصر تغلبت وتمكنت من تنصيب عبد الرحمن عارف محل أخيه. كشفت هذه اللعبة الاستعمارية الجديدة جريدة اللوموند الفرنسية مما يدل ان العلاقة موجودة بين الحزب والاستعمار البريطاني.

الحزب الشيوعي: ظهر نشاطه خلال الحرب العالمية الثانية بقيادة يوسف سلمان وهو رجل مسيحي من جنوب العراق وقد كانت نوادي الحرية والنوادي الاخرى التي تضم عملاء الاستعمار من المترفين توزع بعض الكتيبات الشيوعية اثناء الحرب العالمية الثانية وذلك لمعادلة الاندفاع العاطفي الذي كان يظهره المسلمون في العراق لتأييد الالمان اعداء مستعمريهم الانكليز. وبذلك تكون نشأة الحزب الشيوعي نالت عطف ورعاية الانكليز ومن بديهيات عمل الاستخبارات الانكليزية ان تدس عملاءها بين قيادات الحزب الشيوعي وخصوصا ان ابتداء النشاط الشيوعي في العراق كان اثناء الحرب العالمية الثانية في فترة تحكم الانكليز في العراق وهم حلفاء للروس. وكانت البيئة السياسية العاطفية الشعبية في العراق بيئة معادية للانكليز أشد العداء وموالية للالمان اعداء الانكليز والشيوعية. وقد تعرض الحزب الشيوعي لاضطهاد حكومات مختلفة في العراق. وظهر تأثير عملاء بريطانيا في النشاط الشيوعي في العراق في مناسبات منها الاندفاع الانفعالي في بعض فترات حكم عبدالكريم قاسم. ومنها النشاط السياسي المعادي لحكومة طاهر يحيى بعد قبوله لعرض نفطي قدمته الحكومة الروسية فيه كسر للاحتكارات النفطية في شباط سنة ١٩٦٨م والذي كان أحد الاسباب التي دبر الانقلاب على الحكم من اجلها. وبعد قبول العرض ظهرت نشاطات تخريبية في منشآت النفط في كركوك ونشاط طلابي بقيادة الشيوعيين يحمل شعارات طلابية اتسع نطاقه وقداضطربت الوزارة من اجله في فترة كان ينبغي فيها اسناد الحكومة لانجاح العرض النفطي الذي يكسر الاحتكارات النفطية البريطانية في العراق.

وكان ذلك من دلائل انخفاض الوعي السياسي لدى الاحزاب وارتباطها بشكل مباشر او غير مباشر بالاستعمار البريطاني.

ابتلى الحزب الشيوعي في العراق بالانشقاقات في سنيه الاولى وما زال. والحزب المرتبط مع السياسة الروسية هو الحزب الذي يتعاون مع حكام العراق بضغط الحكومة الروسية من خلال علاقاتها مع الحكومات العراقية فقد تعاون هذا الحزب مع عبدالكريم قاسم وبعده مع حكومة احمد حسن البكر.

حزب البعث: نشأ حزب البعث في اوساط طلابية بقيادة الركابي ولم يتحول الى حزب سياسي الا بعد ان سلط عليه عبدالكريم قاسم الاضواء وبعد ان ركب موجة التأييد الشعبي لعبد الناصر. ونتيجة لأسلوب عبد الكريم قاسم في التعامل مع معارضيه نمى الكيان السياسي لحزب البعث وانتشر تأييده في اوساط الاجهزة الحاكمة المعادية لعبد الكريم قاسم. استعمل الانكليز الحزب لضرب عبدالكريم قاسم بعد ان تخلى الاميركان عنه لعدم ملاءمته لمشاريعهم ودخل الحزب بواسطة رئيسه احمد حسن البكر السياسة من بابها الواسع في الانقلاب الثاني سنة ١٩٦٨م بعد ان تعاون مع معاوني عبدالرحمن عارف ضباط الاستخبارات والحرس الجمهوري برعاية شركة بريتش بتروليوم وسرعان ما تخلص عملاء بريطانيا من عملاء اميركا السذج.

اتبع حزب البعث سياسة القمع للحركة الاسلامية كما فعل الانكليز أبان الاحتلال.ان الاستعمار البريطاني ينزعج من التحرك الاسلامي الجاد ويعمل على ضرب الحركة الاسلامية فاستعمل الرغبة الجامحة لدى البكر واعوانه في التسلط والحكم ووجهه الوجهة التي يريدها. والحزب يخشى التكتلات الحزبية وذلك لقيام العمل الحزبي على العمالة، فالاستخبارات الاستعمارية الغربية تفتش عن العملاء الجدد بين قيادات الاحزاب والقيادات الشعبية تدفعهم الى السلطة وتستخدمهم لتنفيذ خططها ويخشى الحكام العملاء من حزب البعث ان تقوم قيادات الاحزاب الاخرى بهذا الدور ولذا فان حزب البعث يكافح العمل الحزبي بضراوة وبطش وانفعال وينفذ الرغبة الاستعمارية في ضرب الحركة الاسلامية لتوافق هذه الرغبة مع ميوله النفسية وتربيته الحزبية المعادية للاسلام والعاملين له.

الصراع الانكليزي الاميركي في العراق:

بعد الحرب العالمية الثانية اندفعت اميركا لتصفية المستعمرات البريطانية وحاولت الدخول الى العراق الا ان النفوذ البريطاني المتعدد الوجوه جعل طريق اميركا صعب المسالك فقد كان نوري السعيد أحد العقبات الكبرى امام التسلل الاميركي فقد اهان صالح جبر وهو رئيس وزراء سابق ومن اقوى الشخصيات السياسية في العراق في العهد الملكي بارسال احد جلاوزة الشارع البغدادي لضربه بعد ان اتصل بجون فوستر دالاس وزير خارجية اميركا اثناء مروره بالعراق.

حاولت اميركا اغتيال نوري السعيد بواسطة السفير العراقي في واشنطن علي جودت الايوبي الذي اتصل باحدى المنظمات السرية في العراق واغراها باغتيال نوري السعيد الا انه فشل في تحقيق ذلك لأن الذي كلف بالتنفيد رفض ان يكون اداة للصراع بين العملاء.

ولم تنجح محاولات اميركا لدخول العراق الا بشكل جزئي بانقلاب عبد الكريم قاسم الذي اكتشفت اميركا بعد مدة من ممارسته الحكم انها لم تعثر على العميل الذي تريد فسحبت تأييدها له ونجح الانكليز باستعادة مركزهم بانقلاب ١٤ رمضان الذي حمل تناقضا بين طياته اذ حاول حزب البعث الاستفادة من اسم عبد السلام عارف فشاركه بالحكم وانقلب عليهم وكان مرتبطا بعملاء اميركا في المنطقة وجاء بعده اخوه عبد الرحمن الذي زاحمه على منصبه عميل بريطانيا غير المكشوف كامل الجادرجي. وتمكنت بريطانيا من التخلص من عملاء اميركا في الانقلاب التموزي الأخير سنة ١٩٦٨م.

ان عمالة الانقلابيين في العراق غير مكشوفة تماما نتيجة للاوضاع الدولية الجديدة التي من طبيعتها ان تكون للعملاء حرية التحرك.

والذي يستعرض تحركات العملاء العريقين امثال شاه ايران وامبراطور اثيوبيا السابق وحرية اتصالهما بالدول الشيوعية يتضح له ان هذا التحرك لايعني الاستقلالية، فالارتباطات الاستعمارية الجديدة لا تمنع من حرية التحرك الدولي.

ان النتائج الفعلية لحكم الانقلابيين في العراق لم يغير من واقع الحال كالسجون والمعتقلات واضطهاد الانسان والفوارق الكبيرة في المستوى المعاشي وسوء الاوضاع بكل جوانبها رغم الثروة الضخمة التي ترد العراق من الانتاج النفطي، والارتباط الثقافي و السياسي والاقتصادي بالخارج كلها دليل عدم الاخلاص وعدم الكفاءة للحكام والعمالة للمستعمر.

ان المتتبع لاحداث السياسة يلمس لمسا مباشرا الارتباطات المشبوهة للحكام.

موقفنا:

تغيير الاوضاع يحتاج الى انطلاقة الانسان المسلم من الحدود الفكرية التي يعيشها الآن وهذا منوط بنجاح الحركة السياسية الاجتماعية ولكن لا بد من وجود نظرة اصلاحية مرحلية للعاملين في طريق التغيير.

وموقفنا من وضع العراق السياسي في الوقت الحاضر في مجال المساهمة باخراجه من نطاق تيارات الرياح الاستعمارية هو كما يلي:

ظهور قياديين في المجتمع من الدعوة واصدقائها عندما يسمح الظرف للمساهمة والمشاركة في اصلاح الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد وتوجيهها نحو الاسلام بالقدر المستطاع.
ينبغي ان يكون احترام المواطن شعار جميع العاملين في حقل السياسة العامة من السياسيين والاحزاب وان نلغي النظرة التي ورثها الحكام عن المستعمرين.

ان الغربيين يعتبرون الشعوب الاخرى من غير الشعوب الاوروبية وامتدادها في القارات الاخرى شعوبا منحطة فيسمونها شعوبا ملونة او شعوبا متخلفة او متطورة او نامية، وحتى اليابان التي ضاهت الغرب في مضمار الصناعة والزراعة وفاقت على أكثر دولها يعتبرونها من الشعوب المقلِدة.

ويعتبر الغربيون ان العرق الآري هو العرق الارقى والافضل بين العروق الانسانية. وقد ورث حكام العراق هذه النظرة عن غير قصد حضاري كما هو الحال عند الاوروبيين ولكن النتيجة العملية هي نفسها، فهذه النظرة تورث احتقار الناس وعدم الاهتمام بمصالحهم ولذلك نرى السجون مملوءة بالسياسيين ونرى التعذيب الوحشي للناس سياسة ثابتة لدى الحكام ويتفننون في ذلك ويزدادون ضراوة. فلا يرف للحاكم جفن وهو يشاهد المآسي من صنع يديه، فعندما سمّمت الحكومة بذار الحنطة بسم من اكثر السموم اضرارا بالناس مما سبب مأساة بين الفقراء الذين كانوا بحاجة الى الرغيف، وكان رد فعل الحاكم هو قوله:

”طبهم مرض من قال لهم يأكلوا الحنطة“

ويمكن ان يقارن هذا الحاكم بوزير الطيران الياباني الذي استقال من الوزارة لأن طائرتين في أجواء اليابان قد اصطدمتا.

ان احترام الانسان في العراق يمكن ان يكون بداية انطلاقة بمعنويات عالية تؤثر على مجريات الامور في البلاد.

ويساهم في تثبيت احترام الانسان اجراء انتخابات بلدية ونيابية ونقابية ومهنية مختلفة بدون تدخل السلطات.
ينبغي الغاء ما ثبته الاستعمار الانكليزي في العراق وهو التفريق بين المواطنين في المعاملة على أساس المذهب أو العرق أو الدين وتتاح للجميع فرص متساوية للتقدم وللحصول على الخدمات المختلفة. والعراق من البلاد التي تعقدت فيها هذه القضية بشكل جعل فجوات وفوارق نفسية وشعورية بين مختلف المذاهب والقوميات كما ينبغي توزيع صلاحيات السلطة المركزية على المحافظات والبلديات مع توسيع دائرة الانتخابات الحقيقية ليساهم ذلك في تقليص احتكار الوظائف على فئة دون اخرى ويتيح مجال الخدمات لعاديي الناس اكثر.
ينبغي ان يتخلص العراق من النفوذ الانكليزي السياسي والاقتصادي وكذلك النفوذ الاميركي. ان الوضع الدولي موات تماما لخلع نير النفوذ الاستعماري من العراق وكذلك من جميع البلاد الاسلامية.
ينبغي ان ينتج النفط العراقي ويسوق حسب مصلحة العراق لا حسب حاجة الدولة الصناعية الاستعمارية.
تحديث الصناعة والزراعة والاعمال الاقتصادية الاخرى كخطوات مساعدة للتحرر الاقتصادي من اخطبوط الاحتكارات الرأسمالية. ففي المجتمعات غير الناهضة يمكن للاصلاحيين ان ينشئوا مؤسسات جيدة من حيث تنظيمها وفعالياتها ولا مانع للتغييريين حينما يستطيعون ان يقوموا مقام الاصلاحيين في ذلك.

ان تحديث الصناعة والزراعة والاعمال الاقتصادية الاخرى يقتضي ان تزال الحواجز التي تحجز عن الناس معرفة الفنون والعلوم والحصول على المهارات المختلفة ضمن ترتيب الامور حسب الامكانيات ولا بد لتحقيق ذلك من:

أ. تعريب العلوم والفنون الصناعية والزراعية والتعليمات المتعلقة بتفاصيل الاعمال المختلفة في هذا الشأن.
ب. تغيير نظم التعليم ليتماشى مع متطلبات المجتمع وتيسيره للجميع.
ج. تدريب المنظمين القياديين لمختلف المشاريع والمؤسسات وتدريب الفنيين والايدي العاملة لمختلف الاختصاصات والمستويات.
د. وضع اولويات حسب الامكانيات ضمن تخطيط اقتصادي ملائم.

خاتمة:

مرّ العراق بتجارب مريرة من سوء الحكام ومن ترك المسلمين العمل السياسي واعتمادهم على زعامات غير كفوءة او ترك الامور على غاربها يأسا من اصلاح الاوضاع.

ان الاجيال تعيش في ظلال الظلم منذ بداية هذا القرن في ظلال الحكم الاستعماري المباشر او بواسطة العملاء منذ عهد نوري السعيد والى عهد احمد حسن البكر.

وقد جربت خلال هذه الفترة نشاطات الاحزاب المختلفة ومقدار التزامها بشعاراتها، ولعل العراق اوذي على يد العملاء الجدد اكثر بكثير من العملاء المكشوفين.

ان يكون للمسلمين في العراق كرامة وعزة واحترام، وان يكون للعراق وزن سياسي في عالم اليوم منوط بالتزامه بالاسلام.

ان الالتزام بالاسلام وحده القادر على التغيير وعلى العمل السياسي الاصلاحي الذي يصب في تيار التغيير.