الواقع السياسي للامة الاسلامية

صدر في عام ١٣٩٥ هجري

(١) تمزيق بلاد المسلمين

قبل الحرب العالمية الاولى كانت الدولة الاسلامية التركية وبضمنها الدولة الاسلامية الايراينة اكبر دول العالم من حيث المساحة والسكان والثروة، فقد كانت تضم اكثر آسيا وافريقيا والهند وقسما من اوروبا. ولكن تراكم الانحرافات المزمنة والكبيرة عن الاسلام جعل من هذه الدولة هيكلا ضخما بينما تدهورت الاوضاع السياسية فيها تدهورا بشعا واصبحت البلاد في الداخل مرتعا للفساد المستشري: فقر وظلم واقطاعية ونهب وعصابات خارجة عن القانون، وعصابات تحكم باسم القانون.

كانت دولة قائمة على القاعدة الفكرية للاسلام ولكنها لا تملك من وعي هذه القاعدة والاخلاص لها الا القليل القليل.

وكانت دولة تعلن انها تطبق الاسلام وتقوم ببعض الجهود لتقنين الشريعة الاسلامية بأسلوب حديث، ولكن الواقع العملي هو ان الرغبات الشخصية للحاكم وللاقطاعي وللعصابة فوق كل اعتبار.

كانت دولة اسلامية بالاسم والشعارات الاسلامية الكبرى وبالامجاد التاريخية الضخمة اما المحتوى الاسلامي فكانت منه شبه خالية.

وامام هذا الضعف وقعت الدولة العثمانية والقاجارية تحت وطأة النفوذ الاوروبي، وكان من الممكن لاوروبا ان تسيطر عليها سيطرة كاملة قبل الحرب العالمية الاولى لولا الصراع الدولي بين انكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا والمانيا.

وبعد الحرب العالمية الاولى كان الانكليز والفرنسيون هم الاكثر انتصاراً فبادروا الى الاستيلاء على البلاد الاسلامية واقتسموها ومزقوها مزقا صغيرة، وقد اوغلت بريطانيا في هذا الاتجاه اكثر من فرنسا اذ ان فرنسا اتجهت الى تحويل البلاد التي استولت عليها الى ولايات فرنسية.

وساعد الاوروبيين على هذا التمزيق التدهور الداخلي للدولة الاسلامية فأشاعوا (موجة الاستقلال) في بلاد المسلمين والتي كانت تعني الانفصال عن بقية العالم الاسلامي بينما لاتعني الانفصال عن النفوذ الاستعماري.

كان لايثار جدل حول الهيمنة الاجنبية بينما تؤجج روح العداء للحكم التركي وتثار العصبيات العرقية والاقليمية والقبلية في البلاد الاسلامية، وقد تعاون كثير من حكام المسلمين ومن الطامعين في الحكم والزعامة مع المستعمرين على (تحرير بلادنا واستقلالها).

وقد نتج عن هذا التمزيق ان اصبح المسلمون يعيشون في اكثر من خمسين كيانا مفتعلا منفصلا بعضها عن البعض الآخر، نذكر في ما يلي اهمها:

اليمن الشمالية، اليمن الجنوبية، الممكلة السعودية، عمان، قطر، البحرين، الامارات العربية المتحدة، العراق، سوريا، لبنان، فلسطين، الاردن، مصر، السودان، ليبيا، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، الصحراء الاسبانية، ايران، الافغان، الهند، بانغلادش، الملايو، اندونيسيا، الفليبين، جزائر متفرقة في المحيط الهادي والمحيط الهندي، كازاخستان، اذربيجان، تركمانستان، طاجكستان، قرقيزستان، غينيا، غانا، سيراليون، فولتا العليا، داهومي، توغو، ساحل العاج، تشاد، النيجر، السودان الغربي، نيجريا، ارتريا، الصومال الفرنسي، صوماليا، زنجبار، تركيا، الصرب…

واستمر المستعمرون في تخطيطهم البعيد المدى فلم يكتفوا بتمزيق الامة الاسلامية الى اوطان وقوميات يلهبون في ما بينها انواع العصبيات العدائية بل أوجدوا كيانات معادية للاسلام للمزيد من ضرب الاسلام وترسيخ العداء في المنطقة فأوجدوا دولة علمانية تعادي الدين في تركيا حيث كانت مقر (الخلافة الاسلامية) وأوجدوا كيانات دينية غير اسلامية حيث تيسر لهم ذلك، فجعلوا لبنان كوطن للمسيحيين والهند كوطن للهندوسيين، واسرائيل كوطن لليهود. وركزوا اسنادهم بشكل خاص على الوجود اليهودي لفائدته الكبيرة لمخططهم، فالاتراك والهندوس والمسيحيون من اهل المنطقة وجذورهم الثقافية متأثرة بالمحيط الاسلامي الذي عاشوا فيه وليس لهم نفوذ داخل الدول المستعمرة ولذا كانوا اقل قيمة لدى المستعمرين من اليهود.

اما اليهود فهم جزء من القوى المادية والحضارة المادية الاستعمارية، وهم من ذوي الحقد البغيض للمسلمين ومن ذوي المطامح السياسية في المنطقة لذلك وجدوا فيهم ضالتهم وجعلوهم رأس حربة في قلب العالم الاسلامي تستعمل في الاوقات المناسبة لاضعاف المنطقة ومعاقبة من لا يخضع للخطط الاستعمارية.

وعندما تقاسم الاوروبيون العالم الاسلامي ركضت الولايات المتحدة الاميركية التي كانت تقبع بعزلة في قارتها الى ما قبل الحرب العالمية الثانية ركضت لتأخذ حصتها من الغنائم وجعلت من مساندتها للدول المستعمرة في الحرب الثانية حجة فدخلت المنطقة كمساهمة في استغلال الثروات النفطية، ومن خلال هذه النافذة استمر نفوذها بالتزايد الى ان وصلت الى مرحلة كادت ان تصفي النفوذ الاستعماري لانكلترا وفرنسا.

كانت اميركا في أول الامر تظهر بمظهر المناصرة للدول الضعيفة في بلادنا تتستر بذلك لتثبت نفسها في المنطقة وما ان ثبتت سيطرتها حتى تبنت كل مخططات اسلافها الاستعمارية وزادت عليها.

ثم أخذت روسيا تحاول دخول حلبة الصراع الدولي في منطقة عالمنا الاسلامي اضافة الى الاجزاء التي احتلتها منه وضمتها اليه, واخذت ايضا تظهر بمظهر المناصر للدول الضعيفة لتأخذ حصتها من النفوذ. ولكنها الى الآن لم تلق نجاحا كسابقاتها.

واخيرا جاءت الصين تحاول الحصول على حصة من النفوذ في بلادنا، ولكن الى الآن لم يسمح لها بشيء يذكر.

(٢) طبيعة القيادات في البلاد الاسلامية

الخط الرئيسي لخطط الاستعمار واعماله في بلادنا هو القضاء على العقبات التي تعترض طريقه في تثبيت نفوذه واستمراره. واكبر عقبة في نظره بعد عقبة الصراع الدولي هي النخبة الطيبة من اهل البلاد التي تأبى الخضوع والخنوع وتأبى المساومة.

ولذلك بادر المستعمرون في بداية سيطرتهم الى ازالة من وجدوا من هذه النخبة واوجدوا فئة جديدة تتعاون معهم وتخضع لاوامرهم وترعى مصالحهم.ولكي يحولوا دون ان تعود النخبة ذات الطبيعة المقاومة لنفوذهم مرة اخرى اخذوا يعملون ليل نهار على افساد امتنا وتمييعها فكريا وخلقيا، وأقاموا لذلك اجهزة متعددة ومتنوعة تهدف بمجموعها الى القضاء على أصالة الامة المتمثلة بالاسلام ونزع ثقتها بنفسها وطبعها بثقافة المستعمرين وتركيز هيبتهم وتفوقهم في نفوسها…واخذوا يخرجون من خلال هذه الاجهزة أفواجا من الضعفاء المبهورين يختارون منهم القيادات الفكرية والسياسية لبلادنا، يضربون كل من له كرامة وأصالة من ابناء الامة.

وكما كان يوجد لشيخ الطريقة الصوفية مريدون في بلادنا فقد اصبحت الحضارة الغربية الكافرة شيخ الطريقة الصوفية الجديدة واصبح لها مريدون يرون فيها المثل الاعلى ويركضون لاهثين وراء سرابها ويقفون مبهورين امام فكرها المادي وحضارتها المادية وانجازاتها المادية ونظمها الاجتماعية.

يتصل احدهم بالحضارة الغربية اتصالا مباشرا فيرى الجانب السطحي منها: لايرى المرأة التي تعمل بالحقل او تجمع الاعشاب، ولا التي تعمل في المعمل تحت ظروف مرهقة، ولا التي تلاقي الظلم والمهانة من اسرتها ومجتمعها وسيدها في العمل. ولكنه يرى المرأة المتجملة في العواصم الغربية في الشوارع والحانات ووسائل الاعلام.

يرى المصانع والمعامل الضخمة والسلع المتنوعة ولكنه لا يرى المواد الخام من أين سوّقت، ولا يرى الدوافع النفعية البحتة التي تدفع الانسان الغربي لانتاج هذه السلع.

يرى المظاهر السطحية للفكر المادي وللنظام القائم ولايرى الاسس الباطلة الظالمة التي يقوم عليها النظام.

انه يكتفي بمشاهدة المظاهر في عواصم الحضارة المادية ويقف امامها مدهوشا مبهورا منهزما يراها مبتورة عما وراءها من تقاليد موروثة ودوافع خبيثة وروح عدوانية وبؤس وشقاء فردي وجماعي.

وهو ايضا يرى الانتاج في مرحلة العرض بأشكاله الجاهزة ووسائله العاملة في خدمة الناس ورفاهيتهم،ولايرى الجهود المضنية التي حققت ذلك، لايرى التعب والارهاق والسهر والعمل في الظروف القاسية وراء الصغير والكبير من السلع والوسائل، ولذلك لايتعلم ان طريق التقدم الحقيقي الذي يجب ان تسير فيه بلاده هو طريق العمل الجاد المتواصل لاطريق التقليد للمظاهر السطحية والمفاسد السياسية والاقتصادية والفكرية التي تعيشها مجتمعات الحضارة المادية.

وفي مقابل ذلك يرى مظاهر الضعف والانغلاب والسلبية في بلادنا فيرجعها الى الامة والى دينها وتاريخها ويبرىء منها خطط الاستعمار واعماله.

ويرى بعض مظاهر القوة والايجابية في بلادنا فيرجعها الى الاخذ بالحضارة الغربية ولا يرجعها الى اصالة الامة في رسالتها ووجودها.

هؤلاء المريدون المبشرون بالحضارة المادية الاستعمارية هم النوع المفضل لدى المستعمرين الذين يسخّر الاستعمار وسائله لتنصيبهم قادة سياسة وقادة فكر في بلادنا.

وطبيعي ان لانتصور ان كل قادة السياسة والفكر في بلادنا هم بهذه الدرجة من الذوبان والتبشير بالحضارة الغربية وافكارها، فهم على درجات مختلفة ولكنهم يلتقون جميعا عند اكبار المستعمر والاستهانة بأمتهم ورسالتها الاسلامية، يلتقون على رهبة المستعمرين والرغبة فيما عندهم، يخشون المستعمرين ولا يخشون الله، ويرجون ما عندهم ولا يرجون ماعندالله.

ان تشكيلات الانظمة الحاكمة في اقطار العالم الاسلامي تختلف الواحدة عن الاخرى بدرجة التأثر بالاستعمار،ولاتختلف في الجوهر.

وكذلك الوعي السياسي لخطط الاستعمار وافكاره واعماله يختلف في شعوب أمتنا من قطر لآخر.

ولهذا نرى الاستعمار يرضى من الحكام والمفكرين الاقل ذوبانا بأقل مما يرضى من الحكام والمفكرين الذائبين فيه كليا. ونراه يرضى من الاقطار ذات الوعي السياسي الاكثر في تمشية مصالحه بنصيب اقل من البلاد ذات الوعي السياسي الضئيل.

وتبعا لذلك كان الحكام في بلادنا الاسلامية يتفاوتون في علاقتهم بالاستعمار فمنهم من يأتمر بامر سفير دولة استعمارية او مستشار في سفارة دولة، ومنهم من يأتمر بأمر مسؤول كبير في دولة استعمارية، ومنهم من يساوم المستعمر ضد مصالح بلاده لتثبيت مركزه، ومنهم من يساوم المستعمر لتحصيل بعض المصالح لبلاده لتثبيت مركزه.

ان جميع اشكال الحكم في بلادنا الاسلامية قد فرضت على الناس فرضا بطريقة وأخرى. وان جميع الحكام في بلادنا هم من ذوي الخلفية العقلية التي تعتقد بأن استمرار وجودهم يعتمد على رضا المستعمرين او على عدم غضبهم على الاقل.

وان مظاهر الفساد السياسي التي يعيشها الحكام يوميا دون الالتفات الى الاضرار التي تقع على الامة ودون الالتفات الى الانعكاسات التي تسببها هذه المضار في نفس الامة، ان هذا السلوك دليل واضح على ان ارتباط الحكام الحقيقي ليس مع الامة وانما مع غيرها.

وتتمثل مظاهر الفساد السياسي هذه بالقوانين الجائرة الكافرة التي يسنها ويطبقها ظلمة جائرون دون رادع يردعهم، وتتمثل في المحسوبية والمنسوبية التي هي من اشيع الامراض في اقطارنا الاسلامية, فالحكم في كل مستوياته محتكر لفئة معينة تتقاسم الغنائم التي هي فتات الاستعمار او ما ابقاه من ثروات المسلمين. وتتمثل في تسلط القوي على الضعيف، وفي عدم تكافؤ الفرص في كل المجالات فالوظائف المهمة لاتعطى الاللضالعين مع الحاكم المتملقين له السائرين في ركابه ولو كانوا منحطين خلقيا وفاشلين اداريا، وتتمثل في انهيار الاخلاق على مختلف المستويات.

وهذا الامر ينطبق على جميع الاقطار الاسلامية وجميع اشكال الحكم فيها من دكتاتورية وملكية وديمقراطية جمهورية واشتراكية… والفروق التي توجد بين قطر وقطر فروق قليلة وان بدت كبيرة نسبيا.

وامام هذه الاوضاع ليس لدى المسلمين أي خيار الاالقبول والتسليم للاوضاع الفاسدة القائمة، او المقاومة الجادة للاستعمار واعوانه. ولكن من المؤكد ان القيادات السياسية والفكرية القائمة ليست مؤهلة لمقاومة الاستعمار بسبب خلفيتها العقلية التي تجعلها مهزومة امام هيبة الاستعمار نفسيا.

(٣) الفجوة بين الامة والاستعمار

طبعا لايمكن ان نتصور ان الامور تسير في العالم الاسلامي بصورة متطابقة كليا مع خطط الاستعمار، فالوجود الاستعماري يقابله وجود اهلي او وجود شعبي يعادي الاستعمار عداء تبعثه العقيدة الاسلامية الثابتة الجذور في الذهنية الشعبية وتؤيده الكرامة الانسانية والاتجاه التحرري النامي في العالم المستعمر، وهذا العداء يجعل من الصعب على الاستعمار تمرير مخططاته بشكل مفضوح.

ولأن الاستعمار يدرك هذا العداء وهذه الفجوة فهو يحاول ان يقدم مشاريعه الاستعمارية بعد دراسة معمقة وشاملة للمنطقة التي يتعامل معها لتكون مشاريع مستساغة ومقبولة من اهل المنطقة.

ان قسما كبيرا من الاعمال الاستعمارية ليست مفضوحة فتكون اما مقبولة من الناس او تكون موضع سكوت منهم. وعندما تنكشف الاعمال الاستعمارية تؤدي الى ردود فعل مناوئة شديدة او ضعيفة حسب عوامل متعددة معقدة نسميها الظروف الموضوعية.

اما الاعمال الاستعمارية المفضوحة فهي تلقى مقاومة سريعة بمجرد طرحها، مقاومة شديدة او ضعيفة حسب الظروف الموضوعية ايضا.

وما الفجوة الواسعة بين الناس والحكام في الاقطار الاسلامية الا وجهاً من اوجه الفجوة بين الامة والاستعمار، وهي فجوة اوضح من ان تحتاج الى دليل او شرح. واما ادعاءات القيادات وشعاراتهم بأن لهم شعبية وتأييدا من الامة فيكذبها الواقع الملموس في كل الاقطار الاسلامية.

نعم قد يحب المسلمون في قطر من الاقطار حاكما لاعتقادهم بأنه يعادي الاستعمار ويقاومه، او لاعتقادهم بأنه يقوم بخدمات مخلصة للناس، ولكن هذه الحالات لاتنفي الفجوة بين الحاكم والناس حيث يعزون عندئذ الاوضاع الفاسدة والاعمال المضرة بهم الى جهاز الدولة ويحاولون تبرئة الحاكم، ولكنه عندما ينكشف امره لهم يندمون على حبهم، وقد يحولونه الى نقمة على الحاكم الذي احبوه.

وهذا المدخل بالذات احد المداخل التي يستعملها الاستعمار لاطالة وجوده في بلادنا، حيث يأتي بحكام جدد وفئات يتظاهرون بمعاداته ويبالغون في اظهار مقاومته، ويقومون ببعض الخدمات الجانبية للناس، فيكسبون محبة الكثيرين منهم وتأييدهم الى حين.

(٤) مسميات ثورات ومسميات اعمال

ان ما يسمى بالثورة العربية والثورة الافريقية والثورة الايرانية١ والثورات الشعبية في بلدان المسلمين ما هو الامهزلة ومسميات خالية من المضامين. فلا الفئات اليمينية ولا الفئات اليسارية في بلادنا تعمل من اجل تغيير حقيقي وتخليص بلادنا من المستعمرين. انما تعمل في خطين متوازيين: الاول: ارضاء المستعمرين والمحافظة على مصالحهم الكبرى. والثاني: التمسك بالسلطة وبالمنافع الشخصية الناتجة عنها. وكل الشعارات التي يرفعونها خالية من المحتوى الحقيقي والتصميم الجدي على التغيير سواء في ذلك الشعارات اليسارية والاشتراكية واليمينية والاسلامية والعلمانية.

ان بلادنا الاسلامية لم تشهد الى الآن الثورات الحقيقية والتيارات المخلصة لتغيير واقعها والنهوض بها.

والبسطاء من الناس اصحاب الفكر السطحي والمتشيعون للانظمة السائدة الذين يعتقدون باخلاص هذه (الثورات) وجديتها او يبالغون في الدعاية لها، هؤلاء مغرر بهم او منافقون.

والمشاريع المعلنة في مختلف الاقطار الاسلامية في القطاع الصناعي والزراعي وقطاع الخدمات انما هي مسميات خالية او شبه خالية من المحتوى، وما نقرؤه عن (النهضة الصناعية) و(النهضة الزراعية) و(الثورة الثقافية) وما شابه ما هو الا دعاية جوفاء واقعها على صفحات الجرائد ووسائل الاعلام وليس في واقع بلادنا وامتنا.

وبعض الاقطار الاسلامية تبالغ في التفاخر في مسميات المشاريع وتقدم بعض النتاج الصناعي والزراعي، وبقطع النظر عن ملكية رأس مال هذه المشاريع وادارتها وما قد تؤديه من خدمة وارباح للمستعمرين فان انتاجها على العموم بدائي ورديء ولو قارناه بمقاييس الانتاج العالمية واخذنا بعين الاعتبار الظروف الممكنة لهذا الانتاج لوجدنا ان شر البلية ما يضحك.

الثورة الحقيقية هي تغيير واقع بلادنا، الواقع السياسي والفكري، والاقتصادي، والنفسي، وتغيير علاقتها المهينة بالاستعمار الكافر.

والمشاريع الحقيقية هي المشاريع التي تؤهل الانسان المسلم تأهيلا حقيقيا للانتاج لكي يعتمد على فعله ونشاطه وابداعه الذاتي، وليست المشاريع الفاشلة والشكلية والوهمية في بعض الاحيان، ولا المشاريع التي يقيمها الكفار في بلادنا وتذهب ارباحها الى بلادهم.

ومع كل هذا فان مسميات الثورات ومسميات الاعمال ليؤكد تخوف المستعمرين والحكام من الفجوة بينهم وبين الامة، يؤكد تخوفهم من تزايد الوعي والضغط الشعبي فنراهم يعملون على اطالة وجودهم بهذه المسميات.

(٥) الاستعمار والشؤون الداخلية والخارجية لبلادنا

يهدف الاستعمار الى فرض سيطرته ونفوذه على الشؤون الداخلية والخارجية لبلادنا، ولكنه يوجد في الشؤون الداخلية كما في الشؤون الخارجية نوعان من القضايا يختلف مدى اهتمام المستعمر بها وحرصه عليها:

فهناك قضايا حيوية في نظر المستعمر لايسمح ان تكون موضع جدل بينه وبين اعوانه الحكام. وهناك قضايا يسمح لهم بالجدل فيها، او يتركها لهم.

ولايمكن وضع جدول لهذين النوعين من القضايا لانها غير ثابتة، فأهمية القضية قد تتبدل من حين الى حين في نظر المستعمر تبعا للظروف وتبعا لاجتهادات كل دولة مستعمرة، ولكن الثابت ان جملة من القضايا هي ذات اهمية دائمة في نظر المستعمرين كقضية استغلال النفط وقضية ابعاد الفئة ذات الطبيعة المقاومة للاستعمار عن حكم البلد.

والخط العام لسياسة الاستعمار في شؤون بلادنا الخارجية ان يتحكم في تسيير امورها الخارجية بشكل يضمن مصالحه فيها ويركز هيبته على الدول الضعيفة وعلى الدول القوية في مجال صراعه معها.

والخط العام في الشؤون الداخلية تنفيذ خططه لاطالة وجوده، وتكييف هذه الخطط تبعا للظروف الدولية المتجددة وتبعا لتنامي الوعي السياسي في البلد الذي يستعمره.

وتشمل الخطط الاستعمارية في الداخل كل المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية و الاجتماعية، كما تشمل اغراق البلاد الاسلامية بالمشاكل المتنوعة لكي يعيش الناس في دوامتها ويصرفون جهدهم وطاقتهم فيها وينصرفون عن المشكلة الحقيقية مشكلة وجود الاستعمار الكافر البغيض.

وكمثال على المشاكل: القوانين الظالمة المتخبطة، وترتيب مكاتب الدولة بشكل معقد يضع اعمال الناس المتعلقة بالدولة في سلسلة من المراجعات المضنية لقتل الوقت والجهد والكرامة.

وكمثال آخر: اشاعة الفساد والتميع في الناس واغراق المجتمع بالجنس والخمور والمخدرات والملاهي والقمار وتكثير ما يسمى بالنشاطات الفنية التي هي في حقيقتها نشاطات افساد واضعاف، كل ذلك لاضعاف الناس والهائهم عن مقاومة وجوده الظالم واستدرار الاموال الطائلة من مشاريع الافساد.

وكمثال آخر: جعل اقاليم او اجزاء من اقاليم البلاد الاسلامية موضع خلاف بين كيانين متجاورين لاستنزاف القوى والمال، والاتجاه الى التهديم بدل الاتجاه الى البناء،وتغذية هذه المشاكل بالعصبيات الوطنية والعرقية التي تنمو في جو الضحالة الفكرية السائدة في بلادنا وفي اجواء حقوق الشعوب والاعراق في تقرير المصير…

وما يجب ملاحظته ان العصبيات القومية والاقليمية في اوروبا تتجه بشكل عام الى التنازع على الاسواق وعلى المواد الخام في البلاد المستعمرة بينما تتجه في بلادنا الى استنزاف طاقاتها وتحويل اهلها عن مقاومة الاستعمار، بل تلجؤهم الى الاستعانة بالاستعمار في التسلح والتخطيط لهذه الصراعات، وفي هذا اشد الضرر على عمران البلاد ونهضتها.

(٦) تطور النفوذ الاستعماري

ان من السطحية والغباء ان نتصور ان للاستعمار شكلا واحدا هو السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والفكريةالمباشرة. فهذا الشكل المفضوح يحرص الاستعمار نفسه على ازالته وتبديله بشكل آخر من الاستعمار غير المفضوح او غير المباشر.

والذي يدفع الاستعمار الى تطوير شكل نفوذه وتحكمه في بلادنا:

اولا: الصراع بين الدول الاستعمارية حيث تدرك كل واحدة منها ان استعمارها المفضوح يشكل مدخلا للدول الاخرى للظهور بمظهر المناصر والمحرر للبلد وتلقى بذلك القبول من اهله الذين يرزحون تحت وطأة الاستعمار.

وثانيا: الفجوة الحقيقية بين الاستعمار والمسلمين وتنامي الوعي السياسي الذي يفرض على الاستعمار تطوير شكل سيطرته ونفوذه من الاستعمار المباشر الى الاستعمار غير المباشر.

وثالثا: بعض الظروف الموضوعية الاخرى التي تفرض على الاستعمار تطوير شكل سيطرته ونفوذه.

وكمثال على ذلك تطوير شكل التبعية بين البلاد الاستعماريه وبلادنا المستعمرة في مجال الانتاج الصناعي. ففي بداية العهد الاستعماري كان الانتاج الصناعي محصورا بالدول المستعمرة وكانت البلاد المستعمرة مصدرا للمواد الخام وسوقا استهلاكيا لاغير.

اما في الآونة الاخيرة فقد اصبحت الضرورة تقضي بانشاء صناعات بدائية او متوسطة في البلاد المستعمرة وبالفعل اقام الاستعمار كثيرا من الصناعات الاستهلاكية الخفيفة وشجع على اقامة بعضها في البلاد الواقعة تحت نفوذه.

وسبب ذلك ان صناعة هذه المواد وتصديرها من بلادهم اصبح امرا غير اقتصادي لارتفاع الاجور في البلاد الصناعية وارتفاع اجور النقل الى آخره..

ومثال آخر: حاجة الدول الاستعمارية الصناعية الى رفع مستوى الاستهلاك في البلاد المستعمرة تحت نفوذها. فان السماح بالصناعات الخفيفة في البلاد المستعمرة سوف يرفع من مستوى الاستهلاك للصناعات الهندسية الدقيقة والصناعات الهندسية الثقيلة. واصبح اللقب الجديد للدول التي سمح المستعمرون لها او انشأوا فيها الصناعات الخفيفة لقب (الدول النامية).

ومثال آخر: ثروة النفط التي وهبنا الله منها كميات هائلة والتي لازالت تنهبها منا الدول الكافرة، هذه الثروة التي توفر الطاقة لصناعة الاعداء واسلحتهم وتمدهم بالقوة ضدنا.

كانت السلطات التي تحكم اقطارنا الاسلامية المنتجة للنفط تأخذ ثمنا زهيدا لهذه الطاقة ويأخذ الباقي الاعداء كمشاركين في الانتاج وكمشترين.

وكان الفائض عن حاجة الحكام يذهب الى بنوك الاعداء ليستعملوه مرة اخرى في تمويل صناعاتهم وتمويل مشاريعهم التي تمكن نفوذهم في بلادنا.

وفي المدة الاخيرة تزايدت الحاجة العالمية الى هذه الطاقة وتزايد الصراع بين المستعمرين عليها، وتزايد الوعي في بلادنا لاهمية هذه الثروة، وبرزت قضية النفط كقضية عالمية طرفاها الدول المستعمرة والدول المنتجة، وتحرك الحكام في بلادنا الاسلامية المنتجة للنفط وقرعوا الطبول للانجازات الضخمة التي حققوها لشعوبهم، فقد أمموابعض الشركات ورفعوا اسعار النفط فارتفعت واردات بلادنا، فماذا كانت النتيجة؟؟

لم يختلف الامر عما مضى الا اختلافا جزئيا، فلا زالت السلطات التي تحكم بلادنا تأخذ القليل من المستعمرين ثمنا لهذه الثروة ولا زال الفائض عن حاجة السلطات ونفقاتها على أنفسها ونفقاتها الضئيلة على المسلمين لازال يذهب الى الدول الاستعمارية، الى بنوكهم، والى تمويل مشاريعهم والى قروض ضخمة لهم (لمساعدتهم على دفع ثمن النفط وعدم الاضرار ببضاعتهم).

ان المنشار يقص عادة من جهة واحدة اما استغلال ثرواتنا النفطية من قبل اعدائنا فهو منشار يقص من جهتين، يأخذون الثروة ويعطوننا نزرا يسيرا منها (لحكامنا) ثم يستعيدون اكثر هذا ويستعملوه كرة اخرى في مشاريعهم ونفوذهم ضدنا.

وهكذا يلتف حبل المرابين حول اعناقنا وتستحكم قبضتهم على المواد الاستراتيجية والاولية والصناعات ذات التقنية العالية وعلى عامة الانتاج الصناعي والزراعي والاسواق الاستهلاكية وتستحكم ملكيتهم لثرواتنا وبلادنا بشكل خبيث غير مباشر.

وعلى هذه الطريقة يطور الاستعمار من سيطرته العسكرية والفكرية والسياسية على بلادنا، بأنواع عديدة من الكيد الخبيث في مختلف المجالات، وبمؤسسات مقبولة لأمتنا الساذجة في بعض الاحيان وبشعارات مقبولة ومحبوبة لديها في كثير من الاحيان.

ان الاستعمار غير المباشر مكيدة خبيثة لأمتنا لان ادراك الامة له ابطأ من ادراكها للاستعمار المباشر.

(٧) مقياس الاستقلال والاستعمار

لكي نعلم مدى استقلال دولة ما عن النفوذ الخارجي يجب ان ننظر الى امكانية الدولة الذاتية ومدى اعتمادها على الخارج.

اولا: بالنسبة الى مصادر السلع المستهلكة فيها، هل هي من انتاجها المحلي ام مستوردة من الخارج. فاذا كانت اغلب السلع المستهلكة في الدولة واغلاها سعرا ليست من انتاجها فهذا يعني وقوعها تحت نفوذ الدول المصدرة.

ثانيا: بالنسبة الى المواد الخام هل تصنـّعها الدولة وتصدر الفائض منها أم انها تصدرها كما هي؟

ثالثا: هل ان الثروات الطبيعية فيها مستغلة أم مهملة، واذا كانت مستغلة فهل هي التي تقوم باستغلالها أم شركات وحكومات اخرى؟

رابعا: هل سلاح جيش الدولة من انتاج محلي أم مستورد. واذا كانت الاسلحة مختلفة فما هو الغالب عليها، وهل المهم منها من انتاج الداخل أم الخارج.

وبكلمة اخرى: هل الدولة وافراد شعبها يسيطرون على الاشياء ويبدلون حالها من حالة الى حالة، أم انهم يعتمدون على غيرهم فيها اعتمادا يجعلهم تابعين له؟

واذا نظرنا الى بلادنا الاسلامية نجدها تعتمد اعتمادا يكاد يكون كليا في جميع هذه القضايا على الخارج، وعلى الدول الاستعمارية بالذات.

ان شعارات الاستقلال والنهضة الصناعية والمكانة الدولية والقوة الذاتية لاقيمة لها أمام هذا المقياس الحقيقي في استقلال الدولة او وقوعها تحت نفوذ المستعمرين.

وان الذي يعتقد بأن بلادنا الاسلامية او جزءا منها خارج نطاق النفوذ الاجنبي هو مغرر به او بليد الذهن او لايفهم بالقضايا السياسية.

(٨) هل يمكن مقاومة الاستعمار

قد يقال: ان مقاومة الوجود الاستعماري امر قائم في بلادنا. ان الاستعمار نفسه يعلم ان وجوده في البلاد المستعمرة محدود ولذا يسعى بأساليبه الخفية والمعلنة ان يطيل امد بقائه، وها هو يخوض الصراع الدولي والداخلي لاطالة امد نفوذه، وعلى هذا فلا معنى للسؤال: هل يمكن مقاومة الاستعمار؟ فان مقاومته موجودة وقائمة فعلا.

نقول: ان الاستعمار يلاقي في بلادنا الاسلامية ثلاثة انواع من المقاومة:

النوع الاول: المقاومة الشكلية وهي المقاومة الظاهرية مع الولاء الواقعي للاستعمار. وهذه المقاومة تكثر في أنظمة الحكم القائمة في بلادنا وفي الفئات والزعامات التي تشترك مع الحكام في الخلفية العقلية التي تكبر الاستعمار وتهابه وتعتقد بأن وجودها يعتمد على رضا المستعمرين او على عدم غضبهم.

النوع الثاني:المقاومة الحقيقية من دول استعمارية اخرى، ولكنها مقاومة لتبديل استعمار باستعمار آخر، مهما ظهرت الجهة المقاومة بمظهر المؤيد والنصير لبلادنا.

النوع الثالث: المقاومة الداخلية الحقيقية التي تعتمد على دولة استعمارية اخرى معتقدة بأن الاستعانة بدولة اجنبية على مقاومة الدولة المستعمرة لا يضر في تحقيق هدف الاستقلال، او معتقدة بأن مقاومة الاستعمار مستحيلة بدون الاعتماد على دولة اجنبية وأنه مهما يأتي من هذه الدولة او الدول النصيرة فهو أهون الشرين…!

ولكن السؤال عن امكانية النوع الآخر من المقاومة، عن امكانية المقاومة الداخلية الحقيقية المستقلة الاصيلة، المقاومة التي تأبى الاستعانة بالغير في عملها… المقاومة التي تعتمد القوة الذاتية للامة فقط وفقط وان استفادت تلقائيا من الصراع الدولي ومن المقاومة الشكلية ومن المقاومة المعتمدة على دول اجنبية.

ان هذا النوع من المقاومة الذي نسأل عنه ونريده لا هو بالامر المستحيل كما يتخيل البعض ولا هو بالسهل اليسير كما يتخيل البعض الآخر.

وان أول الاسس التي يحتاجها هذا النوع من المقاومة بناء طليعة من الامة واعية وصلبة وذات طبيعة معادية ومقاومة ورافضة للاستعمار.

ثم يحتاج هذا النوع من المقاومة ان تتركز هذه الطليعة في جمهور الامة وتكسب ولاءهم واسنادهم. ويحتاج ان تنمي هذه الطليعة الوعي السياسي التغييري ومقاومة الاستعمار في نفوس الناس.

ثم ان تعمل على تحطيم هيبة الاستعمار من نفوس الامة لأن الاستعمار يعتمد في كثير من نفوذه في بلادنا على هيبته الاستعمارية، لذلك فان تحطيم هذه الهيبة هو بالغ الاهمية في مقاومة الاستعمار.

وحينما تتوفر هذه الاسس للطليعة المقاومة للاستعمار وتبدأ مع الوجود الاستعماري صراعا قويا مخططا فانها ستحقق الانتصارات المتتالية دون شك حتى يتم لها تخليص بلادنا نهائيا من انواع السيطرة الاستعمارية.

وهذا النوع من المقاومة محصور فيما نرى في الطليعة الاسلامية وبعث التيار الاسلامي في الامة، لأن الاسلام هو المبدأ القادر على بناء مثل هذه الطليعة و تحقيق مثل هذا الهدف، ولان غير الاسلام من المبادىء والافكار التحررية الاصيلة لو سلمنا بوجودها في اقطارنا الاسلامية ولو سلمنا بنجاحها في مقاومة الاستعمار في بلد من البلدان المستعمرة فانها في بلادنا الاسلامية اثبتت غربتها وفشلها وستستمر في اثبات فشلها على مختلف المستويات، كما يستمر الاسلام وطليعته في اثبات قابليتهم وكفاءتهم لتغيير واقع الامة ومقاومة السيطرة الكافرة في مختلف المستويات.

  1. كتب البحث قبل الثورة الاسلامية الايرانية المباركه ^