السلوك الحزبي بين المرونه والازدواجية

صدر في ذي الحجة ١٣٨٩ هجري

الشخصية الحزبية داخل الحزب:

ضرورة العمل تتطلب من الداعية ان يكون ذا شخصية ممتازة داخل النطاق الحزبي وخارجه حيث يتعاون مع الامة.

في داخل الحزب يعيش الداعية مناخا حزبيا على صعيد الفكر والتنظيم يتطلب منه الشيء الكثير من الصراحة والصلابة والانضباط التنظيمي، فالحزب يهدف الى تغيير اجتماعي واسع وعميق في الوطن الاسلامي الكبير، وتعبيد الناس لله وتمكين شريعته من حياتهم واحلال الانسان المسلم محله الحقيقي على وجه الارض، ولا يؤمن الحزب بجدوى اية محاولة اصلاحية اخرى لاعادة الاسلام الى حياة الامة وتمكين رسالته من قيادة البشرية.

ومن هنا فان الداعية يختلف عن عامة الفئات الاسلامية المنظمة وغير المنظمة التي تعمل من اجل هذه الغاية في خط آخر غير الخط الذي تؤمن به الدعوة.

ولذلك فان الداعية يجب ان يتصف بكثير من الصلابة والصرامة في الايمان بالتخطيط الذي وضعته الدعوة لتحقيق هذه الغاية، ولا تهزه الاحداث الوقتية التي تمر على الامة والمحن التي تشكو منها مما قد يوحي الى الداعية بمثالية هذه الغاية وبعد واقعنا الاجتماعي المعاش عن تحقيق ما تهدف له.

فنحن على وعد صريح مع الله تعالى في تمكين هذه الرسالة من حياة البشرية وخلافة الانسان المسلم على الارض وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْ‌تَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِ‌كُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ‌ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٥٥﴾.

والداعية يجب ان يمتاز داخل الدعوة في تفكيره وسلوكه بكل صلابه وقوة وايمان بواقعية الخط الذي يسير فيه كما يجب ان يمتاز بالصلابة والقوة في تنفيذ خطة الدعوة في كل مرحلة يمر الحزب بها دون أي تردد او تخوف.

الشخصية الحزبية في صفوف الامة:

في خارج الحزب وفي صفوف الامة ينطلق الداعية للعمل على التغيير الاجتماعي وهنا تنبثق كثير من المشاكل في سلوك الدعاة مما يؤدي بعض الاحيان الى عزلهم عن النشاط الاجتماعي في صفوف الامة او تحديد نشاطهم.

والمشكلة التي نريد ان نتحدث عنها هي من اهم الاعراض الحزبية التي قلما يخلو منها حزب له مفاهيمه واساليبه الخاصة في العمل. ومعالجة هذه المشكلة في سلوك الدعاة خارج نطاق الحزب هي من اهم عوامل نجاح الداعية في تحركاته واعماله ونشاطاته في صفوف الامة.

فالداعية ينشأ داخل نطاق الحزب في مناخ حزبي وفكري وتنظيمي خاص صارم، وحينما ينطلق للعمل في صفوف الامة يتعامل مع مختلف الطبقات والفئات لا يستطيع ان ينسجم معهم في سلوكه وتفكيره ـ كتعامله مع الدعاة في داخل الحزب ـ مما يسبب له كثيرا من المشاكل في حياته العملية، وقد يؤدي به احيانا كما ذكرنا الى الانعزال عن صفوف الامة والانطواء على الحزب.

فالداعية مثلا قد لا يجد في صفوف الامة النضج الفكري والسياسي والتنظيمي الكافي الذي يؤهلهم لقبول افكار الدعوة ومفاهيمها والانسجام معها، وقد تملك بعض الفئات الاجتماعية منظمة وغير منظمة نظرات خاصة عن تردي الواقع الاجتماعي وعلاجه، وقد يبلغ بهم الحال الى حدود التشاؤم من امكان علاج هذا الواقع وتغييره.

والداعية الذي ألف المناخ الحزبي المتفائل والجو الحزبي العامل يحتاج الى كثير من المرونة في الحديث والسلوك حتى يتمكن من التعامل مع كل هذه الفئات التي تدعو الى دين الله والتي تختلف في الطريقة والاسلوب وقد تؤدي بعض الصلابة في التفكير الى اثارة المشاكل التي تعصف بالداعية كثيرا وتعزله عن مجال عمله… مما تؤدي اخيرا وبصورة لا ارادية الى تكوّن نظرة تشاؤمية عنده ايضا من امكان العمل الاسلامي في صفوف المجتمع.

الموقف القيادي الصحيح:

ولعلاج هذه الناحية في سلوك وذهنية الدعاة ينبغي ان يفهم الدعاة ان الحزب في نشاطه الاسلامي الاجتماعي وحركاته واعماله يحتل محل القيادة دائما، والداعية حينما ينطلق خارج الحزب وفي صفوف الامة للعمل الاجتماعي والتعامل مع الفئات الاسلامية الاخرى ينبغي ان يستبطن شخصيته القيادية ـ أي شخصية الداعية الصحيح ـ فهو حينما يشترك مع جماعة من افراد الامة في اقامة حفل او اصدار صحيفة او اقامة ندوة او انشاء مدرسة او جمعية ينبغي ان يتعامل دائما بروح قيادية مسؤولة.

والمهمة القيادية تتطلب من الداعية ان لا ينفصل كثيرا عن افراده وجماعته في الفكر والسلوك، كما تتطلب منه ان لا يتبعهم ويكون ظلا لهم في هذين المجالين. وليس من اليسير ان يحفظ الداعية موقفه الوسط في حالة متعادلة متوازنة دائما، الا انه على كل حال شرط رئيسي للقيادة.

ومثل هذه المهمة الشاقة تتطلب من الداعية ان يتسم بكثير من المرونة في الحديث والسلوك ويضع على باله دائما انه يتعامل مع اناس لا يلتقون معه في كثير من الافكار ولا ينسجمون معه في كثير من الآراء وان بامكانه التعامل معهم بحدود، لان ذلك يبقى افضل على كل حال من ان يخسرهم ويخسر نشاطهم وجهودهم. والداعية هنا بطبيعة موقفه القيادي من النشاط الاسلامي في صفوف الامة، يجب ان يتصف بالصفات القيادية الكفوءة من مرونة وتفهم للآخرين وادراك لمستوى الوعي الاسلامي في صفوف الامة وبوعي كامل لظروف العمل والنشاطات التي يهضمها المجتمع والتي لا يهضمها، كما ينبغي ان يكون واقعيا في كل تصرفاته وسلوكه واحاديثه مدركا لحدود الواقع وامكاناته.

كما ينبغي ان لا يظهر عليه الاستبداد في العمل والتخطيط مما يشكل بينه وبين الجماعة التي يعمل معها ثغرة، وان يقضي في نفسه على روح الفردية في العمل.

فالانسان حينما يعمل بمفرده يستطيع ان يتقيد بقناعته مئة في المئة. ولكن حينما يعمل مع جماعة من الناس يريد منهم الاسهام والتعاون في انجاح المهمة التي يقوم بها، يضطر الى التخلي عن بعض رأيه شرط ان يتحدد هذا التخلي بالحدود التي يأمن معها الانحراف، والانفصال عن الامة معا.

وقد يتعامل الداعية هنا مع جماعات يشجبون العمل الحزبي ويختلفون كل الاختلاف عن التنظيم والسرية في العمل ويعتبرون أهل التحزب والتخطيط فئة يجب التخلص منها.

لكن لا بأس على الداعية مع ذلك من التعامل معهم والتعاون في تحقيق المشاريع والاعمال التي يؤمن الحزب بضرورتها، على ان ذلك لا يعني ان الداعية يجوز له ان يسهم مع اية فئة من فئات الامة في فعالية اجتماعية لاتنسجم وخط الدعوة، فهناك في مجتمعنا فئات اجتماعية منفصلة عن جسم الامة ومنفردة في الوسط الاجتماعي، والداعية حينما يتعامل ويسهم معها في نشاط من النشاطات ينفصل معها عن الامة ويخسر الوسط الاجتماعي الكبير الذي يريد تغييره.

والداعية يجب ان يضع الامة نصب عينيه في كل عمل يقوم به. فالامة هي مجال عمل الداعية وانتاجه وحركته، واذا انفصل عن الامة فسوف لا يستطيع ان ينجز شيئا بعد ذلك في هذا الجانب ولذلك فان تقدير من يجوز العمل معه ومن لا يجوز من الجماعات والافراد يجب ان يكون تقديرا مدروسا.

تغطية الشعور بالفشل:

وقد يفشل بعض الدعاة فيما يقومون به من النشاطات الاسلامية العامة في الانسجام مع الفئات الاجتماعية المختلفة او في كسب تجاوبها وثقتها، فيلجؤون الى سلوك معوج لتغطية فشلهم هذا عن طريق محاولة ابعاد العناصر غير الدعوتية من العمل واحتكار العمل للحزبيين من اخوانهم الدعاة ممن ينسجمون معهم في التفكير والسلوك وبذلك يتم لهم تكوين المناخ الحزبي الذي ألفوه داخل الحزب في جو متآلف يسهل العمل فيه. وهذا اللون من العمل الاحتكاري في كثير من الحالات يكون تعبيرا عن فشل الدعاة في تحقيق الموقف القيادي الصحيح الذي يجعل من الداعية قائدا مرنا للجماعة التي يعمل معها فيقودها الى حيث المصلحة الاسلامية التي تحددها الدعوة من غير ان يشعرها بما يصنع ومن دون ان ينفصل عنها.

وهذا اللون من العمل الاحتكاري الخاطئ يؤدي الى خسارة الحزب للطاقات الكامنة في قطاعات الامة افرادا وجماعات ممن يمكن الاستفادة منهم لصالح العمل الاسلامي.

وكما يؤدي الى انفصال الحزب عن الامة، مجاله الوحيد للعمل ـ وايجاد حزازات بين افراد الامة والدعاة، فلا ريب ان العمليات الاحتكارية هذه تلحظ من قبل الكثيرين من ابناء الامة وخاصة الفئات الاسلامية، ومن هنا فان هذا العمل سيؤدي بلاشك الى ايجاد خلافات بين هذه الفئات والدعاة واخيرا يؤدي الى انفصال الحزب عن الامة وذلك مما لا يرتضيه الحزب في تخطيطه ومنهجته.

بين الازدواجية والمرونة:

وهنا قد يثار سؤال:

ان هذا اللون من السلوك يعطي انطباعا بأن الداعية يكون ذا وجهين وشخصيتين مختلفتين في علاقاته وارتباطاته مع الناس من افراد الامة ممن يتعامل معهم، وهذا هو معنى ازدواجية الشخصية والتلون في السلوك والحديث.

ويظهر الجواب على ذلك من خلال هذا البحث بالذات فالذي يدعو اليه الحزب في السلوك الاجتماعي مع الامة ليس هو النفاق والمجاملة الكاذبة والتظاهر المخادع بالاخلاص والتملق فهذا يتنافى مع رسالة الحزب. وانما هو شيء آخر يختلف كل الاختلاف عن النفاق، فالداعية في تعامله مع الامه ينطلق دائما من ايمانه وحرصه على مصحلة الرسالة. ورغم مرونته فانه لا يكذب ابدا حينما يتعاون مع الآخرين من غير الدعاة او حينما يبدي لهم تمام الاخلاص.. انه صادق كل الصدق، مخلص كل الاخلاص، يحمل لهم كل تقدير وحب دون ان ينطوي على شخصيتين ودون ان يكون في نفسه شيء غيرما تحدث به فيما يرتبط بعمله معهم، وهذه المرونة ليست نفاقا ولا ازدواجيه في الشخصية وانما هي الوجه الدعوتي القيادي الموجه في مجالات العمل مع افراد الامة من غير الدعاة المنتظمين.

كما ان وجهه الحزبي الصارم في اطار الحزب وارادته الصلبة وعزمه الذي لا يلين هو الوجه الصحيح والمطلوب له في نطاق الحزب. وكلا الوجهين انعكاس حقيقي لشخصيته الاسلامية الواحدة.

فداخل الحزب صلب قوي الارادة والعزيمة منقاد لكل تفكير الحزب وتخطيطه، وفي خارج الحزب يمتاز بشيء كثير من اللين والمرونة للمحافظة على موقعه القيادي من الامة والاعمال التي يمكن انجازها.