المرحلية في عمل الداعية

صدر في شهر رمضان ١٣٩٧ هجري

المرحلية سنة شاملة:

المرحلية والتدرج من سنن الله تبارك وتعالى: في خلقه وفعله وبعثه الانبياء والرسل وتشريعه الشرائع. وعلى هذه السنة عمل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقتدى به الائمة والدعاة من امته، فقد بدأ رسول الله بالدعوة الى التوحيد:

”قولوا لا اله الا الله تفلحوا“

ثم تلا ذلك ببقية اركان العقيدة وفروعها، وبدأ بتبليغ الشريعة بالنهي عن المحرمات الكبرى والامر بالواجبات الكبرى ثم تلاها ببقية الاحكام، وربما بلغ الحكم الواحد بالتدرج خطوة خطوة.

ورد في تشريع تحريم الخمر:

عن بعض اصحابنا مرسلا قال: ان اول ما نزل في تحريم الخمر قول الله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ‌ وَالْمَيْسِرِ‌ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ‌ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ فلما نزلت هذه الآية أحس القوم بتحريمها وتحريم الميسر وعلموا أن الاثم مما ينبغي اجتنابه ولا يحمل عليهم الله عزوجل من كل طريق لانه قال (ومنافع للناس) ثم انزل الله عزوجل إِنَّمَا الْخَمْرُ‌ وَالْمَيْسِرُ‌ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِ‌جْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ فكانت اغلظ من الاولى واشد. ثم قال عزوجل إِنَّمَا يُرِ‌يدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ‌ وَالْمَيْسِرِ‌ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ‌ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴿٩١﴾ فأمر باجتنابها وفسر عللها التي من اجلها حرمها.

وورد في حكمة النسخ عن الامام الصادق عليه السلام قال:

”ان الله رفيق يحب الرفق، فمن رفقه بعباده تسليله اضغانهم ومضادتهم لهواهم وقلوبهم. ومن رفقه بهم ان يدعهم للامر يريد ازالتهم عنه رفقا بهم لكي لا يلقي عليهم عرى الايمان ومثاقيله جملة واحدة فيضعفوا فاذا اراد نسخ الامر بالآخر فصار منسوخا“

يستفاد من هذا النص ان مبدأ النسخ في التشريع منسجم مع قاعدة التدرج والاعداد النفسي للتشريع النهائي.

ويشرح الامام الصادق عليه السلام سنة التدرج والمرحلية فيما يرويه عنه عبد العزيز القراطيسي فيقول له:

”يا عبد العزيز ان الايمان عشر درجات، بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة. فلا يقولن صاحب الاثنتين لصاحب الواحدة لست على شيء حتى ينتهي الى العاشرة. فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك. واذا رأيت من هو اسفل منك بدرجة فارفعه اليك برفق ولا تحملن عليه مالا يطيق فتكسره، فان من كسر مؤمنا فعليه جبره“.

ويوضح ذلك في مثل يرويه بعض اصحابه فيقول:

”بَعَثَنِي أَبُو عَبْدِ الله فِي حَاجَةٍ وَهُوَ بِالْحِيرَةِ أَنَا وَجَمَاعَةً مِنْ مَوَالِيهِ

فَانْطَلَقْنَا فِيهَا ثُمَّ رَجَعْنَا مُغْتَمِّينَ

وَكَانَ فِرَاشِي فِي الْحَائِرِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ نُزُولاً فَجِئْتُ وَأَنَا بِحَالٍ فَرَمَيْتُ بِنَفْسِي فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِأَبِي عَبْدِ الله قَدْ أَقْبَلَ

فَقَالَ قَدْ أَتَيْنَاكَ أَوْ قَالَ جِئْنَاكَ فَاسْتَوَيْتُ جَالِساً وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِي فَسَأَلَنِي عَمَّا بَعَثَنِي لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَحَمِدَالله ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ قَوْمٍ

فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّا نَبْرَأُ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ لا يَقُولُونَ مَا نَقُولُ

فَقَالَ يَتَوَلَّوْنَا وَلا يَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ تَبْرَءُونَ مِنْهُمْ

قُلْتُ نَعَمْ

قَالَ فَهُوَ ذَا عِنْدَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَكُمْ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَبْرَأَ مِنْكُمْ

قُلْتُ لا جُعِلْتُ فِدَاكَ

قَالَ وَهُوَ ذَا عِنْدَ الله مَا لَيْسَ عِنْدَنَا أَ فَتَرَاهُ اطَّرَحَنَا

قُلْتُ لا وَالله جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا نَفْعَلُ

قَالَ فَتَوَلَّوْهُمْ وَلا تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ إِنَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَهْمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلاثَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ صَاحِبُ السَّهْمِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ وَلا صَاحِبُ السَّهْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الثَّلاثَةِ وَلا صَاحِبُ الثَّلاثَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الأرْبَعَةِ وَلا صَاحِبُ الأرْبَعَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ وَلا صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السِّتَّةِ وَلا صَاحِبُ السِّتَّةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ صَاحِبُ السَّبْعَةِ وَسَأَضْرِبُ لَكَ مَثَلاً إِنَّ رَجُلاً كَانَ لَهُ جَارٌ وَكَانَ نَصْرَانِيّاً فَدَعَاهُ إِلَى الإسْلامِ وَزَيَّنَهُ لَهُ فَأَجَابَهُ فَأَتَاهُ سُحَيْراً فَقَرَعَ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ لَهُ مَنْ هَذَا قَالَ أَنَا فُلانٌ قَالَ وَمَا حَاجَتُكَ فَقَالَ تَوَضَّأْ وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ وَمُرَّ بِنَا إِلَى الصَّلاةِ قَالَ فَتَوَضَّأَ وَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ وَخَرَجَ مَعَهُ قَالَ فَصَلَّيَا مَا شَاءَ الله ثُمَّ صَلَّيَا الْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَا حَتَّى أَصْبَحَا فَقَامَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيّاً يُرِيدُ مَنْزِلَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ أَيْنَ تَذْهَبُ النَّهَارُ قَصِيرٌ وَالَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الظُّهْرِ قَلِيلٌ قَالَ فَجَلَسَ مَعَهُ إِلَى أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَالَ وَمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَلِيلٌ فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ قَالَ ثُمَّ قَامَ وَأَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَذَا آخِرُ النَّهَارِ وَأَقَلُّ مِنْ أَوَّلِهِ فَاحْتَبَسَهُ حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا بَقِيَتْ صَلاةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ فَمَكَثَ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ثُمَّ تَفَرَّقَا فَلَمَّا كَانَ سُحَيْرٌ غَدَا عَلَيْهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ هَذَا قَالَ أَنَا فُلانٌ قَالَ وَمَا حَاجَتُكَ قَالَ تَوَضَّأْ وَالْبَسْ ثَوْبَيْكَ وَاخْرُجْ بِنَا فَصَلِّ قَالَ اطْلُبْ لِهَذَا الدِّينِ مَنْ هُوَ أَفْرَغُ مِنِّي وَأَنَا إِنْسَانٌ مِسْكِينٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله أَدْخَلَهُ فِي شَيْ‏ءٍ أَخْرَجَهُ مِنْهُ أَوْ قَالَ أَدْخَلَهُ مِنْ مِثْلِ ذِهْ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا.“

المرحلية في عمل الداعية:

كما تقوم دعوتنا المباركة على أساس العمل المرحلي انسجاما مع سنـَّة الله تبارك وتعالى في تغيير المجتمعات والامم، كذلك يقوم عمل الداعية على أساس العمل المرحلي، فالمرحلية لا تختص بمسيرة الدعوة بل تشمل مجالات عمل الداعية الثلاثة.

  1. في تغيير الداعية نفسه بالاسلام: فبعض الامور يمكن تغييرها دفعة واحدة اذا تنبه اليها الداعية كالاعتقادات الخاطئة وبعض الامور العملية وقليل من الامور النفسية. وبعض الامور يحتاج تغييرها الى المرحلية ومجاهدة النفس ومراقبة التطبيق ومعاودة عقد العزم والارادة، كصفات الانفعال والجبن والانغلاب للشهوة وتغليب المكسب الشخصي على المكسب الرسالي الخ…

  2. وفي عمل الداعية مع الافراد لتقريبهم الى الاسلام يحتاج الى المرحلية:

    • أ. في اعطاء الشخص او الاشخاص المفاهيم الاسلامية.

    • ب. في تخطئة وهدم مفاهيمه الجاهلية ونقصد بها التخطئة غير المباشرة لانها الاصل في اسلوب الداعية.

    • ج. في كسر الحاجز النفسي بينه وبين المفهوم الاسلامي واقامة الالفة.

    • د. في كسر الالفة النفسية بينه وبين المفهوم الجاهلي واقامة الحاجز.

    • ه. في صرفه عن السلوكات الجاهلية.

    • و. في تعويده على السلوكات الاسلامية.

    • ز. وقد يحتاج الى التدرج مع الشخص في المفهوم او السلوك الواحد الخ.

    ان على الداعية ان يفكر في كيفية عرض الاسلام على الناس ومن الخطأ ان يتصور انها فرصة مع المستمع لتحميله ما يمكن من الاسلام وتخليصه من اكثر ما يمكن من الاثم. او يعتقد ان المسلمين الذين يعتقدون بكل ما انزله الله على قلب رسوله ﷺ لا يحتاجون الى التدرج في تقريبهم الى الاسلام..فان ذلك قد يكون سببا في ضياع هدفه وفشل تقريبهم الى الاسلام او سببا في ابعادهم عنه. وهذه توضيحات تساعد الداعية في هذا المجال:

    • أ. التشريعات الاسلامية مترتبة من حيث الخفة والثقل ولا يصح دعوة الناس الى ما يثقل على طباعهم بادئ الامر، وان امتثال التكليف الخفيف يقوي على الثقيل كما يتدرج الرياضيون في رفع الاثقال.

    • ب. اصول العقيدة ونقاطها متدرجة في الفهم والاستيعاب فلا يمكن فهم مسألة النبوة منفصلة عن الالوهية ولا مسألة الامامة منفصلة عن النبوة.

    • ج. فهم معجزات الانبياء عليهم السلام مرتبط بالايمان بالله تعالى، وبالغيب وبالظروف التي حدثت فيها المعجزة، فاذا لم تكن هذه الجوانب معروفة للمستمع حصل له التشكيك او التكذيب

      ”نحن معاشر الانبياء أمرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم“.

  3. وعلى صعيد المجتمع يحتاج الداعية الى المرحلية:

    • أ. في المجاهرة بمفاهيم الاسلام الثقيلة على الناس.

    • ب. في تصعيد حالة الصراع الفكري مع المفاهيم الجاهلية.

    • ج. في كسر العرف الجاهلي.

    • د. في تثبيت العرف الاسلامي.

    • ه. في ممارسة قيادة الناس وتوجيههم.

    • و. في تحسيس الناس بوجود الدعوة ونشاطها.

الحس المرحلي لدى الداعية:

تتفاوت المرحلية بحسب موضوع عمل الداعية وبحسب الناس الذين يتعلق بهم العمل، وبحسب الظروف المحيطة بالعمل والناس. ويعتمد الداعية في تقدير ذلك على معرفته بموضوع عمله ومعرفته بالاسلوب الاسلامي في اشباهه.

واذا تعمق الداعية في أعماله وأخلص لله تعالى فتح الله عليه، وملك حسا صحيحا يقدر فيه التدرج المطلوب وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ.

توجيهات عامة بشان المرحلية:

  1. على الداعية ان يتذكر دائما ان المرحلية في العمل هي القاعدة وانها من سنن الله تبارك وتعالى.

  2. على الداعية ان يتعود على التفكير في عمله قبل القيام به واثناءه وبعده تفكيرا عميقا وعلى وجوه متعددة.

  3. هدف الداعية ان ينجز عمله الى آخره ولكن همه ليس آخر العمل بل الجزء الذي هو فيه

    ”لايكن همك آخر السورة“.

  4. من المرحلية ان يحافظ الداعية على عدم ارهاق نفسه قدر الامكان

    ”يا علي ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فان المنبت لا ظهرا ابقى ولا ارضا قطع“.

  5. الاطمئنان النفسي والثقة يساعدان الداعية على اتباع الاسلوب المرحلي خاصة اذا واجه صعوبة او رأى الهدف بعيدا لأن الداعية عليه ان يعمل والنتائج بيد الله

    ”يا بني انما انت عبد استؤجرت على عمل فاتقن عملك واستوف أجرك“.

  6. على الداعية ان لا يخلط بين الاسلوب العملي المرحلي الذي هو من الحكمة، وبين التباطؤ والتكاسل الذي هو ضد الحكمة، فالمرحلية تعني النشاط الدائب الحكيم وليس القعود.

  7. الهمة العالية والطموح التي هي من صفات الداعية، لا تتنافى مع المرحلية في العمل، فالداعية صاحب الهمة العالية حينما يختصر عدد المراحل او يقطع المراحل الطويلة في وقت قليل هو داعية موفق من الله تعالى وبارع في الاسلوب المرحلي.