اهمية الكتمان في مسيرة الدعوة

صدر في عام ١٣٩٦ هجري

ضرورة السرية:

المجابهة بالرفض والتحدي من اهم السمات البارزة التي تطبع كل حلقة في مسلسل الدعوة الالهية عبر التاريخ. ولا غرابة في ذلك، فكل منتفع بالوضع القائم، او محافظ على مظاهره، او منساق مع الجو السائد، يندفع تلقائيا لصيانة المجتمع من تأثير العاملين على التغيير، ولمواجهة التيار الانقلابي الجديد تبعا لدرجة الاحساس بالخطر.

وفي اوضاعنا المعاشة، فان الاستعمار بأجهزته الخاصة، وبالقوى المرتبطة به او المؤيدة له بصورة مباشرة وغير مباشرة من الحكام والعملاء والمصنعين بافكاره والناعقين معهم، أكثر حساسية وشراسة واستعدادا للصد والمواجهة.

وما لم يتسلح القيـَّمون على الرسالة بالحكمة وبعد النظر وقوة الارادة والصبر على الاذى فمن الصعب ان يكتب لهم النجاح في مهمتهم.

ومن اولى مقتضيات الحكمة، ان يبقى العمل التغييري وعلاقاته وافراده ومهماته وخططه وكل ما تفرض المصلحة كتمانه، في منأى عن معرفة الخصوم، والا سهل القضاء على المحاولة في مهدها.

وقد حرص الانبياء عليهم السلام توسلا لبلوغ اهدافهم، على احاطة كثير من مخططاتهم وتحركاتهم بالكتمان. وغالبا ما ادى اخلال اتباعهم بحفظ الاسرار الى اعاقة مسيرتهم بل واستشهادهم عليهم السلام. ففي تفسير الآية.. وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ‌ حَقٍّ ۚ.. ورد عن الامام الصادق عليه السلام:

”والله ما قتلوهم بأسيافهم ولكن اذاعوا سرهم وافشوا عليهم فقتلوا“

…وبقي نبينا الاعظم ﷺ يمارس دعوته طيلة السنوات الثلاث الاولى في اطار من السرية الكاملة. كما اضطر الائمة عليهم السلام امام حملات التضييق والحصار, الى اعتماد السرية ايضا في كل نشاط يمكن ان يثير حفيظة السلطات واوصوا مؤيديهم بذلك. الا ان الضغوطات والرغبة في الظفر السريع دفعت بعض هؤلاء المؤيدين الى استباق الظرف الملائم للاعلان دون اذن الائمة، وكان ثمن تصرفاتهم اللامسؤولة باهظا. حتى لقد تمنى الامام زين العابدين عليه السلام لو افتدى حالة النزقوقلة الكتمان الموجودة لدى انصاره ببعض لحم ساعده. وصرح الامام الباقر عليه السلام بأن هذه الخصلة السيئة كادت تؤدي الى تصفية شيعته لولا لطف الله بهم. اما الامام الصادق عليه السلام فقد اعتبرها، فيما روي عنه، مسؤولة عن اضاعة ثلاث فرص متوالية لتسلم زمام الحكم.

ودعوتنا الاسلامية، بوصفها الامتداد الطبيعي لخط الانبياء والائمة عليهم السلام لابدّ ان تضع في حسابها ضرورة توفير المناخ المناسب لنموها وانتشارها في جسم الامة، دون ان تمكـِّن اعداءها والمتربصين لها ـ مع وفرتهم وتطور اساليب قمعهم وتضييقهم ـ من شلّ قدرتها او ابادتها.

لهذا قسمت الدعوة عملها الى مراحل، وجعلت طابع المرحلة الاولى, وهي المرحلة الفكرية طابعا سريا… وحدود السرية المطلوبة في هذه المرحلة وغيرها من المراحل المقبلة، تقررها المصلحة الرسالية العليا على ضوء طبيعة الواقع وقدرات التنظيم. فالسرية ليست غاية في ذاتها، وانما هي وسيلة تضمن سلامة التحرك نحو الاهداف.

حدود السرية المطلوبة خارج التنظيم وداخله

في مرحلتنا الحاضرة، تشمل السرية المطلوبة من الدعاة، خارج نطاق الدعوة، سرية الاخبار بوجود التنظيم، اضافة الى السرية الكاملة بالنسبة للخطط والافراد والاجتماعات والتحركات التنظيمية.

اما المفاهيم والثقافة الواعية التي يتلقاها الداعية، فتحث الدعوة على نشرها بالاسلوب المناسب، وبأوسع ما يمكن من خلال افرادها.

والسرية المطلوبة داخل التنظيم هي سرية القيادة والاعضاء والامور التي تحتاج في طبيعتها الى التشدد في الكتمان. ودرجة هذه السرية بالنسبة للعضو مقيدة بحدود المصلحة العملية الضرورية. فلو لزم مثلا ان يتعرف العضو الى اربعة اعضاء، يتعرف اليهم فقط، وكذلك لو استلزم الامر اكثر او اقل. والمصلحة العملية المذكورة تقررها القيادة المسؤولة في الدعوة.

وهذه السرية يجب ان تكون محل تقدير واعتبار من قبل الدعاة، فسرية القيادة لا تثير التخوف، اذا كان المبدأ واضحا في تفاصيله، واذا كان مقياس سلامة التوجيهات والتعليمات الصادرة هو نسبة انسجامها مع الاحكام الشرعية، فان توافقت معها التزم العضو بتنفيذها، وان تعارضت حسب اعتقاد العضو الجازم بعد تشخيصه للموضوع، نبـَّه القيادة عن طريق التسلسل التنظيمي، وكان في حلّ من التنفيذ.

وسرية الاعضاء، لا تنبع من عدم الثقة بالعضو، وانما هي مضافا الى فوائدها التربوية الحركية، نوع من الاحتياط تجاه ما قد يحدث فيما لو اعتقل العضو مستقبلا، واعترف تحت التعذيب، لا سمح الله.

فكلما كانت دائرة معرفته اضيق، كلما كانت الاضرار اخف. والتنظيم الناجح يضع في حسابه اسوأ الاحتمالات القريبة والبعيدة.

واذا احس العضو من مسؤوله اخلالا بالسرية اللازمة، وجب ان يلفته الى ذلك، دون ان ينقل ما سمعه عنه الى زملائه في الحلقة او الخلية. فايقاف النار لا يكون بامدادها بالوقود وانما بعزلها في اضيق مجال ممكن. يقول الامام علي عليه السلام:

”ليس كل مكتوم يسوغ اظهاره لك، ولا كل معلوم يجوز ان تعلمه غيرك“.

اذن، يتوجب على كل داعية:

  1. ان لا يهتم بالاطلاع على امور الدعوة المكتومة، الا بمقدار ما يقتضيه عمله.

  2. ان لا يطلع الدعاة الآخرين على المعلومات الخاصة التي لديه الا في حدود الحاجة العملية، وحسب رأي الدعوة…فقسم من المعلومات، لو اطلع عليها الداعية دون ان تكون من ضمن اختصاصه ربما يجهل قيمتها ومدى اهمية الحفاظ على سريتها.

ويجب ان لا يمنع هذا، الداعية ابدا من المشاركة في حمل هم الدعوة ككل، فخط سيرها العملي العام، واضح لديه، ويمكنه ان يلفت القيادة ـ بواسطة مسؤوله ـ الى ما يراه من نقاط ضعف وخلل فيه، على ضوء معرفته بطبيعة المرحلة وهدفها واساليبها.

اسباب شيوع خبر التنظيم بين الناس

لا نعرض لهذه الاسباب رغبة في التبرير او حبا في التساهل، وانما تقريرا لحقائق موضوعية ينبغي ان يتفهمها الدعاة، كي لا يصابوا بالخيبة والمرارة اثناء الطريق، وكي يأخذوا منها الدروس العملية اللازمة.

  • اولا: ان الانتقال من الجو الفوضوي السائد الى الجو المنظم، ليس بالانتقال الآلي المثالي الذي يتم دون اية اخطاء وتجاوزات. فكما رأينا كانت الثغرات تحصل من بعض العاملين، حتى في ظل القيادة المعصومة.

  • ثانيا: حالة الانقلاب في التدين عند بعض العناصر، وما يمكن ان يتبعها من افشاء اسرار العمل، هي حالة ملحوظة في تاريخ الدعوة الاسلامية منذ زمنها الاول، في عهد الرسول ﷺ وحتى اليوم.

  • ثالثا: قوة التيار والمناخ الواعي في المجتمع، تثير تساؤل السلطات، فتندفع لمراقبة العاملين النشيطين واعتقالهم والتنكيل بهم للحصول على المعلومات. واذا كان بعض المعتقلين بدافع ايمانهم العميق يحتفظون بحالة صمودهم البطولية حتى النهاية، فان البعض يمكن ان ينهار تحت وطأة التعذيب الشديد، كما حدث فعلا، ويعترف بما لديه من اسرار.

  • رابعا: مرض الثرثرة وحب التباهي بالنشاطات والاعمال الموجود لدى بعض الدعاة يقلل من درجة حذرهم المطلوبة. يقابل ذلك ايضا وجود بعض الفضوليين ومحبي الاستطلاع من الدعاة الذين يسعون وراء المعلومات التي لا تعنيهم بشتى الطرق. ان الكثير من هؤلاء الذين يصلون الى المعلومات بطريقة غير مشروعة، لا يقدرون قيمة ما يطلعون عليه، فيتهاونون في التكتم ويسدون بالنتيجة خدمة مجانية كبيرة لاعداء الدعوة وخصومها. ويحذر الامام الباقر عليه السلام كل مسلم عامل من خطورة هذه الخصلة الهدامة فيقول عليه السلام:

    ”يحشر العبد يوم القيامة وما ندى (سفك) دما. فيدفع اليه شبه المحجمة (قارورة الحجام) او فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان. فيقول: يا رب، انك تعلم انك قبضتني وما سفكت دما. فيقول: بلى سمعت من فلان رواية كذا وكذا فرويتها عليه فنقلت حتى صارت الى فلان الجبار فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه“.

انعكاسات الكتمان في شخصية الداعية

للكتمان انعكاسات في شخصية الداعية تتراوح بين الايجابية والسلبية، وتختلف نسبتها باختلاف قابليات الدعاة.

واهم الانعكاسات الايجابية:

  • الجدية والرصانة وروح الانضباط والشعور بالمسؤولية.

  • الاحساس العملي بتميز خط الدعوة عن المحيط والواقع الفاسد، والالتحام النفسي الاقوى بالمجموعة التنظيمية التي يعمل معها.

  • الاخلاص والذوبان في العمل.. فمجال البروز الشخصي ليس كما في الاعمال المعلنة.

وبالنسبة للانعكاسات السلبية فأهمها حالتان، ينبغي للداعية ان يحرص على مقاومة تكونهما في شخصيته:

  • نشوء الرغبة بالاعتزال عن جسم الامة ونقص المرونة في تعامل الداعية مع المحيط العام. وقد شرح هذا الموضوع في نشرة خاصة.

  • نشوء حالة التخوف مع ضعف روح الاقتحام والصبر على الاذى.. ويمكن للداعية ان يقاومها اذا اقنع نفسه باستمرار بأن الكتمان المطلوب ليس هروبا من التضحية ولا ميلا الى السلامة الشخصية، وانما هو لضرورات مبدئية فرضتها مصلحة الرسالة.

و لعل الامام الرضا عليه السلام قصد بنظرته الحركية السديدة، ان ينبه الى معالجة الترابط القائم بين السرية والحالتين الآنفتين في شخصية المسلم الرسالي. يقول عليه السلام:

”لايكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال: سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليه. فأما السنة من ربه فكتمان السر، واما السنة من نبيه فمداراة الناس، واما السنة من وليَّه فالصبرفي البأساء والضراء“