ملامح الحكمة في شخصية الداعية الناجح

صدر في جمادي الاولى ١٣٨٥ هجري

العمل الحزبي بوجه عام ـ والاسلامي بوجه خاص ـ فن من الفنون التي تشترك في صياغتها واخراجها عدة عوامل متفاعلة. ولها جملة شروط لازمة فلايتسنى النجاح فيها الا بعد استكمال هذه الشروط والعوامل على الوجه المطلوب.

فليس يكفي الداعية ـ لأن يكون داعية ناجحا ـ ان يفهم الافكار ويهضم المفاهيم او يحسن الالقاء فحسب وان كانت كل هذه الامور شروطا مهمة في شخصية الداعية الناجح بل لا بدّ من توفر شروط ومستلزمات اخرى تضاف الى هذه الشروط اهمها:

  1. خبرة الداعية بأحوال المجتمع من حيث العادات والتقاليد والافكار العامة والحركات السياسية المؤثرة فيه ووقوفه على الاوضاع السياسية والاقتصادية العامة وعلى الحالة النفسية التي يستشعرها الجميع ازاء القضايا والاحداث العامة وغير ذلك مما يتصل بشؤون المجتمع.

  2. محافظة الداعية على قيم الاسلام وتعاليمه فانه بمقدار ما يلمس الناس من تمثل الاسلام في شخصية الداعية واخلاصه لله تعالى في عمله يعطونه من الثقة والتقدير والاحترام ومن ثم الطاعة والانقياد.

  3. الدقة في رسم الاساليب وتخطيط الاعمال مع الاخذ بنظر الاعتبار موافقتها للاسلام وملاءمتها للمرحلة الحزبية والظروف القائمة.

  4. الحكمة في تنفيذ الاساليب وتقرير المواقف.

ان اكثر هذه الشروط والمستلزمات ليست بالغريبة على ذهنيات اكثر الدعاة ولذلك فاننا سنقتصر في البحث حول الشرط الاخير (الحكمة في تنفيذ..) نظرا لما نقدره من الحاجة الى توضيحه وبلورته في ذهنيات الدعاة الميامين فنقول:

ليس العمل الاسلامي المنظم عملا عاديا يمكن لأي انسان ان يحرز فيه النجاح والتوفيق، وانما هو ـ كما سبق ان قلنا ـ فن خاص له شروطه ومستلزماته التي من بينها الحكمة في تقرير المواقف وتنفيذ الاساليب. ويراد بالحكمة لغة ـ وضع الشيء في موضعه ـ ومن هنا سمي الحكيم حكيما لأنه لا يضع قوله او فعله الا في الموضع المناسب له. والدعاة يتفاوتون في مقدار تمثل هذه الصفة في شخصياتهم، نظرا لتفاوت خبراتهم وامزجتهم وملكاتهم وهم لا يتسنى لهم تمثل هذه الصفة في شخصياتهم عادة الى الحد المطلوب الا بعد ان يعيشوا حياة الدعوة واجواءها ويستشعروا افراحها واتراحها ويحملوا همومها وآلامها. فعند ذلك يكتسبون خبرات عملية جمة خلال تجارب طويلة.

ان التجارب التي يمارسها الداعية نفسه في نشاطاته وفعالياته تقوم بدور كبير في صقل ملكاته وتبصيره بنقاط القوة والضعف في شخصيته.

ومن هنا نستطيع ان نقرر بشكل قاطع بأن معرفة الداعية بثقافة الدعوة واحاطته بخطوط العمل واساليبه المبينة في النشرات الخاصه لا تكفي في صقل شخصيته ما لم يمارسها بنفسه في المجال الحيّ المتحرك وان مثل الداعية الذي اطلع على هذه الخطوط والتوجيهات العامة في العمل والاساليب ولم ينزلها في مجال العمل والتطبيق كمثل طيَّار درس كيفية قيادة الطائرة نظريا دون ان يقود طائرة في يوم من الايام، وكما انه لا يصح الاطمئنان الى قيادة مثل هذا الطيار فكذلك لا يصح الاطمئنان الى قيادة مثل هذا الداعية في قيادته للامة ما لم يمارس بنفسه تنفيذ هذه الخطوط والتوجيهات بصورة عملية. وعندئذ وبعد مرور تجارب مختلفة وفي حالات متفاوتة في ظروف مؤاتية واخرى معقدة يخرج الداعية بثروة هائلة من الخبرة العملية الثمينة في قيادة الامة وتوجيهها، وربما صار هذا الداعية في طليعة القادة الاسلاميين اذا استجمعت شخصيته بقية شرائط القيادة.

هذا وان من ابرز مظاهر الحكمة في شخصية الداعية التريث في تقرير المواقف وعدم التسرع في المشاريع والاعمال فانه من الملاحظ دائما ان مواقف قسم من الدعاة الذين لم يتسن لهم ان يكتسبوا خبرة كافية بعد، نظرا لقرب عهدهم بالعمل الاسلامي المنظم، كثيرا ما نجدهم يتسرعون في بعض اعمالهم ولا يتريثون في مواقفهم من القضايا والاحداث، ولا يتأملون في مفاتحتهم للاشخاص وهم في هذه الاعمال الارتجالية، والتي لم تقم على خبرة عملية كافية، قد يورطون الدعوة ويوقعونها في كثير من المشاكل والملابسات.

ان هذه الظاهرة ـ ظاهرة التسرع في المواقف والاعمال ـ ظاهرة خطيرة تؤثر على وجود الدعوة ابلغ التأثير فيجب الحذر من الوقوع فيها وذلك بمراعاة ما يلي:

  1. التأكيد من قبل المسؤولين ـ دائما ـ على ضرورة التريث في التصرفات والاعمال و عدم الاندفاع في الخطب والكلمات الى ما لا يتلاءم مع ظروفنا ومرحلتنا الخاصة و استذكار توجيهات وخطوط الدعوة في كل مجال من مجالات العمل.

  2. مذاكرة الداعية ومدارسته لما قام به وما ينوي القيام به من مشاريع واعمال مع مسؤوله في جميع مجالات العمل.

  3. اصطحاب المسؤول لبعض افراد حلقته الى بعض اجتماعاته ومناقشاته ليأخذوا درسا في كيفية حمل الدعوة الى الناس بأساليب حكيمة متزنة.

  4. مراجعة الداعية لنشرات الدعوة وتفهمه للابحاث الخاصة برسم الخطوط في العمل والاساليب وتقرير المواقف من القضايا.

  5. لا يجوز لأي داعية مفاتحة أي شخص كان بالدعوة قبل تقديمه المعلومات الكافية الى مسؤوله عن ذلك الشخص المخاطب وأخذ الموافقة من القيادة المسؤولة على مفاتحته، عن طريق التسلسل التنظيمي، حتى في حالة استكماله لجميع الخطوات الاعدادية التي يطلب انجازها قبل مرحلة المفاتحة.

  6. على كل داعية ان يتذكر قبل مباشرته لأي عمل انه في اعماله لا يمثل نفسه بل يمثل الدعوة الى الله تبارك وتعالى.

    ولذلك فان المكاسب الاسلامية التي يكسبها الداعية او الخسائر التي يمنى بها لا يقتصر تأثيرها على الداعية وحده وانما تعم الدعوة بأسرها نظرا للرباط الوثيق بين الداعية والدعوة، كما ان النظرة او الانطباع الخاص الذي يؤخذ على سلوك الداعية واعماله لا يؤثر في حدود الداعية نفسه وانما يسري تأثيره الى كيان الدعوة بأسرها، نظرا لما اعتاد الناس عليه من الحكم بصحة الحركة او خطئها من خلال تصرفات العاملين فيها ومن هنا ايضا يجب على الداعية التريث في افعاله واقواله.

  7. ان الداعية بوصفه انسانا يتأثر بالحوادث والعلاقات الخاصة سلبا او ايجابا، فربّ حادثة معينة لاقت رضى وارتياحا في نفسية داعية من الدعاة فانطلق في اعمال او (تصريحات) ليست من مصلحة الدعوة والاسلام في شيء. او بالعكس اذا صادف تردداً واكتئابا حيث ينكمش على نفسه او يحصل عنده ردّ فعل عنيف حيث يندفع ثائرا لايوقفه وازع من تقوى ولا خلق رفيع. وربّ علاقة ايجابية خاصة بين داعية وشخص معين حببت اليه مفاتحة هذا الشخص وجلبه الى ميدان العاملين دون ان يستوفي دراسة جوانب شخصيته ومدى استكمالها للشروط اللازم توفرها في شخصيات المفاتحين بالدعوة وذلك بسبب تأثير هذه العلاقة الشخصية على نفسية هذا الداعية او قد يكون الامر معكوسا اذ ربّ علاقة شخصية ما او نظرة سلبية معينة لداعية من الدعاة عن شخص معين سببت حرمان ذلك الشخص من نعمة العمل الاسلامي المنظم بين صفوف الدعاة الميامين.

ان الداعية في جميع هذه الاحوال لا يجني على نفسه فحسب وانما يجني على دعوته ورسالته وامته، حينما يتصرف امثال هذه التصرفات لوقوعه تحت تأثير عواطفه الخاصة الناشئة عن الحوادث والعلاقات. ومن هنا وجب على اللجان المحلية ان تدرس طبيعة الاشخاص المخاطبين كما تدرس تاريخ وطبيعة علاقة الدعاة بالاشخاص المخاطبين كما تدرس ايضا ردود الفعل الحاصلة من انفسهم الناشئة من تفاعلهم مع الاحداث قبل البت بالمواقف الخاصة بالحوادث التي من صلاحية هذه اللجان ان تقرر رأيها فيها. وكذلك الحال بالنسبة الى قراراتها في مفاتحة الاشخاص او عدم مفاتحتهم مضافا الى دراساتها الخاصة الاخرى عن هذه الحوادث وهؤلاء الاشخاص.

هذه هي اهم الطرق الوقائية التي من شأنها ان تقلل من الاعمال الارتجالية التي قد تصدر من بعض الدعاة.

كما ان هناك عدة ملاحظات وملامح مشرقة في شخصية الداعية الناجح لها اهميتها الكبيرة في توجيه الداعية في هذا المجال اهمها:

  1. ان الداعية الناجح كما يستفيد من تجاربه الخاصة به فانه يستفيد من تجارب الدعاة الآخرين اسلاميين كانوا ام غيرهم. وهو حينما يدرس اعمال هؤلاء واساليبهم ومكاسبهم واخفاقاتهم انما يدرسها دراسة متأملة في الفشل والاخفاق تفيده في يوم من الايام. وهو يسعى جاهدا لأن يكون القدوة المثلى في السلوك والعمل والتنظيم لغيره من الدعاة الميامين.

  2. ان من ملامح الحكمة في شخصية الداعية الناجح ان يكون الداعية بعيد النظر عميق الفكر يقلب الامور على وجوهها المختلفة وحالاتها المتباينة وينفذ الاساليب والاعمال بأقل تضحية ممكنة ويحسب لكل شيء حسابه ويهيء لكل عمل جوابه حتى لو سئل عنه بعد عشر سنين فانه يحتاط من الآن على ان لا يكون مستندا بيد الظالمين.

  3. ومن صفاته ايضا انه عميق الغور كتوم في اقواله وافعاله، لا يصدر عنه قول يكشف عن الجانب الحزبي او التنظيمي من شخصيته لاعدائه وانما يحرص على اخفاء هذا الجانب عن كل من لا يجوز اطلاعه على هذا الجانب من شخصيته حتى ولو كان اقرب الناس اليه او يعيش معه في بيته او في محل عمله. وذلك احتفاظا منه بخط السرية والكتمان في هذه المرحلة الخاصة من مراحل دعوته والتي اقتضتها مصلحة الاسلام. يقول رسول الله ﷺ:

    ”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان“

    وورد عن بعض الحكماء:

    ”الكلمة قبل ان تتكلم بها ملك لك وحدك فاذا تكلمت بها خرجت من ملكك ودخلت ملك غيرك“.

  4. ثم انه يسترشد قبل كل شيء بكتاب الله تعالى في قوله سبحانه لَا تُحَرِّ‌كْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿١٦﴾

    فقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة ان النبي ﷺ كان اذا اراد جبريل ان يلقنه الوحي الشريف فانه ينازعه القراءة مسارعة منه الى الحفظ وخوفا من فوات شيء منه عليه، فنهاه الله عز وجل وامره بالانصات الى ما يلقى عليه بقلبه وبسمعه حيث طمأنه بعد ذلك بأنه هو الذي يتكفل حفظ القرآن وجمعه وقرآنه إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْ‌آنَهُ ﴿١٧﴾ ثم قال تعالى فَإِذَا قَرَ‌أْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْ‌آنَهُ ﴿١٨﴾ أي اذا قرأه جبرئيل عليك فاقرأ من بعده ولا تنازعه القراءة حين الالقاء.

    ومن الواضح ان قوله تعالى لَا تُحَرِّ‌كْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿١٦﴾ وقوله عزوجل فَتَعَالَى اللَّـهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْ‌آنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّ‌بِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴿١١٤﴾ وقوله تعالى وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا ﴿١١﴾ هذه الآيات الكريمة وامثالها تلتقي مع كثير من النصوص الحكيمة كقولهم ”في العجلة الندامة وفي التأني السلامة“ وما شابهها من الحكم والامثال الثمينة التي ينبغي للداعية ان يسترشد ويهتدي بهداها في جميع ما ينوي القيام به من اعمال لانها شروح لمفاهيم القرآن.

هذه بعض ملامح الحكمة في شخصية الداعية الناجح مستفادة من تجاربنا وملاحظاتنا الخاصة نضعها بين ايدي الدعاة الميامين ولهم في تجاربهم المباشرة خير معين والله ولي التوفيق.