حول نشاة الدعوة والمؤثرات والاعراض

صدر في عام ١٣٨٠ هجري

ان دعوتنا لا تختلف عن غيرها من الحركات الاجتماعية الجذرية في خط السير العام وان اختلفت في افكارها وسلوكها واساليبها. وفي هذه النشرة عرض سريع لاوضاع العالم واوضاع الاحزاب. والمؤثرات التي تؤثر على الاحزاب، والاعراض التي تصاب بها. والعوامل التي تحدد موقفنا من القضايا. كل ذلك باختصار لايخل.

البلاد القلقة والبلاد المستقرة:

ينقسم العالم اليوم في بعض وجوهه الى قسمين: قلق، ومستقر. وليس هذا التقسيم حديا، فان الاستقرار والقلق هنا نسبيان، والكلام في التقسيم عام، وقد يتداخل هذا التقسيم ويندمج في بعض المناطق.

وبصورة عامة البلاد المستقرة هي تلك التي يكون سكانها راضين عن اوضاعهم الحضارية والمعاشية رضاء جماعيا، لان من الصعب ان يكون الرضا اجماعيا. والبلاد القلقة هي تلك التي يكون سكانها غير راضين عن اوضاعهم الحضارية والمعاشية بل ويعملون على تغييرها.

ويمثل الفريق الاول الدول الناهضة علميا واقتصاديا، او التي تعمل بجد في سلوك هذا الطريق كدول اوروبا واميركا الشمالية واليابان والدول الشيوعية في آسيا عدا بلاد المسلمين، وتمثل الفئة الثانية العالم الاسلامي وبقية دول افريقيا وآسيا ودول اميركا الوسطى.

وقد يرد اعتراض على اعتبار ان الدول الشيوعية كروسيا والصين مستقرة مع العلم ان الضغط الشديد الذي يخنق الانفاس هناك يولـِّد القلق وعدم الاستقرار.

والحقيقة ان هذه الدول كانت قبل الشيوعية في وضع تعيس للغاية من ناحية الظلم والفقر والجهل والمرض فأتت الشيوعية تعمل لازالة هذا الفقر والمرض ولكنها ابقت الظلم وقامت بحملة واسعة لتركيز مفاهيمها الحضارية التي تقرر ذلك. فنجحت في المناطق التي لايدين اهلها بالاسلام لان سكان تلك المناطق لا يملكون اي رادع فكري وفطري سليم ضد هذه المفاهيم الغازية فتأثر بها الناس ورضوا عن وضع يغريهم بالعمل على انقاذهم من اوضاع البؤس السابقة، ويستهويهم بالزعم بأنهم يسيرون في خط سير التاريخ الحقيقي وان غيرهم يسير في خط لا يرتضيه منطق الحوادث وبأن حضارتهم ستسود العالم في يوم ما بفعل التطور الثوري كما يرى المذهب الشيوعي الصيني اليوم، والتطور السلمي كما ابتدعت ذلك اللجنة الروسية للنظرية الشيوعية.

ونعود للموضوع فنقول. الدول المستقرة فيها احزاب عريقة نشأت في بداية نهضتها فتوارثت المناهج عن اسلافها. وقد تنشأ في هذه الدول احزاب جديدة لا تختلف في الاساس عن الاحزاب الاخرى. وقد تنشأ فيها احزاب شيوعية، وكل هذه الاحزاب تتصارع للوصول الى الحكم عن طريق كسب ثقة الشعب بمختلف الوسائل.. هذا في المعسكر الغربي، واما في المعسكر الشرقى فان الحزب الشيوعي الذي احدث في دوله الانقلاب الاجتماعي يعمل وحده ولا يسمح لغيره بأي عمل عام خارج نطاق سيطرته الكاملة.

واما نشأة الاحزاب في البلاد القلقة وهي البلدان المسيطر عليها. فهي على اشكال، الاحزاب المفتعلة التي يؤسسها افراد حاكمون لحماية انفسهم وتركيز سيطرتهم. ومنها الاحزاب العرقية والاقليمية التي تنشأ نشوءا طبيعيا داخل الامة وفي محيط حضاري اوجدته الدول صاحبة النفوذ وهذه الاحزاب لابد وان ترتبط بشكل ما باحدى الدول المتصارعة على السيطرة والنفوذ، ومنها الاحزاب الشيوعية الشكلية المرتبطة بالمعسكر الغربي والاحزاب الشيوعية الحقيقية المرتبطة بالمعسكر الشرقي ارتباط التابع بالمتبوع.

وهذه الاحزاب جميعا لا تخرج اهدافها عن نطاق الاطار الحضاري السائد في العالم بشكليه الرأسمالي والشيوعي، ولكن في اغلب البلاد القلقة احزاب اسلامية تحمل مشعل حضارة اخرى تختلف عن الحضارة المادية السائدة في العالم، وعلى نجاح تلك الاحزاب يعتمد خلاص البشرية مما تعانيه اليوم من مشاكل ومآسي.

الاصلاحية، الانقلابية، الثورية:

الدعوات السياسية الاجتماعية هي التي تملك تخطيطا للمجتمع يستند على قواعد فلسفية ونظرة عامة الى الكون والحياة والانسان. واذا كانت الدعوة تعيش في جو يلائم فلسفتها ونظرتها العامة فهي اما منفذة لما تعتقده او عاملة على اصلاح بعض القضايا التي لا توافقها، وتكون بذلك الدعوة اصلاحية.

واذا كانت تعيش في مجتمع لايلائم معتقدها الفلسفي والاجتماعي فانها تعمل على تغيير الاسس العامة وتغيير تفاصيل العلاقات القائمة لتلائم مبدأها وتكون بذلك الدعوة انقلابية. وهنا يرد اعتراض على هذا الاصطلاح فان الاوساط السياسية في كثير من الاحيان تسمي الثورة العسكرية انقلابا وتعبر عن التغيير الاجتماعي بالثورة. وهذان الاصطلاحان اشاعهما الشيوعيون حيث ان الانقلاب الاجتماعي هناك نفذ عن طريق الثورة فأشاعوا مفهومهم عن الثورة وعبروا به عن الانقلاب الاجتماعي. ولكن لا تلازم بين الثورة والانقلاب الاجتماعي بدليل ما حدث في الدعوة الاسلامية في بدئها حيث حدث الانقلاب الاجتماعي بلا ثورة وانما بالاستيلاء على السلطة في المدينة عن طريق اهل يثرب بعد اعتناق غالبيتهم الاسلام. ثم ان الانقلاب الاجتماعي غير الانقلاب العسكري، فالاول هو قلب للاوضاع بما فيها اجهزة الحكم والثاني هو ازاحة الفئة الحاكمة والابقاء على الاوضاع العامة والاجدر ان يعبر عن الانقلاب العسكري بالثورة لانه ثورة جماعة على جماعة.

نشاة الدعوة الانقلابية وتطورها:

الدعوة الانقلابية تنشأ عادة عندما ينتشر التحسس بضرورة تغيير الاوضاع لعدم ملائمتها لرغبات الناس لاسباب كثيرة: فساد الحكام، والقوانين وتناقض التشريع مع عقيدة الناس، وتدخل الاجانب، وانتشار الظلم والفقر الخ… عند بروز هذه القضايا تحدث حركة فكرية في اوساط المفكرين، وتبرز هذه الحركة عادة عندما تمر احداث مهمة يهتز لها المجتمع ويتأثر بها اكثرية الناس كالاحتلال الاجنبي او الحرب او الثورات او النكبات العظمى.

وينتج عن هذه الحركة الفكرية ان يهتدي شخص او عدة اشخاص في وقت واحد ليكونوا قواعد عامة اساسية لتغيير الاوضاع ويبدأ العمل التغييري او الانقلاب بفعل هذه النواة المؤلفة من شخص او عدة اشخاص فتسير في دربٍ كلياته معروفة وجزئياته غير واضحة.

تبدأ الدعوة في امكانيات فعلية ضئيلة جدا لاتتناسب على الاطلاق مع المهمات الجسام الملقاة على عاتقها والتي تعمل من اجلها الامر الذي يجعل اليأس من النجاح هو السائد عند اكثر الناس الذين يصلهم امر الدعوة، ويعتبرون العمل ضربا من المحال، وان التفكير فيه اما جهل او جنوح الى الخيال المحض، وقليل من الناس من اصحاب الهمم العالية والاحساس المرهف والشعور بالمسؤولية والادراك السليم المتحمسين لعملية التغيير، من يستجيب للعمل فتبدأ الفعاليات الخفية لاستمالة اعداد اخرى الى صفوف الدعوة ولخلق اجواء للفكر البناء لتقبل العمل.

تبدأ الدعوة وهي لا تملك الا الخطوط العريضة للعمل والخطوط العريضة للفكر، ثم تبدأ من الخطوط هذه سائرة نحو التكامل من حيث الثقافة ومن حيث الاجهزة ومن حيث التأثير.

الثقافة تبدأ من الخطوط العريضة للفكر المبدئي والسياسي والتنظيمي ثم يتوسع الفكر بالتدرج الى ان ينتهي الى ذكر جميع التفصيلات للعمل والحياة المرتقبة من احكام، وافكار تهذب السلوك الشخصي، والسلوك الاجتماعي وقوانين لادارة شؤون الحكم، واحكام لتنظيم علاقات الناس الاقتصادية والاجتماعية، ولتنظيم علاقات الافراد بالدولة، واحكام لتنظيم علاقة الدولة بالدول الاخرى، وافكار واحكام عن التشريع وتاريخه، وعن الدستور واصوله، وعن العقيدة بتفاصيلها، وعن نقض الافكار الكافرة السائدة. كل ذلك لكي تكون الامة على علم وبصيرة بفساد ما تعيش فيه وبصلاح وتفصيل ما سيحدث قبل التطبيق العملي عند استلام الحكم لكي لا تفاجأ في أي شيء ولكي تحمي الاوضاع الجديدة من الاعداء والانحراف.

والاجهزة تبدأ من النواة وتتكامل بالتدريج لتتوسع في البلاد وتتمكن من عملياتها القيادية في التغيير المرتقب، ثم تكون نواة كفوءة لجهاز دولة وتكون قادرة على الاشراف على انشاء تلك الدولة والاشراف عليها بعد انشائها، وقبل ذلك تكون قادرة على قيادة الامة ومسك زمام امورها لاحداث الانقلاب الاجتماعي.

والتأثير يبدأ من اشخاص لهم تأثير فردي محدود جدا ثم يزداد ويتعاظم بفعل الدعوة الى ان تصبح الدعوة مركز تنبه الامة ومصدر اعطاء التوجيهات والاوامر.

حول نواة الدعوة الاولى:

قلنا ان الدعوة تبدأ في نواة قد تتألف من شخص واحد او تتألف من عدة اشخاص، فما ميزة كل من هاتين الحالتين؟

فمن مزايا البدء بالفرد الواحد ان الطاعة في العمل تكون بارزة لان الجماعة الاولى التي يجذبها الشخص الواحد تكون بمثابة التلاميذ له ويكون الانسجام الفكري والتنظيمي اكثر دقة ومتانة، لان القوة المحركة تصدر من نقطة واحدة والتعليمات تصدر عن مخطط ذهني واحد منسجم مع نفسه.

ومن مزايا الثانية ان يكون الوضوح في الفكر والعمل واكتشاف الخطأ اسهل ومجال استمرارية العمل اكبر، فعندما تكون مؤلفة من شخص فان العمل سيتضعضع عند فقدانه، بينما لايؤثر فقدان شخص من عدة اشخاص، في الحالة الثانية، على العمل وتكون امكانية المقاومة اكثر للاضهاد المعنوي والمادي.

واما في حالة وجود المعصوم فلا يدخل هذا الكلام في الموضوع اذ ان كلامنا ينحصر بما هو محتمل في اوضاع كأوضاعنا في حالة غياب المعصوم عليه السلام. ولاجل التدليل على ذلك نقول ان قتل المرحوم حسن البنـَّا كان بالنسبة للاخوان المسلمين كارثة اثرت على سير الحركة تأثيرا بعيد المدى ولم يتمكنوا من التخلص من اثار الكارثة حتى الآن وقد فقدت حيويتها الاصيلة وكمثال مقابل فان الحركة الشيوعية في روسيا لم تكن تتأثر بفقدان كثير من قادتها لانها لم تنشأ عمليا في اوساط الجماهير من شخص واحد وانما استمر العمل بقيادة عدة اشخاص، أي ان الذي استلم الحكم في روسيا هو الحزب الشيوعي بقيادة لينين الذي لم يكن الا احد قادة الحزب برزت عنده عبقرية تنظيمية وساعدته على الاستيلاء على الحكم ظروف وطرق لا مجال الى الخوض فيها الآن.

ومن مزايا الحركة اذا كان لها نواة مؤلفة من عدة اشخاص، صعوبة حرفها عن خط سيرها المرسوم لان اقتناع شخص واحد بقضية سير العمل اسهل بكثير من اقتناع عدة اشخاص. ونحن اذا نظرنا الى الحركة الاسلامية في جميع اقطارها ككل في جميع منظماتها يمكننا ان نقول انها لا تعتمد على شخص واحد. وستصل الحركة الاسلامية، بحول الله وقوته الى غايتها في اقامة حكم الله على الارض. ودعوتنا المباركة بالخصوص نشأت من اتصال عدة اشخاص تلاقوا في تفكيرهم العملي وتواصوا لله وفي سبيله، وهي، ان شاء الله، تملك امكانيات كامنة كافية لاقامة دولة الاسلام وستكون المنظمات الاسلامية في عوننا لتأسيس دولة الاسلام وتوسيع رقعة الدولة.

ان هذه المزايا الطبيعية التي تتمتع بها كلتا الفئتين من حيث النشأة يمكن اكتسابها جميعا بالالتفات اليها وذلك بالدراسة واذلال النفس الامارة بالسوء.

وهذا متيسر للاسلاميين لان عندهم في تعاليمهم ما يكفيهم لتعديل اي اعوجاج وتصحيح اي خطأ مهما كان. فمثلا عندما تكون الدعوة مؤسسة من قبل فرد واحد يمكنه الاسترشاد بجماعة الدعوة استرشادا حقيقيا وافساح المجال لذوي الكفاءة في ممارسة القيادة ممارسة حقيقية ضمن صلاحيات واسعة، وفي الحالة الثانية يمكن افساح المجال للرأي الصواب ان يأخذ طريقه بسهولة الى الانطلاق والاشعاع من قبل اصحاب الرأي في الدعوة مع الالتزام بوحدة الفكر والعمل والتنظيم وكأن الامر صادر من منبع واحد، فالتدارس والصفاء وسرعة التنفيذ تؤدي الى امتلاك مزايا الحالة الاولى.

المؤثرات التي تؤثر على سير الدعوة:

عندما تسير الدعوة في طريق التكامل تؤثر عليها مؤثرات سلبية وايجابية وتنقسم المؤثرات الى قسمين: قسم يكون من داخل الدعوة وآخر من خارجها.

اولا: المؤثرات الذاتية الداخلية:

  • أ. الدعاة: في الدعاة واعون ومجاهدون، وفي الدعاة نشطون مفكرون يعملون على رفع مستواهم الفكري ويعملون على تنمية عدد الدعاة، وفيهم العفويون الجالسون ينتظرون الاوامر والتعليمات ليعملوا في بطء او تكاسل. ان نشاط الدعاة هو من اهم الركائز لنجاح الدعوة ووصولها الى الغاية المرجوة.

  • ب. القيادة: استيعاب مشاكل المجتمع واستيعاب المبدأ واستيعاب الاحداث المؤثرة في العالم والحكمة في التخطيط وفهم مدى انتشار الوعي واليقظة على سير الدعوة وتأثيرها. كل ذلك من الصفات الضروري توفرها، ومقدار نجاح القيادة في مثل هذه الامور يكون مؤثرا فاعلا في الاسراع في نجاح الدعوة.

  • ج. التنظيم: من اهم ميزات وجود الدعوة جماعية العمل، اي ان اجهزة الدعوة تعمل مجتمعة في اتجاه واحد، ولا يمكن ان يكون ذلك بلا دقة في النظام. والدقة في النظام هي انسجام قواعد الدعوة مع قيادتها في الطاعة والمشورة في التبليغ والتنفيذ، والا فان الدعوة تتحول الى اعمال فردية لا يمكن ان تغير من الاوضاع ادناها.

  • د. الفكر: في مجال الفكر والعمل، على الدعوة ان تكون حريصة على ان لا يبتعد الناس من حولها وتعمل على جذبهم والتأثير فيهم والا انعزلت، كل ذلك ضمن اطار الاهداف والاحكام الاسلامية. فالتعرض لتقاليد الناس، المعتبرة عندهم من الدين، يسبب نفرتهم من الدعوة والعداء لها ومن ثم يسبب بقاء الناس في اوضاعهم السيئة: فكما ان الحكمة ضرورية في التبليغ كذلك الحكمة ضرورية في انتقاء المادة الفكرية التي يبلغ بها.

ثانيا:المؤثرات الخارجية:

  • أ. علاقة الناس بالسلطة: اذا كانت ثقة الناس بالسلطة مزعزعة وكان احترامهم للقانون مفقودا سهل استمالة الناس الى عملية التغيير والعكس صحيح.

  • ب. علاقة الناس بالمنظمات والاحزاب: موقف الناس من المنظمات يؤثر على تقبل الدعوة، فالمنطقة التي تكون مؤيدة لحزب من الاحزاب تسير الدعوة فيها ببطء بعكس المنطقة التي تكون غير متأثرة بأي حزب من الاحزاب.

  • ج. الضغط السياسي للسلطة: ظلم الحاكم يؤثر تأثيرين متعاكسين على الناس بالنسبة لموقفهم من الدعوة. فمن ناحية يبعدهم عن العمل خوفا من بطش الحاكم، ومن ناحية ثانية يدفعهم للتأييد العاطفي والفكري لعملية ازاحة السلطة اذ ان خوفهم من العمل لا يعني عدم تأثرهم بالمفاهيم، بل بالعكس، فان الضغط يجعلهم متحمسين للاقتناع بالمفاهيم وتأييد العاملين بعيدا عن اعين الرقباء.

  • د. الاجواء الفكرية: للافكار تأثير عظيم على سلوك الناس ولذا كان من الضروري التغلب على الجو الفكري المعادي وذلك بتسفيهه، وابراز الفكر الصحيح وذلك بنشر الوعي الاسلامي في اوساط مختلفة.

  • ه. الاعراف: قسم من الاعراف السائدة مفيد وقسم آخر مضر ومعيق، ويمكن كسر شوكة الاعراف المعيقة بتحديها من قبل اشخاص بأوقات متقاربة متتالية ليتقلص احترامها وتأثيرها على الناس ومحوها بالتدريج.

هذه المؤثرات وغيرها من الامور الطبيعية نذكرها لنتدبر امرها ونعالجها بدراية وتعمق.

الاعراض التي يمكن ان تصيب الدعوة:

من دراسة واقع الحركات السياسية الاجتماعية نرى انها تصاب باعراض تشبه الحالات المرضية عند الانسان، وكما ان الوقاية خير من العلاج، فان الوقاية من الاخطاء خير من الوقوع فيها. ومن ثم معالجتها خاصة في الاعمال السياسية الاجتماعية. ولعل الوقاية في هذه الحالة اهم بكثير من الحالة الاولى لان عدم الوقاية عند الفرد يؤذي الفرد نفسه، وعدم الوقاية في الامور السياسية والاجتماعية يعم بلاؤه.

ومن الاعراض التي يمكن ان تحدث ما يلي:

(١)الانعزال:

يمكن ان تنعزل الدعوة عن الامة في حالتين، الحالة الاولى: ان تتخلف عن ركب الامة الزاحف، فمثلا في ايران عندما استجابت الامة لنداء العلماء في الوقوف في وجه القوانين التي سنتها الحكومة الايرانية بوحي من الاميركان لتوجيه الدولة وجهة استعمارية علمانية، لوانّ الدعوة رأت نفسها بانها لا تزال في المرحلة الاولى وينبغي عليها ان لا تخوض المعركة، فانها عند ذلك تعزل نفسها عن الامة. والحالة الثانية: ان تتقدم الدعوة على الامّة بمسافة طويلة فتجعل الامة وراءها لا تسمع ما تقوله الدعوة ولاتعيه، وبنفس المثال السابق نمثل ايضا، عندما ثارت الامة في ايران على الحكومة لو ان الدعوة رفعت شعار اسقاط الوضع السياسي في ايران كلية واقامة جهاز حكم اسلامي لتطبيق الشريعة الاسلامية كليا، لو اتخذت الدعوة رفع هذا الشعار بعد ان رأت الامة تقاوم قوانين الحكم لكانت الدعوة قد اخطأت ايضا وعزلت نفسها عن الامة وعرضت نفسها للانتقام العاجل من الحكام، لان الامة لا تزال بعيدة عن هذا المفهوم. ومثال آخر ايضاً لو ان الدعوة الآن رفعت شعار محاربة بعض العادات الاصيلة المضرة في المجتمع لرأت نفسها كذلك في عزلة عن الامة لان الامة لا تزال في وضع لا تفرق فيه غالبا بين ما هو صالح لها وما هو مضر.

ان الدعوة لكي تحقق الهدف الذي قامت من اجله عليها ان تسير مع الامة وتقودها الى الطريق الذي اختطته الى هدفها ويعني ذلك ان لا تغيب عن المسرح الحياتي للامة فلا تتخلف عن الاعمال التي تقوم بها الامة حتى ولو كانت اعمالا اصلاحية غير مهمة لان التخلف هنا يعني الوقوف الانفرادي. ولا تسبق الامة الى مواقف لا تزال فيها غير مقتنعة بجدواها واحقيتها مهما تكن هذه المواقف صائبة لان الاندفاع في ذلك مع عدم استجابة الامة يعني الانعزال ايضا وكلا الامرين سواء في النتيجة.

صحيح ان تخلف الامة عن التعاليم الاسلامية الواضحة يجب ان لا يخرجنا عن السير نحو الاهداف الاسلامية، ولكن الصحيح ايضا ان تحقيق الاهداف الاسلامية لا يتم مالم يكن السير مع مراعاة مستوى الامة وامكانية جذبها الى الحكم الشرعي. لان الخط الواضح الاصيل في سيرنا هو ازالة الفواصل بين الناس وبين تعاليم الاسلام ومن ثم تطبيقها على معاشهم.

ان من العوامل التي تؤثر في ايجاد العزلة هي الاستخفاف بفهم آراء وافكار الناس على اعتبار انها مفاهيم خاطئة او تافهة.

ومنها ايضا عدم الاحاطة بما تعمله وتقوله الفئات في المجال العام.

ومنها ايضا الاستعلاء على الناس والغرور بالنجاح الذي تحرزه الدعوة او يحرزه الداعية.

ومنها ايضا رفع الشعارات غير الملائمة للظرف.

ومنها الاستيحاش من المجتمع وعدم مخالطة الناس والاقتصار على الاتصال بالدعاة.

ومنها اهمال الاطلاع على ما يجدّ من افكار واحداث مؤثرة على الناس.

وكردّ فعل للانعزال يحدث في الدعوة امر آخر هو الركض وراء الاحداث والانقياد لها. وهذا من الاعراض الخطيرة التي تصيب الدعوات، لان المفروض في الدعوة ان لديها ما تفقده الامة او ما يفقده المجتمع من افكار واحكام وهي تعمل على ايجاد هذا المفقود فهي تقود الامة الى هذا الامر. والركض وراء الاحداث هو انقياد وليس قيادة. وهذا العارض نراه شائعا بين الاحزاب الموجودة في بلادنا، ولهذا لا يرجى منها ان تصلح او تغير شيئا من المساوىء التي يبتلي بها المجتمع، وذلك لان الامة الآن لا تملك اي مخطط عملي واي فكر موحد اصلاحي من اي نوع كان، وجميع تحركاتها ردود فعل لما يحدث لها من الامور او تحريك مصطنع من الحاكم او المستعمر. وقد يسمى الانقياد للاحداث بالذيلية فمؤثر الاحداث هو القائد والمتأثر بها هو الذيلي.

(٢) الورم الحزبي:

عندما تسير الدعوة بقوة غير ذاتية تبدو للخارج بصورة اكبر من حقيقتها، وعندما تؤثر في المجتمع لانها تساير القوى المؤثرة الاخرى يبدو وكأن هذا التأثير صادر عنها، عندما يحدث مثل هذا الامر والدعوة في غفلة عن الحقيقة فانها تتصرف وكأنها صاحبة القوة والتأثير الظاهريين والحقيقة هي ان هناك قوة ذاتية تساير قوة اخرى فترى من الخارج قوة واحدة هي القوة الظاهرية وعندما تتصرف الدعوة على اعتبار انها هي صاحبة القوة الظاهرية وهي ليست كذلك ـ تكون قد اصيبت بالورم والانتفاخ الحزبي، ونتيجة لهذا العارض الخطير يحصل الانهيار الذي يصعب النهوض بعده اذا اصيب الحزب به امدا طويلا، لان الحزب او الدعوة عندما تخوض معركة وهي بهذا العارض تزج نفسها على حساب انها تملك القوة الظاهرية فتخسر المعركة لسوء التقدير، ويحدث ذلك في نفسية العاملين زعزعة تؤدي الى ضعف المعنويات والتردد في الاعمال والانسحاب في الازمات نتيجة الوهم السابق الذي كان بمثابة الحقيقة. وهذه النكسة تؤدي الى تزعزع الثقة حتى بالقوة والامكانيات الحقيقية التي تملكها الدعوة لعدم التفريق بين القوة الذاتية والقوى الاخرى التي تسير بنفس الاتجاه وبقيادات بعيدة عن قيادة الدعوة. وفي الاحزاب المعاصرة امثلة كثيرة عن الورم الحزبي يدركها الدعاة بسهولة.

ان تلافي هذا الامر ينحصر بمعرفة القوى الذاتية والقيام بأعمال تتناسب معها لا مع القوى والامكانيات المكونة من مصادر مختلفة مشتركة في هدف قريب، وهذا لا يعني ان الدعوة لا تستفيد من القوى الاخرى السائرة في طريقها.

(٣) الركود:

تصاب الدعوة في بعض الاحيان بتوقف التأثير وتوقف النمو في مكان ما وهذا يحدث عادة عندما تكون الدعوة قد تمكنت من تبليغ رسالتها الى اهل ذلك المكان فعرفوا ماذا تريد الدعوة ولم يتقبلوه بل قاوموه، فعند ذلك تحاول الدعوة ان تمتد الى مكان مجاور او غير مجاور لتحاول ان تجد مكانا ترتكز عليه ويتبين هذا الامر في المرحلة الثانية للدعوة، وقد حدث ذلك في مكة للدعوة الاسلامية فانتقل الرسول ﷺ الى المناطق المجاورة واستجابت يثرب للدعوة فأسس الرسول ﷺ نواة الدولة الاسلامية العظمى التي امتدت في فترة زمنية قصيرة الى اقاصي المعمورة المعروفة.

(٤) الانحراف:

عندما تدخل الدعوة الى حلبة الصراع السياسي تكون ثقافتها واجهزتها قد تكاملت وبنفس الوقت سائرة في طريق النمو فتدخل المعارك السياسية من نقد للاعمال ونقض للافكار بصورة سافرة متحدية فتلقى التأييد الجماهيري تارة وترى الاعراض تارة اخرى، حسب المواقف التي تقفها الدعوة من الاحداث فقد يتلاقى رأي الدعوة مع رأي الجماهير وهواها فتكتسح الموقف السياسي، او يتعارض رأيها مع هواها فيضمر تأثيرها، وعندما تتكرر هذه العملية ويفرح الدعاة بالانتصارات ويصابون بالاذى والنكبات في وقت التراجع، وهم في ذلك بين مد وجزر، عند ذلك تبرز بعض الآراء الخاطئة الخطيرة لحرف الدعوة عن خط سيرها وعن تعاليمها تحت ضغط الاحداث وذلك في سبيل ارضاء الجمهور والسيطرة عليه بحجة ان الالتزام بالتعاليم يمكن ان يرجع اليه بعد مسك زمام الحكم او الجمهور وبحجة ان لا اهمية لبعض الافكار والاحكام في مجال الوصول الى السيطرة على اعتبار تفضيل الاهم على المهم. وهنا تكون قد تعرضت لخطر الانحراف فاذا خضعت الدعوة لهذا الفهم فانها تتحول من قائدة الى مقودة وتفقد اهم مبررات وجودها، وعندما تنزلق الدعوة الى هذا المنحدر تكون قد تحولت من دعوة انقلابية الى اصلاحية، ويعني ذلك ضرورة العمل من جديد لتغيير الاوضاع الفاسدة التي لا تصلح الا بتغيير جذورها واسسها. وفي هذا المجال من المتوقع ان يكون للكافر اليد الطولى في انجاح عملية الانحراف لانه في تلك المرحلة يكون الانحراف هو الامل الوحيد تقريبا لابقاء نفوذه ووجوده.

(٥) التميع:

ينقسم هذا العارض الى قسمين تنظيمي وفكري، ومن مظاهره عدم التقيد بالافكار المتبناة وبخطوط الدعوة العملية، ويعني ذلك ان الداعية لا يتقيد بفكر الدعوة ـ مع فهمه له ـ بأية حجة كانت ويقوم بأعمال لا تقرها الدعوة وليست من المرحلة او ليست في خط السير نهائيا وهو يعلم ذلك.

وفي المجال التنظيمي يحدث ذلك عندما تكون القيادة عاجزة عن السيطرة او عندما يندس المخربون بين الدعاة من حيث لا يعلمون فيتصرفون تصرفا تخريبيا ويحدثون الفجوات داخل الدعوة او عندما يدخل الدعوة افراد لا ينصهرون فيها وهم مخلصوا النية ولكن الشعور الفردي عندهم من القوة بحيث يمنعهم من الانصهار.

هذا العارض لايظهر خطره بشكل فعال الا في المرحلة الثانية حيث تتعرض الدعوة للهزات العنيفة، فاذا كانت مثل هذه الفجوات كثيرة فان الدعوة تهزل هزالا شديدا عند اول ضربة تتلقاها وجدير بكل عامل في المجال العام ان يهيء الصفاء والانسجام و التراص في البناء الاجتماعي الذي يشيده ولا سيما اذا كان هذا البناء سيتعرص لهزات شديدة.

هذه تقريبا اهم الاعراض التي تصاب بها الاحزاب، فاذا كانت الدعوة على علم مسبق بها يمكنها ان تتقيها، واذا تعرضت لها يمكن ان تعالجها بسهولة، وان كانت على غفلة منها لا بد وان تصيبها مجتمعه او مبعضة فتتكبد خسائر كبيرة لا سمح الله.

العوامل التي تحدد موقفنا من القضايا:

تعترض الدعوة مسائل يقتضي ان تحدد موقفها ازاءها سواء كان ذلك في حالة عمل من قبل الدعاة في مظهر فردي او حالة عمل تقوم به الدعوة بشخصيتها المعنوية.

ويمكن ضرب الامثلة لهذه القضايا كما يلي:

  • الاشتراك في الاعمال العامة مع الامة كمقاومة مسألة او تأييد عمل ما.

  • الاشتراك مع الاحزاب والمنظمات الاخرى في عمل ما كاحباط عمل يقوم به المستعمر.

  • الاشتراك في الانتخابات.

  • الاشتراك في عمل مع السلطة الجائرة التي لا تحكم بما انزل الله.

  • الاشتراك في وزارة في وضع غير اسلامي.

هذه قضايا ستتعرض لها الدعوة ولاكثر منها فكيف يتحدد موقف الدعوة ازاء مثل هذه الامور. هل تشترك؟ هل تؤيد؟ هل تعارض؟ هل تقف على التل؟

ان العوامل التي تحدد موقفنا هي مايلي. متخذين الحكم الشرعي دليلا للعمل:

  1. مصلحة الامة الاسلامية العليا.

  2. مصلحة الدعوة.

  3. علاقة الامر بالنفوذ الكافر.

  4. الظرف.

ان الموقف تأخذه الدعوة. من انطباق الحكم الشرعي على موضوعه المستنبط من النقاط الاربعة المذكورة اعلاه في اية قضية او مسألة تتعرض لها الدعوة اثناء سيرها، ومن الله نستمد التوفيق.