مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

تمهيد:

لعل من ابرز معالم هذا الدين الحنيف واوضحها كونه دين دعوة للناس كافة ورسالة للعالمين وقد تجلت هذه الحقيقة التي تميز بها هذا الدين الالهي الخالد من خلال رصيد ضخم من المفاهيم والمباديء والتعليمات التي حملتها آيات القرآن الكريم واحاديث رسول الله ﷺ وائمة المسلمين عليهم السلام ومواقفهم الرشيدة والتي تشكل بمجموعها ما يمكننا ان ندعوه (بفقه الدعوة الى الله تعالى والى دينه الحنيف) الذي لا يزال بحاجة ماسة الى بذل مزيد من الجهود العلمية لبلورته شكلاً ومضمونا، واخراجه من حالة التجزئة والتوزع على ابواب متناثرة وتحويله الى مشروع فقهي يلم شتات كافة المفردات والمفاهيم الخاصة بهذا الحقل تماما كما جرى بالنسبة لحقل الاقتصاد الاسلامي والحكم والادارة وما اليهما:

ويمكننا ان نستلهم عبر هذه المقدمة المقتضبة بعض معالم هذه المهمة التي نأمل ان يتصدى لها المتخصصون من الفقهاء العاملين خدمة للإسلام والمسلمين.

وما أيسر ان نتلمس حقيقة كون هذا الدين القويم دين دعوة ورسالة للعالمين ومهمة مفترضة يحملها المؤمنون ويتحملون اعباءها نصرة لدين الله وذودا عن رسالته وتبليغا لكلمته بوسائل شتى.. نتلمس ذلك من خلال ايراد العديد من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة التي يتسع لها هذا المقام.

نداء الدعوة على لسان القرآن الكريم:

١. قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَ‌ةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِ‌كِينَ ﴿١٠٨﴾

فقد اورد حجج المفسرين في معناها ما يلي:

”اي ادعو الى توحيد الله وعدله ودينه على يقين، ومعرفة وحجة قاطعة لاعلى وجه التقليد (أنا ومن اتبعني) اي ادعو انا ويدعوكم ايضا اليه من آمن بي ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهي عن معاصي الله“١

واما قوله:

”انا ومن اتبعني، فتوسعة، وتعميم لحمل الدعوة، وان السبيل، وان كانت سبيل النبي ﷺ مختصة به لكن حمل الدعوة، والقيام به لايختص به بل من اتبعه ﷺ يقوم بها لنفسه“٢

٢. وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٣٣﴾

اورد ثقاة المفسرين من العلماء الابرار المدلول التالي خلال تفسيرهم للآية المذكورة:

”وليس احد احسن قولا ممن دعا الى طاعة الله، واضاف الى ذلك ان يعمل الاعمال الصالحة“٣

”وفي هذه الآية دلالة على ان الدعوة الى الدين من اعظم الطاعات واجل الواجبات، وفيها دلالة على ان الداعي يجب ان يكون عاملا بعلمه ليكون الناس الى القبول منه اقرب واليه اسكن“٤

”من دعا الى الله وهو رسول الله والائمة الدعاة الى الحق القائمون مقامه.. والآية عامة في كل من جمع الصفات الثلاثة ان يكون موحدا معتقدا للحق عاملا للخير داعيا اليه“٥

وللعلامة السيد الطباطبائي رضوان الله عليه تفسير لهذه الآية شبيه بما ذكره الشيخ الطبرسي.

٣. ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَ‌بِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَ‌بَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿١٢٥﴾

ذكر الشيخ ابو علي الفضل بن الحسن الطبرسي رضوان الله عليه المعنى التالي في تفسير هذه الآية الكريمة:

”ادع الى دين ربك الذي هو طريق الى مرضاته بالحكمة، بالمقالة المحكمة الصحيحة وهي الدليل الموضح للحق، وقيل بالقرآن، والموعظة الحسنة وهي التي لا يخفى عليهم انك تناصحهم بها وتنفعهم فيها..“٦

٤. كُنتُمْ خَيْرَ‌ أُمَّةٍ أُخْرِ‌جَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُ‌ونَ بِالْمَعْرُ‌وفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‌ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ ۗ

ذكر اجلة المفسرين في تفسير الآية المباركة مايلي:

”فمعنى الآية انكم معاشر المسلمين خير امة اظهرها الله للناس بهدايتها لانكم على الجماعة تؤمنون بالله وتأتون بفريضتي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر“٧

”صرتم خير امة خلقت لامركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وايمانكم بالله…“٨

٥. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُ‌ونَ بِالْمَعْرُ‌وفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‌ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَ‌سُولَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ سَيَرْ‌حَمُهُمُ اللَّـهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٧١﴾

جاء في تفسير هذه الآية الكريمة مايلي:

”اي بعضهم انصار بعض يلزم كل واحد منهم نصرة صاحبه وموالاته.. وهم يد واحدة على من سواهم (يأمرون بالمعروف) وهو ما اوجب الله فعله اورغب فيه عقلا اوشرعا (وينهون عن المنكر) وهو ما انهى الله عن فعله وزهد فيه عقلا اوشرعا (ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله) اي يداومون على فعل الصلاة واخراج الزكاة من اموالهم ووضعها حيث امر الله تعالى بوضعها فيه، ويمتثلون طاعة الله ورسوله، ويتبعون ارادتهما ورضاهما“٩

”وفي الآية دلالة على ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الاعيان لانه جعلهما من صفات جميع المؤمنين ولم يخص قوما منهم دون قوم“١٠

من صور التكليف بالدعوة الى دين الله تعالى وهداية الناس اليه في ضوء النصوص الشريفة

من المتعذر جدا على دراسة مقتضبة ان تحيط بمجمل النصوص والتوجيهات والمواقف التي باشرها الرسول والائمة الهداة عليهم السلام التي تشكل بمجموعها (فقه الدعوة الى الاسلام) وانما تكتفي هذه الدراسة فحسب باستعراض عدد من صور التكليف بالدعوة الى دين الله تعالى من خلال النصوص الشريفة والتوجيهات التي تلقي ضوءً على موقع مهمة حمل الدين والدعوة اليه وارشاد الناس الى مبادئه بين فرائض الاسلام الاساسية.

١. وجوب العمل لاماتة البدع واقامة السنة:

”والبدع هي اهواء تتبع واحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله“١١

فبحكم ضلالة البدع ونأيها عن الحق الزم الاسلام الحنيف المؤمن المطلع ان يباشر عملية هدم البدع واقامة الحق واحياء سنة المصطفى ﷺ بين عباد الله تعالى.

قال رسول الله ﷺ:

”اذا ظهرت البدع في امتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله“

عن ابي جعفر وابي عبد الله عليهم السلام قالا:

”كل بدعة ضلالة سبيلها الى النار“.

٢. ضرورة تعليم الجاهل وارشاد الضال عن الحق:

عن ابي عبد الله عليه السلام قال:

”قرأت في كتاب علي عليه السلام ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى اخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، لان العلم كان قبل الجهل“.

٣. وجوب بث المعرفة وتعليم الناس:

”قلت لابي عبد الله عليه السلام: رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال الراوية يشدّ به قلوب شيعتنا افضل من الف عابد“

”عن ابي جعفر عليه السلام قال: من علم باب هدى فله مثل اجر من عمل به ولا ينقص اولئك من اجورهم شيئا ومن علّم باب ضلال كان عليه مثل اوزار من عمل به ولا ينقص اولئك من اوزارهم شيئا“١٢

٤. وجوب العمل لاقامة حكم الله في الارض:

يقول الله تعالى في كتابه العزيز:

شَرَ‌عَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَ‌اهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّ‌قُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ‌ عَلَى الْمُشْرِ‌كِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّـهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴿١٣﴾

فَلَا وَرَ‌بِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ‌ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَ‌جًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٦٥﴾ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُ‌ونَ ﴿٤٤﴾

ولسنا بحاجة الى المزيد من الادلة على وجوب اقامة حدود الله تعالى في الارض فطبيعة الاحكام وسيرة رسول الله ﷺ وائمة المسلمين عليهم السلام والعلماء المجاهدين والصالحين اوضح الادلة على ضرورة النهوض بهذا التكليف الديني الملزم.

ومن الجدير ذكره عند ذكر هذه الفريضة ان اقامة الدين وتنفيذ الشرع ليست قصرا على احكام معينة كحدود القصاص مثلا وانما تعني اقامة احكام الله بمجموعها في المجتمع والحكم والاقتصاد والقضاء والمعاملة بين الناس والعلاقات الدولية وما الى ذلك من امور اذ لا ايمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر١٣

٥. الجهاد في سبيل الله تعالى:

وهو بنوعيه الابتدائي والدفاعي وسيلة للدعوة الى الاسلام ونشر الرسالة واقامة الدين على ان الجهاد الابتدائي يشترط فيه جل الفقهاء ان يجري في عصر قيادة معصومة اونائب خاص لها، اما الجهاد الدفاعي فليس فيه هذا الشرط، وانما يجب على المسلمين كلما داهم الاسلام والمسلمين خطر من اعدائهم.

٦. فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهي من اعظم الفرائض التي افترضها الله تعالى على عباده واشرفها فقد علق عليها الاسلام الحنيف آماله في مسيرة الحياة الفاضلة وتوسل بها الى حفظ مسيرة البناء والتغيير في الامة عبر اجيالها، واعتمدها في هدم الشرور والاخطار التي تواجه الانسانية التي يصنعها على عينه، فهي

”سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب وترد المظالم، وتعمر الارض، وينتصف من الاعداء، ويستقيم الامر“١٤

وحيث سبق لنا ان استعرضنا بعض الآيات الكريمة التي اوضحت اهمية هذه الفريضة العظيمة في دنيا المسلمين، وموقع هذا التكليف الشرعي بين سائر الفرائض الاسلامية الاخرى فلا بدان نستعرض بعض الاحاديث الشريفة التي تشير الى اهمية هذه الفريضة ومكانتها:

  1. عن ابي جعفر وابي عبدالله عليهما السلام:

    ”ويل لقوم لا يدينون الله بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر“.

  2. وعن ابي الحسن عليه السلام قال:

    ”لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر او ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم“.

  3. عن ابي جعفر عليه السلام قال:

    ”يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤون ويتنسكون حدثاء سفهاء، ولا يوجبون امرا بالمعروف ولا نهيا عن المنكر الا اذا امنوا الضرر، ويطلبون لانفسهم الرخص والمعاذير يتتبعون زلات العلماء وفساد عملهم يقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلفهم في نفس ولامال ولو اضرت الصلاة بسائر مايعملون باموالهم وابدانهم لرفضوها كما رفضوا اسمى الفرائض واشرفها، ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله تعالى عليهم فيعمهم بعقابه، فيهلك الابرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن الارض وينتصف من الاعداء ويستقيم الامر، فانكروا بقلوبكم، والفظوا بالسنتكم وصكوا بها جباههم ولاتخافوا في الله لومة لائم فان اتعظوا والى الحق رجعوا فلاسبيل عليهم ”انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق، اولئك لهم عذاب اليم“ هنالك فجاهدوا بابدانكم وابغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولاباغين مالا ولامريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا الى امر الله ويمضوا على طاعته، قال: واوحى الله تعالى الى شعيب النبي عليه السلام اني معذب من قومك مائة الف، اربعين الفا من شرارهم وستين الفا من خيارهم فقال: يارب هؤلاء الاشرار فما بال الاخيار؟ فاوحى الله تعالى اليه داهنوا اهل المعاصي ولم يغضبوا بغضبي“.

  4. وعن امير المؤمنين عليه السلام انه حمد الله واثنى عليه وقال:

    ”اما بعد فانه انما هلك من كان قبلكم حيث ماعملوا من المعاصي ولم ينههم الربانيون والاحبار عن ذلك وانهم لما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والاحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واعلموا ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا اجلا ولن يقطعا رزقا“.

  5. وعن ابي عبد الله عليه السلام قال:

    ”الامر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله فمن نصرهما اعزه الله ومن خذلهما خذله الله“

  6. وعن ابي الحسن الرضا عليه السلام قال:

    ”كان رسول الله ﷺ يقول: اذا امتي تواكلت الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله“.

  7. وعن النبي ﷺ:

    ”ان الله ليبغض المؤمن الضعيف الذي لادين له، فقيل له، وما المؤمن الذي لادين له؟ قال: الذي لاينهى عن المنكر“١٥

وينقسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى قسمين من ناحية حجم المهمة ومساحة التكليف التي يؤديها المؤمنون في ضوء هذه الفريضة.

  • أ. الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره فريضة يتعاهد فيها الافراد بعضهم بعضا فيرشدون للاعمال الصالحة كالصلاة والصيام ونحوها، وينكرون الطالح من الاعمال التي يباشرها بعض الافراد كالكذب والغيبة والنميمة وترك الصلاة وما اليها ويمكن ان يصطلح على هذه المهمة بالمهمة الفردية، ولهذه العملية شروطها وحدودها كما موضح في الرسائل العملية.

  • ب. الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره فريضة شاملة تهتم بعموم الاسلام بمفاهيمه وقيمه وتعليماته، كما يشمل النهي عن المنكر ضمنها كل منكر شرعا بالنظر الى ان الاسلام كله معروف ونهي عن المنكر.

ويتحمل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ضمن هذه الفريضة اعباء اخرى ويتقيدون بشروط غير الشروط التي تتطلبها مهمة الفريضة في اطار الاعمال الفردية الجزئية، لان هذه المهمة تتحمل ـ فيما تتحمل من اعباء حضارية تغييرية ـ اعباء مواجهة المنكرات التي تمس اساس الدين وتهدد بيضة الاسلام مما يستدعي الدفاع والفداء وبذل النفس والمال من اجل دين الله تعالى وما يتطلب من اعداد لمستلزمات ذلك العمل قطعا ولهذه العلة يقول شيخ الطائفة ابوجعفر الطوسي رضوان الله عليه:

”اذا لم ينجح فيه الوعظ والتخويف ولا التناول باليد وجب حمل السلاح لان الفريضة لا تسقط مع الامكان الا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد“١٦

وهكذا يتحول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى فريضة جهاد دفاعي عن الاسلام باعتبار ما تقتضيه مهمة حفظ بيضة الاسلام والدفاع عن حرمة الدين ولهذا يقول العلامة المرحوم السيد الطباطبائي قدس سره:

”ان الدين الذي جاء به محمد ﷺ بكتاب من عند الله مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وهو دين الاسلام هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة، وبلغ به من حد الدعوة الخالية الى درجة الجهاد في سبيل الله بالاموال والنفوس“١٧

ولهذا الغرض بعينه يقول امير المؤمنين علي عليه السلام:

”وما اعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الا كنفثة في بحر لجي“١٨

على ان الفقهاء اعلا الله مقامهم يختلفون في تحديد درجة الوجوب في هذه الفريضة فبعضهم ذهب الى ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عيني يلزم به جميع المؤمنين كما عليه الشيخ الطوسي والحلي وفخر الاسلام والسيوري والشهيد في غاية المرام والطبرسي في المجمع وغيرهم.

وبعضهم يرى ان وجوبه على الكفاية كالحلبي والقاضي والفاضلين والشهيدين والاردبيلي وعامة الفقهاء المتأخرين اعلى الله مقامهم.

ورحم الله تعالى صاحب الجواهر الذي يميل الى القول بان الانكار القلبي للمنكر يتعين على كل مكلف واما غير ذلك الانكار فهو كفائي.

على ان الفقهاء الذين يقولون بوجوب هذه الفريضة على الكفاية يبقى الزام مجموع الامة بالتكليف قائما لديهم ما دام المنكر لم ينف عن حياة المسلمين ولم يغير.

يقول اية الله العظمى امام الامة السيد الخميني دام ظله العالي مايلي:

”الاقوى ان وجوبهما كفائي، فلو قام به من به الكفاية سقط عن الآخرين، والا كان الكل مع اجتماع الشرائط تاركين للواجب“١٩

”لو قام عدة دون مقدار الكفاية، ولم يجتمع البقية، ولم يمكن للقائم جمعهم سقط عنه الوجوب وبقي الاثم على المتخلف“٢٠

على ان الفقهاء العظام يدعون الى الاجتماع وتظافر الجهود من اجل هدم المنكر واقامة المعروف يقول امام الامة دام عزه:

”لو توقف اقامة فريضة او اقلاع منكر على اجتماع عدة في الامر او النهي لا يسقط الوجوب بقيام بعضهم ويجب الاجتماع في ذلك بقدر الكفاية“٢١

ويبدو ان الفقهاء اعلا الله مقامهم حين وضع جلهم مصطلح كفائية هذه الفريضة دون القول بفرضها (العيني) قد قدروا انه بالامكان ان تمر الامة في حالة يكون قطاع منها اوبعض مؤسساتها (كالحكومة او بعض اجهزتها مثلا) قادرة على اقامة المعروف وهدم المنكر الى حد الكفاية دون حاجة الى تجنيد الامة كلها كما يفترضه القول بعينية هذه الفريضة.. وهذه ملاحظة حضارية جديرة بالتقدير والاهتمام..

مسؤوليتنا في ضوء الواقع المعاش:

ومن ملاحظة لحقائق الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم والذي تكاد تعبر عنه ادق تعبير الفقرات الآتية من دعاء الافتتاح الذي يعتاد المؤمنون قراءته في ليالي شهر رمضان المبارك

”اللهم انانشكو اليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله، وغيبة ولينا وكثرة عدونا وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا…“.

تبرز الحقائق التالية:

  • فالامة الاسلامية تعاني من الجهل برسالتها، حتى غدت نهبا للتيارات الفكرية الوافدة كالشيوعية والاشتراكية والرأسمالية والوجودية والقومية وما اليها.

  • وبلاد المسلمين يشيع فيها الفساد الخلقي، وترعى الفساد ـ فيما عدا ايران الاسلام ـ مؤسسات وحكومات وجيوش.

  • وشريعة الله تعالى تقصى علانية عن الحياة ويعمل الطغاة وسعهم على تربية اجيال الامة من خلال المدارس والمناهج والاعلام تربية مغايرة للاسلام.

  • ويتعرض المؤمنون في اقاليم العالم الاسلامي الى القتل والسجن والتشريد والارهاب تحت واجهات الارهاب والرجعية والاخلال بالامن وماالى ذلك.

  • ويمنع الكتاب الاسلامي والتوعية الاسلامية، وتحاصر المساجد والشعائر ويزور الوعي في اقاليم مسلمة كثيرة.

  • ويصطف الاعلام المحلي والعالمي كله في خندق واحد لمحاربة الاسلام والمؤمنين الواعين، وتزوير النهضة الاسلامية والتعتيم عليها.

  • وتتعاون قوى الكفر العالمي كلها على اختلاف مشاربها ومصالحها ومعها دويلات العالم الاسلامي على محاربة الاسلام وخنق اشعاعات النهضة الاسلامية في الارض.

  • وتمتلك قوى الكفر وسائل متطورة، للدعاية وعملاء واحزابا واجهزة مخابرات، ومخططين واموالا ضخمة لمواجهة الاسلام ورواد النهضة الاسلامية وتشكل اليهودية العالمية والتبشير المسيحي والهندوكية والاديان الاخرى ارصدة ضخمة يملكها الكفر العالمي في حربه للاسلام.

ان هذه العقبات والاخطار التي تقف في طريق الاسلام والمؤمنين الواعين وكثير غيرها تشكل بعض مصاديق الواقع المعقد الذي يقف في وجه نهضة المسلمين اليوم.

واذا اضفنا الى كل ذلك ان الكفر العالمي ومؤسساته وعملاءه قد اصيبوا بالذعر حين سجل الاسلام اول انتصار تاريخي له في العصر الحديث حين انتصرت الامة المجاهدة في ايران على عميل الكفر العالمي واقامت حكومة الاسلام الظافرة بقيادة العبد الصالح زعيم المسلمين آية الله العظمى الامام الخميني اعز الله تعالى نصره وسدد خطاه، فقد شعر العملاء واسيادهم بجدية الموقف، وجسامة الخطر الذي يجره انتصار الاسلام على مصالحهم ونفوذهم في الارض الامر الذي ضاعف من جهود الاسياد والعملاء معا لاجهاض النهضة الاسلامية العالمية التي تصاعدت بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة في ايران، حيث ازدادت الهجمة الاستعمارية الكافرة ضراوة على المؤمنين في كل مكان واستحدثت اجهزة لرصد العمل الاسلامي في العالم ووضعت امكانات هائلة من اجل ذلك، وبالغ الكفر وعملاؤه في انزال اقسى الضربات بالعمل الاسلامي ومؤسساته ورواده في كل مكان، ولعل قانون اعدام الدعاة الذي شرعه عميل الكفر العالمي حاكم العراق لاستئصال المؤمنين العاملين في العراق احد مصاديق شراسة هذه الهجمة الكافرة (صدر القانون المشؤوم بتاريخ ١٩٨٠/٣/٣١م)، كما تشهد تونس، ومصر، واندنوسيا والاردن وامارات الخليج واقاليم مسلمة كثيرة اخرى اوضاعا شبيهة بما يجري في العراق الجريح.

ان هذه الامور مجتمعة تتطلب من المؤمنين ان لا يكتفوا بما تواضعوا عليه من اساليب عمل اسلامي شهدته العقود الاخيرة من حياة الامة استجابة لامر الله وتكليفه، وانما ينبغي ان يعززوا اساليب العمل الاسلامي المختلفة القائمة ويغنوا مسيرتهم يما يستحدثون من مسارب عمل جديدة تكمل النقص وتشد الازر وتفتح ابوابا جديدة للعمل في سبيل الله تعالى، وتحرص على استثمار كل طاقات الامة الكامنة من اجل معركة النهضة الشاملة التي يخوضها الاسلام والمؤمنون ضد معوقي الانعتاق من المستكبرين وعملائهم ومؤسساتهم في الارض.

وان الانشغال بمناقشة الاجتهادات واساليب العمل الاسلامي التي تقتنع بها قطاعات الامة المسلمة بنَفَس المحاربة والتسقيط، والازراء بها والاساءة الى المؤمنين بسبب اجتهاداتهم واساليبهم في العمل يشكل اخطر الثغرات في جبهة العاملين في سبيل الله تعالى، مما يقدم خدمة كبرى للكفر العالمي وعملائه في المنطقة الاسلامية ويوفر اجواء للفرقة والخصام والانشغال عن الهم الاسلامي الاكبر.

ان اساليب العمل في سبيل الاسلام الحنيف غير مقصورة على طريقة واحدة ابدا، وليس في الشرع الاسلامي تحديد لاسلوب بعينه مطلقا

يقول المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره بهذا الصدد مايلي:

”بسم الله الرحمن الرحيم، ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، والدعوة الى الاسلام ليس لها طريقة خاصة فكلما يراه المبلغ اجدى وانفع يلزمه العمل به“

ويقول آية الله العظمى السيد ابوالقاسم الخوئي بهذا الصدد مايلي:

”بسمه تعالى شانه، ليس للدعوة الى الاسلام اسلوب خاص، بل الداعي اذا توفرت فيه شروط الدعوة من العلم والعمل له ان يدعو بأي اسلوب يراه مناسبا ومؤثرا“٢٢

كما ان خطورة المرحلة التي تمر بها الامة الاسلامية تتطلب تعزيزالعمل الاسلامي بكل طرائقه واساليبه من اجل مواجهة الكفر العالمي ونفوذه وقواه، فان جميع المؤمنين العاملين في سبيل الاسلام بمختلف اساليب عملهم ـ فضلا عن دولة الاسلام ـ يشكلون القوة الوحيدة التي يملكها الاسلام في الارض، كما انهم فدائيو النهضة الاسلامية الذين يتحملون العنت والتشريد والقتل والسجن بسبب حملهم للاسلام رسالة خير ومحبة وانعتاق.

ورغم ان من اهداف الجماعات الاسلامية ان تقيم الحكومة الاسلامية مثلا فان هذا الهدف قد تحقق عمليا بحمد الله تعالى بقيام الحكم الاسلامي في الاقليم الايراني، وبامكان الجماعات الاسلامية التي تعيش فعلا في هذا الاقليم ان تكرس جهدها لتعميق التدين لله تعالى وتوعية المسلمين توعية سياسية وتوفير شروط اقامة المجتمع الاسلامي في الاقليم المحرر من النفوذ الكافر علاوة على بذل اوسع للدفاع عن بيضة الاسلام التي تجسدها ايران الاسلام، فان مجرد قيام الحكم الاسلامي لا يعني بحال ان الناس قد تحولوا بين عشية وضحاها الى مؤمنين منفذين لاوامر الشرع واعين لمسؤولياتهم وانما لا بد من بذل جهود كبيرة من اجل تحقيق هذا الهدف الكبير، لعل جهاز الحكم يشكل ـ في هذا المضمار ـ خير ضمانة لانجاز مشروع التغيير الاسلامي الشامل في هذا البلد المظفر على ان يلتزم العامل وينضبط بضوابط الحكم الاسلامي المعمول بها كما ان العاملين في الاقاليم الاخرى لا بد من سعيهم الجاد من اجل تحكيم الاسلام في بلدانهم بالاساليب الشرعية التي يقتنعون بجدواها عمليا ليوسعوا رقعة النهضة الاسلامية المباركة.

ومن الجدير ذكره انه حتى اذا افترضنا قيام المجتمع الاسلامي بكل شروطه في اقليم ما فأن العامل في سبيل الله تعالى تطرح امامه حيثياث اخرى تساهم اساسا في بلورة جهوده وحركته ليبقى عمله دائبا من اجل الاسلام الحنيف ويمكن ادراج هذه الحيثيات بالنقاط التالية:

  • تكثير عدد المؤمنين بالله ورسالته في الارض.

  • تعليم الناس مباديء دينهم.

  • نشر الاسلام في اقاليم اخرى من الارض.

  • بسط سيادة الاسلام في العالم.

  • المحافظة على اسلامية المجتمع القائم.

  • اقامة المجتمع الاسلامي العالمي.

  • دعوة الامم الاخرى الى الاسلام.

ان الحيثيات المذكورة تشكل محاور بارزة جوهرية للمسؤوليات التي يبقى من اللازم ان يتحرك المؤمنون الواعون ضمنها اداء للتكليف الالهي وتلبية لنداء المسؤولية عبر حركة الاسلام التاريخية المباركة حتى مع افتراض قيام المجتمع الاسلامي بكل شروطه في اقليم ما او عدد من الاقاليم في العالم.

وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‌ ﴿٤١﴾

  1. مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي رضوان الله عليه في تفسير الآية. ^

  2. تفسير الميزان للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رضوان الله عليه ^

  3. مجمع البيان للشيخ الطبرسي رضوان الله عليه في تفسير الآية المذكورة. ^

  4. مجمع البيان للشيخ الطبرسي رضوان الله عليه في تفسير الآية المذكورة. ^

  5. جوامع الجامع في تفسير القرآن الكريم للشيخ ابي علي الفضل بن الحسن الطبرسي رضوان الله عليه في تفسير الآية ^

  6. جوامع الجامع في تفسير الآية المذكورة وفي مجمع البيان والميزان تفسير مفصل حكيم لهذه الآية يراجعه من شاء الاستزاده. ^

  7. تفسير الميزان ج ٣ ^

  8. مجمع البيان للطبرسي رضوان الله عليه ^

  9. مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٣ تفسير الآية المذكورة ^

  10. مجمع البيان في تفسير القرآن ج ٣ تفسير الآية المذكورة ^

  11. اصول الكافي ج ١ فضل العلم باب البدع والراي والمقاييس. ^

  12. الاحاديث اعلاه من نفس المصدر السابق كتاب فضل العلم. ^

  13. اشارة الى آية ٨٥ من سورة البقرة ”افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض“. ^

  14. وسائل الشيعة كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والحديث للامام محمد بن علي الباقر عليه السلام. ^

  15. الاحاديث عن المحجة البيضاء للمولى محسن الكاشاني رضوان الله عليه ج ٣-٤ باب الامر بالمعروف نقلا عن الكافي للشيخ الكليني رضوان الله عليه ^

  16. تفسير البيان الشيخ الطوسي رضوان الله عليه ج ٤ ص ٥٤٩ ^

  17. الميزان ج ٨ ص ٢٨٠ تفسير سورة الاعراف آية ١٥٧. ^

  18. نهج البلاغة ^

  19. تحرير الوسيلة ج ١ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ^

  20. تحرير الوسيلة ج ١ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ^

  21. تحرير الوسيلة ج ١ كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. ^

  22. نص الفتويين موجود في كتاب من الفقه السياسي في الاسلام، محمد صالح جعفر الظالمي ص ١٥٦ بيروت عام ١٩٧١م. ^

السابق