ماذا في العراق
خشي الاستعمار الامريكي والانكليزي من ميوعة الاوضاع السياسية ايام عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى، فاتفقا على التخلص منهما والمجيء بحكام لهم من مظاهر التأييد ما يكفي لتمرير المخططات الاستعمارية، فجاء الى السلطة خليط من العملاء:
النايف يمثل الولاء لامريكا امتداداً للعهد السابق. والبكر عميلالبريطانيا.. وقد اراد الاستعمار ان يستعمل واجهتي القوميين العرب وحزب البعث كقاعدة تبدو كأنها قاعده شعبية لاسناد السلطة الجديدة.
وسرعان ماتخلص عملاء الانكليز من عملاء الامريكان خلال ثلاثة عشر يوما. وكان من اهم المهمات الاستعمارية التي جاء بها العهد الجديد:
ضرب نمو الحركة الاسلامية الشعبية في العراق التي بدأت تظهر على الساحة السياسية بشكل جاد ورزين وهاديء وفعال، وتتميز بانها اتت بشكل متدرج.. الامر الذي اوجد خوفا من امتداد التأثيرالاسلامي الى انحاء البلاد،وانتشاره في الخارج، مما يؤدي الى انهاء السيادة الاستعمارية.
وسار الحكم الجديد في تطبيق السياسة الاستعمارية.. يحدوه الى ذلك ولاؤه للاستعمار، وعداؤه التقليدى للحركة الاسلامية على اعتبار ان التحرك الاسلامي يعارض التحرك السياسي على اساس قومي، تمشيا مع التربية التي تربى عليها الحزبيون برعاية النصارى: زعماء الاحزاب القومية ومن والاهم من المسلمين، عمالة فكرية للاستعمار، او عمالة مباشرة لاجهزة المخابرات الاجنبية.
تفرد بالحكم أحمد حسن البكر، اكبر عملاء بريطانيا في العراق يعاونه حردان التكريتي وصالح عماش، واستعانوا باجهزة حزب البعث العربي الاشتراكي، وبأشخاص يحملون الولاء للبكر، ولديهم ارتباطات مع اجهزة المخابرات البريطانية لملء المراكز الحساسه في الدولة.
وكان يغلب على احمد حسن البكر الحسّ العشائري، فلايثق الا باقاربه. ومن هذا المدخل اقتحم صدام ابواب السلطة من بابها الواسع.
وجرت صراعات عنيفة داخل السلطة وداخل الحزب صفى من خلالها البكرـ بواسطة اجهزة القمع التي كان على رأسها صدام وناظم كزارـ العديدين وتساقطت رؤوس السلطة والحزب، الواحد تلو الآخر: ـ حردان التكريتي.. صالح مهدى عماش.. عبدالله سلوم السامرائي.. عبد الخالق السامرائي.. علي عليان…عبد الكريم الشيخلي… وغيرهم كثيرون، لمعت اسماؤهم فترة ثم خبا ذكرهم، وقبعوا اما في عذاب القبر، او في السجون، او اصبحوا يتسكعون في الشوارع او يتمتعون كالانعام. حتى وصل صدام الى مرتبة المشارك الصغير للبكر.. الى ان انقلب عليه، بعد زيارة وزير خارجية بريطانيا الى العراق.
ولعل الوزير البريطاني اعطى الضوء الاخضر للتخلص من البكر بعد ان لم يعد بمقدوره تقديم الخدمات لبريطانيا في الظروف الصعبة التي تجتازها المنطقة.
فقد نحي البكر عن مناصبه في قيادة الجيش والحزب والدولة، واستولى عليها صدام في فترةهجمة شرسةجديدة على المسلمين في العراق، حيث اعتقل الآلاف من الناس، ضمنهم النساء والاحداث واستشهد تحت التعذيب الوحشي بعض المؤمنين. وفي فترة نشاط مسلح محموم يقوم به العميل صدام ضد الثورة الاسلامية في ايران ويستعين بالعملاء البريطانيين، وضعاف النفوس ممن يعملون تحت الاغراء المادي من المسلمين الذين باعوا انفسهم للشيطان.
وقام العميل صدام بتصفية واسعة في حزب البعث، وفي اجهزته المدنية والعسكرية، ليستتب له الامر تحت عنوان: ”مؤامرة على الحزب“ وذلك لابعاد من يعارضه في هجماته الشرسة تلك، وابعاد أنصار البكر في الحزب، وابعاد من يظهر ادنى تردد في الولاء الشخصي له.
وقد تفرد صدام حسين بحكم العراق: فهو رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس قيادة الثورة، وزعيم حزب البعث، والقائد العام للقوات المسلحة، ويستعين باجهزة الحزب الموالية له اكثر مما كان في عهد البكر بكثير، اذ ان صدام حسين ذوذهنية حزبية بعثية بخلاف البكر.
ولو تتبعنا هذه الفترة السيئة جدا في الحكم لوجدنا ان الوجود القلق للاستعمار ولعملائه من ابرز العلامات فيه، فان الصراع داخل السلطة لايهدأ، والمظالم الواقعة على رؤوس الناس تستمر، حتى ان بعض اجهزة حقوق الانسان العالمية تقول: ان اكبر نسبة من الاعدامات الموجودة في منطقة ما يسمى بالشرق الاوسط في العراق. ولو اتضح لهذه الاجهزة حقيقة المقتولين واعمال القتل غير المعلنة، التي تمارسها اجهزة الحكم في العراق، لغيرت رأيها، ولوصل عدد المقتولين ـ نتيجة الصراع السياسي في العراق ـ الى عدد اكبر مما هو في اي بلد في العالم.
وان محاولة تهديهم بقايا التماسك الحضاري بين الناس، واستبدالها بتفاهات الحضارة المادية المعاصرة مستمرة وبصورة مسعورة. وذلك بمحاولة محاربة الفكر الاسلامي، واحياء التراث الجاهلي الميت، وتهديم القيم والاخلاق بنشر الفساد والترويج للرذيلة.. وذلك لنشر السيطرة الاستعمارية في الاقليم العراقي.
يقول احد المستشرقين:
ان السيطرة على اي منطقة في العالم لاتتم الامن خلال وقف مفعول الحضارة الداخلية لهذه المنطقة.
ان اغتيال الشهيد السعيد صاحب دخيل واعدام الشهداء السعداء: الشيخ عارف البصرى، والسيد حسين جلوخان، والسيد نوري طعمة، والسيد عزالدين القبنجي، والسيد عماد التبريزي، ثم القتل السريع بالتعذيب الوحشي للشهيد عبدالامير مشكور ما هو الا ضمن عملية اغتيال كل من يعمل لاعادة التماسك الحضاري لهذه الامة لكي لا تتم عملية السيطرة الاستعمارية ولكي تتهدم وتتساقط هذه السيطرة بالاستمرار وتوسيع عملية الجهاد الاسلامي.
وكان من ابرز مظاهر الحكم الذي قاده البكر كما شاهدناها وعايشناها، الامور التالية:
أولا: محاولة الالتفاف حول العمل الاسلامي لجره كذيل من ذيول الحكم، كما فعل مع بعض التجمعات السياسية الاخرى.. الاانه فشل في ذلك مع العمل الاسلامي فشلا ذريعا.
ثانيا: حاول ان يبرز الحكم نفسه وكأنه معاد للاستعمار فافتعل بعض الحوادث، وضخّم بعض الحوادث الاخرى. مثل عملية اكتشاف اوكار التجسس الامريكي في العراق، والمحاكمات العلنية والاعدامات الجماعية للجواسيس المزعومين وغير المزعومين.
وكان يوجه الاعلام الى هذه الحوادث بشكل بارز جدا لتظهر السلطة كأنها معادية للاستعمار.
ولكن التركيز على عملاء الاستعمار الامريكي وحدهم، مع ان العراق يعيش فيه جهاز ضخم للاستعمار البريطاني، اوجد تسأولاً كبيراً حول السكوت عن شبكات التجسس البريطانية..
ومثل تمثيلية تأميم شركة نفط العراق في منطقة كركوك حيث ان شركة (برتش بتروليوم) ارادت ان تسلم الآبار للعراق على ان تستلم النفط على البحر مراعاة لمصلحتها، لانها لاتعتبر حفر آبار جديدة عملية اقتصادية بالنسبة اليها، ولانها استخرجت مليار طن من الآبار المحفورة وهي الكمية الاساسية لمثل هذه الآبار. ولكي تتخلص من عبء نقل النفط ضمن خطوط النفط عبر سوريا.. ولكي تتخلص ايضا من عبء الاموال الطائلة التي يستحقها العاملون في الآبار طيلة امتياز الشركة، ثم انها تمكنت ان تأخذ تعويضا مقداره خمسة عشر مليون طن من النفط تتسلمها في ميناء طرابلس عند البحر الابيض.
وكان لهذه اللعبة الاستعمارية مهرجان ضخم قامت به السلطة العميلة لتظهر بمظهر الثورية والاشتراكية ومعاداة الاستعمار.
ثالثا: وعندما يئست القيادة الجديدة للحكم من الالتفاف على الحركة الاسلامية اتجهت نحو القمع، واتخذ هذا العمل مظاهر مختلفه:
-
أ. محاربة المرجعية وتوهينها. وقصة البكر مع السيد الحكيم، رضوان الله عليه، معروفة ولاحاجة لتكرارها.
-
ب. محاولة تفريغ الحوزة العلمية في النجف الاشرف من طلابها، حيث جرت عملية تهجير قاسية جدا وواسعة للطلاب غير العراقيين من النجف، وخاصة الطلاب الايرانيين، وقد اثر هذا العمل على النشاط العلمي داخل الحوزة.
-
ج. محاربة المتدينين بصورة عامة.
-
د. محاربة العاملين للاسلام، بقسوة، وقد عذبوا بصورة وحشية مجموعة كبيرة من الدعاة، وقتلوا مجموعة اخرى من الدعاة واعدموا الكثير من الدعاة وسجنوا مجموعة اخرى بعد محاكمة صورية لهم.
-
ه. تشجيع الشباب على الفساد بانواعه المختلفه لابعادهم عن الاسلام.
-
و. ثم قاموا في الايام الاخيرة بهجمة شرسة جدا قتلوا خلالها مجموعة من الدعاة بالتعذيب، وقتلوا مجموعة كبيرة اخرى، واعتقلوا الآلاف من المسلمين فيهم النساء والاطفال.
رابعا: كان الحكم يهتز اهتزازاً عنيفاً بعد كل ضربة يكيلها للمسلمين، وخاصة بعد ان نما نفوذ صدام حسين برعاية البكر، حتى اصبح صاحب النفوذ الاكبر بعد ان تخلص البكر من زملائه: حردان التكريتي وصالح مهدي عماش، وبعد ان تخلصوا من القيادات الحزبية ذات النفوذ مثل عبدالله سلوم السامرائي وعبد الخالق السامرائي وعلى عليان وناظم كزار،وغيرهم ممن يسبهم الناس وقد لاقوا ربهم محملـّين باوزار الظلم والجور حتى ان وصل الامر الى ان تخلى الاستعمار عن البكر، وحل صدام محله لان الظرف السياسي الاستعمارى يقتضي تشديد القبضة على المسلمين ووجود صدام وحده في الحكم يبعد عن الخطة الاستعمارية التردد في التنفيذ.
خامسا: كان من مظاهر الحكم: التفكير العشائري ايام سلطة البكر، فلا يثق الاباقاربه، ومن هنا كان صعود نجم صدام حسين، وعدم اعطاء منصب وزارة الدفاع الا الى تكريتي، فقد تعاقب عليها حردان التكريتي، ثم حمادي شهاب التكريتي، وبعد مقتله لم يسلمها البكر الا الى الضابط الصغير عدنان خير الله التكريتي، بعد ان تمكن من اضفاء المناصب العسكرية عليه.
وكذلك فان المناصب الحساسة في المخابرات والامن يشغلها اقارب البكر واقارب صدام.
سادسا: ومن اجل ضرب الاتجاه الاسلامي في العراق بدأت السلطة تلعب لعبة الطائفية، للمزيد من تفريق المسلمين الى حد ان خير الله طلفاح جمع بعض العلماء السنة يحثهم على اثارة العصبيات المذهبية، لضرب التحرك الاسلامي، ولكنه بحمد الله لم ينجح في ذلك.
سابعا: تتفنن السلطة في ابتكار وسائل تلهية الشعب عن مشاكله، فتقوم بمجموعة اعمال القصد منها توجيه انظار الناس نحو امور تافهه في حقيقتها، بقصد تخدير الشعور الجماعي بالظلم والاستبداد والعمالة، ومن هذه الاعمال:
-
أ. استدعاء البهلوان (عدنان القيسي) واجراء سلسلة من المباريات في المصارعة الحرة، في مختلف انحاء العراق، وتغطيتها باعلام مثير، اشتركت فيه جميع اجهزة الدولة والحزب، حتى ان الشيخ عبد العزيز البدرى، رضي الله عنه، ذهب ضحية كشف هذه اللعبة القذرة، فقد بين في خطبة الجمعة الاخيرة له ان عدنان القيسي وسيلة لخداع الجماهير وتلهيتهم، لتقوم السلطة العميلة بسحب الجيش العراقي عن حدود فلسطين، وما كان من السلطة الا ان سحبته من بيته، وعذبته في اقبية وزارة الدفاع حتى فقأت عينيه وكسرت جمجمته، رحمه الله.
-
ب. اختراع قصة ”ابو طبر“ الذي اوقع الناس في رعب كبير لعدة اشهر، فقد كان توجيه الاعلام لوصف جريمتين بانها خطة اجرامية واسعة تستهدف الحزب والدولة ويقوم بها الاستعمار.. انما كان يهدف الى ايقاع الناس وخاصة الحزبيين المنتمين لحزب البعث ولصرفهم عن التفكير في الانتخابات القطرية الى حماية انفسهم من (ابي طبر) المزعوم، حيث ان استياءً عاماً كان ينتشر بين الحزبيين من التفكير العشائري المسيطر على قيادة الحزب المحتكرة للسلطة والحزب. وبعد انتهاء الانتخابات سكنت موجة التخوف من ابي طبر بعد ان سكتت اجهزة السلطة من ترويجها.
-
ج. اخفاء السلع الاستهلاكية التي اصبحت مظهرا من مظاهر الحياة العامة ايام حكم البكر ـ صدام، فترى الناس يتراكضون وراء كارتونة البيض وشراء الدجاجة أو كيلو البطاطة او شراء ثلاجة او غسالة او اي سلعة اخرى، فان السلع تظهر وتختفي من خلال لعبة قذرة لالهاء الناس في بطونهم، حتى ان الناس انتبهوا الى ان السلع توفرت في السوق اثناء انعقاد مؤتمر القمة العربية في بغداد، واكتشفوا ان السلطة يمكن ان توفر السلع اذا شاءت ذلك.
-
د. تقوم السلطة ببعض الاحتفالات الدينية لتظهر بمظهر الاهتمام بالدين او عدم محاربته، حتى انها سرقت الاحتفال ببعض المناسبات التي اعتادت الجماهير ان تقوم بها، مثل الاحتفال بمولد الامام الحسين عليه السلام في مدينة النجف، والاحتفال بمولد الامام على بن ابي طالب عليه السلام في مدينة كربلاء. وتحاول ان تلفت الانظار الى هذه الاحتفالات للتلهية.
-
ه. العمل الشعبي خدعة او تلهية، اذ أن المصاريف التي تصرفها الدولة على لعبة العمل الشعبي اكثر بكثير من حقيقة التكاليف التي تصرف على امثالها من مشاريع، وهذا الفن في الخداع سرى الى خارج الاقليم العراقي.
-
و. اهتمام الدولة بتشجيع الرياضة والرياضيين، بلغ حدا اشاع الاعجاب باعمال التلهية بالرياضة والاهتمام بها الى كل بيت من بيوت العراق في مواسم الرياضة، ولينس الناس السياسة والاقتصاد، وينتبهوا الى اللاعب واللعبة والفريق.. وهو اسلوب من اخبث الاساليب التي تستعملها الدولة لحرف اتجاه الجماهير.
ثامنا: تتلاعب السلطة بالقضايا السياسية العليا التي يحترمها الناس ويتوقون اليها مثل تحرير فلسطين، ومثل وحدة المسلمين. وتدعي السلطة الحاكمة بانها تسعى الى تحرير فلسطين وهي كاذبة، وتدعي انها تسعى لوحدة العرب وهي كاذبة ايضا.
والادلة على ذلك كثيرة ولاحاجة الى التفصيل فيها، فمنهاعلى سبيل المثال:
-
انها اوجدت منظمة فلسطينية لتضرب المنظمات الفلسطينية.
-
تعمل لشق وحدة الفلسطينيين، وقامت باغتيال القيادات الفاعلة في العواصم الاوروبية.
-
عقدت موتمرا للقمة العربية ضمن اللعبة الدولية لحل القضية الفلسطنية ضمن مظلة المشاريع.
-
كان بامكان حزب البعث ان يقيم وحدة بين الاقليمين العراقي والسورى بعد ان استولى على الحكم، وبدلا من ذلك فقد انشق الحزب الى حزبين.
تاسعا: كان العراق من انشط الدول في التصدي للثورة الاسلامية في ايران، هذا الهدف الذي تهتم به امريكا وبريطانيا وغيرها كثيرا.
وقد استشرى النشاط المعادي للثورة الاسلامية في المنطقة العربية من ايران بعد زيارة وزير الخارجية البريطاني للعراق لتقويض اثر الثورة الاسلامية داخل ايران. ويقوم العراق بكل تهور في هذا المجال. ومن المأمول ان يرتد هذا العمل المتهور على من يقوم به بشكل او بآخر.
وليس من المستبعد ان الانقلاب الذي حدث في العراق هو من تدبير وزير الخارجية البريطاني لازالة الازدواجية في السلطة، وازالة التردد في محاربة العمل الاسلامي في المنطقة باسلوب العنف الدموي الذي تمرست به اجهزة السلطة العميلة في العراق، ولذلك ازداد تكالب السلطة في عبادان والمحمرة وكذلك ازداد تكالب السلطة المسعور ضد الدعاة الاسلاميين في العراق. ويحاول الاستعمار وعملاؤه ان يستخدموا اسلوبا خبيثا في هذه المحاربه، فيصورون العمل الاسلامي في العراق، وكأنه من فعل الثورة الاسلامية في ايران، وهم يعلمون ان الحركة الاسلامية في العراق تعمل كما كانت تعمل الحركة الاسلامية في ايران وفي مصر وفي سوريا.