نظرات للتأمل في التدين والتخطيط
تطرح بعض الافكار نفسها بين فترة واخرى نتيجة للاحساس المشترك بها ونتيجة لأهميتها الخاصة. وفي هذا البحث جملة من الافكار والمفاهيم والاستعراضات صبت بقالب استطرادي وذلك لكي تثير بنفسك المشاركة بالبحث والتأمل والاستنتاج ومن ثم تتعود على التزود الذاتي جزئيا بالفكر اي ان تستنبط الافكار العملية والنظرية من الحياة العملية ومن الثقافة العامة ضمن إطار الفكر العام الذي تتبناه والخط العام الذي تسيرفيه. ظهرت على لسان البعض ان الروح الدينية ضعيفة في الدعوة كجهاز وفي الدعاة كافراد أو قد يقال ان الروح الدينية إن لم تكن ضعيفة فهي مندكة في حالة الاهتمام بالتنظيم لدى الدعاة وأن الدعوة اهتمت من حيث الاصل بالفكر التنظيمي والفكرالاجتماعي، واغفلت الفكر الديني او قد يقال ان الدعوة مع وضوح كونها جهازاً متغيرا ومغيرا فانها اهتمت بالمجتمع ـ خارج جهازالدعوة ـ تدعوللاسلام وتنبذ الفكر الكافر، وتغافلت عن جهازها نفسه فلم تشترط على الدعاة شروطاً تدينية عندما ينتمون اليها، ولم تلزمهم بافعال عبادية معينة بعد ان اصبحوا اعضاء في هذا الجهاز.
او قد يقال ان الدعوة غرورا منها وبسبب شعور الكبرياء فيها تركت النظر الى مايحتويه داخلها واهتمت بخارجها.
إن هذا الكلام منبثق عن جملة من الافكار والمفاهيم السلوكية للفرد والمجتمع كما وان كل واحد من تلكم المفاهيم السلوكية لها اثر كبير او شامل في حياة الناس وبخصوص العاملين في سبيل الاسلام فان منهم من يغلب عليه طابع التخطيط مثلا ومنهم من يغلب عليه طابع التوكل على الله تعالى ومنهم كذلك من ليس له طابع معين وليس معنى غلبة هذه المسالك بعضها على بعض في حياة الناس ان الناس انفسهم قد وضعوا كلاً من هذه المفاهيم موضع الدرس ثم ميزوا بينهاودرسوها دراسة مقارنة ومن ثم وقع اختيار جماعة منهم على هذا المفهوم الذي يؤدي الى ظاهرة حياتية تختلف عن ظاهرة الجماعة الاخرى التي اختارت مفهوما آخرا وليس ذلك الاختلاف بسبب الاختيار، بل الذي حدث للغالبية العظمى من الناس ان سلوكهم ـ نتيجة لظروف تخصهم ـ الزمهم بأتباع منهج في الحياة معين من دون مناقشة للقاعدة الفكرية التي يستند اليها ذلك الاختيار.
إن كلا من تلكم المفاهيم صحيح في نفسه، فلا يجد العاملون في السلوك بموجبه ضررا او حزازة، وواضح لمن يدرس تاريخ الحركات والأحزاب ان كثيرا من مظاهر السلوك الحزبي لدى هذه الأحزاب لم يكن نتيجة البحث….ويمكن سريان هذا القول على جملة الاحزاب الاسلامية وغير الاسلامية، ويعود ذلك كما قلنا لسببين رئيسيين:
السبب الاول كون هذا السلوك له مايبرره في العرف لذلك الحزب او قد يكون مقبولا في نفسه بغض النظر عن ملابساته الاخرى.
السبب الثاني هو ان العاملين لم يفكروا بالاطار الشامل لكل تفصيلات سلوكهم في الحياة وان هذا السلوك يحدث لكثيرين ممن يسيرون وفق اهداف قصيرة وبافق ضيق في التفكير حتى إذا ماساروا اشواطاً من حياتهم ووجدوا أنفسهم على ما هم عليه اقتنعوا بهذا المحتوى الذي يكتنفهم وأصروا على هذه النشأة التي نشأوا عليها… كما يتمسك الجاهل بعادات ورثها عن أهله. وسبب ذلك عدم الأستيعاب الشامل للواقع الذي هو فيه وللهدف الذي يريد الوصول اليه ولخط السير الذي يربط بين الواقع والهدف. ونقولها نصيحة لكل العاملين في الحقول الأجتماعية وبأي مستوى من المستويات، إنه جدير بكل عامل اجتماعي أن يلتفت للخلف دائما، لما مضى من التاريخ، يلتفت من أجل أن لاينسى تاريخ أفكاره وتصوراته، فربما يرى أنه قد غير طريقه الذي كان يريد أن ينتهجه أو بدّل الهدف الذي كان يقصده أوأنه بدل في بعض ذلك أو في كثير من حيث لايشعر، و إنما وقع ذلك التبدل بسبب الظروف التي لم يكن ليتأمل فيها، أو يتحكم بها، ومن ثم فسيعرف ما إذا كان على حق أم لا. والدعوة المباركة في الوقت الذي دأبت على دراسة كل مسألة، فالاهداف والوسائل كلها موضع تأمل لديها دائما منها ما هو واضح تمام الوضوح للأنشغال به أو لقربه أو ما هو أكثر من ذلك كأن تعيشه مثلا…. ومن الاهداف ما هو أقل وضوحاً لبعده، ثم يتضح اكثر فاكثر كلما قرب موعده وكلما مارسه الدعاة… وفي الوقت نفسه فهي تعتمد قاعدة أساسية في نظرتها للأشياء،ذلك أننا نؤمن بصحة أفكارنا مالم يثبت العكس…. والايمان بصحة الفكر هو الذي يعطي قوة اليقين للنفس فتنبعث للعمل، اما اذا لم تحصل النفس على هذه الحصة من اليقين فأنها سوف لاتعمل أو أنها ستعمل عمل المترددين المتشككين. ووضع خط الرجعة في (مالم يثبت العكس) من اجل ان لاتنشأ لدينا حالة اصرار الجاهل وتزمت الناقص باعتبار أن فكر الدعوة لايصل الى حد فكر المعصوم عليه السلام اللهم عداما كان بالنسبة للأفكار الرئيسية التي تشكل مجموعة المعتقدات الاسلامية وجملة من الخطوط التشريعية فهي واضحة تمام الوضوح.
طريقة النظر واسلوب العمل
كثيرا ما تصدر المفاهيم عن صورة واحدة وتختلف بين شخص وآخر في كثير من الأحيان ويعود سبب ذلك لأختلاف طريقة النظر الى الأشياء بينهما. إن التعدد في المفاهيم أو التفسير لقضية واحدة لايجوز أن يكون متناقضا أو متباينا كلياً بين شخصين أو أشخاص متقاربين بالذهنية العامة ويحملون عقيدة واحدة ويتبنون أفكاراً واحدة. قد يكون هناك تفاوت في إدراك الأحداث من حيث مسبباتها ونتائجها وهذا يتأتى من تفاوت الكفاءات ودرجة التحسس والمران على مراقبة الأشياء والأحداث وهضم الأفكار والتجارب التي تمر بها الدعوة.
والدعوة تحاول دائماً أن تطور العلاقة وبسرعة بين الشيء وبينها نتيجة للتأثير الذي تمنحه لذلك الشيء. وهذه النظرة المتطورة سريعاً من مستلزمات التغيير.
والدعوة دائماً تدعو للنشاط الذهني الذي ينمّي المفاهيم العملية والنظرية ويبلورها وهي من مقومات الدعوة الكبرى، ومن أجل أن ندرك هذه المسألة بوضوح لابدّ من تصور كامل لأنفسنا. فماذا نحن؟
ونجيب بأننا حركة في هذه الأمة التي تتميز عن غيرها من الأمم بالأسلام.. وحركتنا قائمة على أساس أن مجتمعنا ليس مجتمعاً إسلامياً.وحركتنا تريد أن تعيد الأسلام الى المجتمع بتغيير المفاهيم والسلوك على أساس وضوح العقيدة وإحلال الشريعة الاسلامية محل القوانين الوضعية. وهذه تصورات واضحة عندنا.
ولكن بسبب كون هدف حركتنا الذي هو اعادة الأسلام للمجتمع ـ كما قلنا ـ معقداً من حيث التطبيق، فان مجموعة التصورات السالفة لاتكفي لرسم الخطة، وبعبارة اخرى: ان حركتنا تهدف الى تغيير واقع المجتمع المعاصر الى واقع إسلامي…. ولكن مجتمعنا من حيث مجموع معتقداته المتناقضة ومن حيث عاداته واحاسيسه، ومن حيث مصالح الكفار خارج نطاقه، ومصالح من نشأوا على تعاليمهم داخل نطاقه، أولئك جميعاً الذين يحكمون هذا المجتمع بأساليب وصور شتى..نقول لان مجتمعنا من كل تلكم الحيثيات المتناقضة المتضاربة والتي تجعل السبيل للتغيير صعباً جداً، فان تصوراتنا لهدفنا تكون صعبة الوضوح لدى كثير من العاملين.
إن مجتمعنا هو مجتمع ورث مجموعة من التصورات عن العقيدة منها اصل العقيدة التي هي شهادة أن لاإله إلاالله وأن محمداً رسول الله،وهي عقيدة سهلة الأدراك والتصور ولكن كلما تناول المجتمع هذه الافكار والمفاهيم البسيطة في فصول الحياةالعملية ومشاكلها، تناقض هذا الفكر وهذه المفاهيم وأصبح مالدى الأمة مجرد تقاليد موروثة لايمكن أن تُنتزع عن أصل العقيدة ولا أن تنشدّ إليهاعند الحساب، ولكن الغالبية الساحقة من ابناء هذه الامة لايدركون اولايعترفون بهذه الحقيقة بسبب الجهل من جهة وبسبب العدو الكافر الذي يقمع كل حركة في المجتمع تهدف نحو الخير كما يغير كل فكرة عملية ناجحة.
ومع كل هذه العوامل التي أبعدت المجتمع عن الحياة الاسلامية إلا أن الامة لازالت تعتـّز بالانتساب الى الاسلام، ومازال للإسلام هيبته على الصعيدين العام والخاص ومن هنا فاننا نعامل الافراد في مجتمعنا المعاصر بوصفهم مسلمين، ولكنهم يقتربون أو يبتعدون قليلاً أو كثيراً من الاسلام. وان كانت الكيانات السياسية التي تحكم المسلمين اليوم هي كيانات جاهلية اسسها الغزاة المستعمرون قبيل الحرب العالمية الاولى وبعدها، على أسس يرتضونها لتخدم تفكيرهم وتضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية.
إن المفكرين في أمتنا ليدركون بوضوح أن المظاهر الاجتماعية العامة في مجتمعنا والحركات التي يقوم بها الانسان المسلم بقدر ماهي بعيدة عن الأسلام في أكثرها، فهي كذلك متناقضة في حساب الميزان الاجتماعي السليم وذلك أن كثيراً من العادات والتقاليد لاتنسجم مع عادات وتقاليد اخرى موجودة كذلك، مع ان جميع تلكم العادات والأعراف ترُى لدى هذا المجتمع ضرورية ولابد منها، هذا بالاضافة الى الحضارة الجديدة التي دخلت على المجتمع من الغرب فيما دخل في هذا القرن، ولذا فان المجتمع الآن في حالة من التعقيد صعبة الحل وبالتالي فالمجتمع متوغل في وهدة عميقة يصعب اقتلاعه منها ونقله الى مكان الخصوبة.
قلنا بأننا حركة في هذا المجتمع تعمل لنقله الى المجتمع الأسلامي كما اراده الله سبحانه وهنالابد من الانتباه الى اننا من هذا المجتمع نفسه الذي يحتويه الركود الذهني وما ينتج منه من سمات اخرى ومن هذا المجتمع الذي يعجّ بالافكار المتناقضة والاهواء المتضاربة و… حقاً نحن من نفس هذا المجتمع، وان جميع افكارنا ونظرياتنا التي استوحيناها من الاسلام ومن طريق الجهاد في سبيله هي من عندنا نحن ابناء هذا المجتمع إن هذه الحقيقة قد تسبب الاستغراب في تصورنا للهدف،وفي الواقع إن هذه المسألة لاتمنع اقتدارنا على ما نريد من حيث الاصل، فأن جميع الانبياء والمغيرين الحقيقيين هم ابناء مجتمعهم ولكن هذه الحقيقة تمنع من الوصول الى الهدف اذا كان المغير منطلقاً من ذات الأعراف الأجتماعية السائدة أو أنه لم يتخلص منها تخلصا حقيقيا.
وعليه لابد أن نستعيد في تصوراتنا مجموعة الأفكار والمفاهيم التي بنينا عليها حركتنا، نستعيدها ونتأملها لندرك كل أبعادها ونفعل ذلك وبكل ما أوتينا من قوة في الفهم والمعرفة…وانه يجب أن يكون واضحاً أن ذلك لايتم بالتلقين ولابالايحاء من قبل الدعوة وإنما لابد أن يبدأ ذلك من ذات الداعية نفسه….نعم الداعية كفرد وحده هو الذي يستطيع أن يستعيد مجموعةالتصورات والأفكار عن حركتنا لكي يقدرها بصورة أفضل، بحيث يتصورها وكأنه يعيش خارج حدود هذا المجتمع. إنها دعوة للتعبد بالجهود المضنية بالعمل الشاق بالاهتداء بالقرآن والسنة بالأوامر وبالنواهي وليست دعوة للأنفلات والشعوذة اللفظية.
ان اسم مرحلتنا الاولى هذه (التغييرية) ولقد قلنا قبلاً في وصفها بان هذاالاسم ينبع من عمق النظرة لحركتنا من حيث الأصل.. والاصل هذا هو ذاتياتنا الخاصة كأفراد من هذا المجتمع ننخرط في صفوف الدعوة ولذا فأنه يجب ان ننظر الى الاشياء وحتى الى أنفسنا وتصوراتنا بشكل جديد وبطريقة تغييرية عما ورثنا من المجتمع من افكار ومفاهيم وعادات وتقاليد وسلوك فردي وسلوك اجتماعي.
ماهو اساس حركتنا
كل حركة اجتماعية، حتى الأصلاحية منها، لابد أنها تعتمد على نظرية في نفس ذلك المجتمع وتتحدد اصالة الحركة وفاعليتها حينئذ بحدود نقاط اربع:
-
الواقع الاجتماعي الذي تعيش الحركة في جوّه.
-
الهدف الأجتماعي الذي تسعى اليه الحركة.
-
الخطوات الموصلة بين الواقع الاجتماعي الحالي والهدف بالمستقبل.
-
الحركة نفسها:اى الحركة من الداخل.
إن إدراك كل هذه الامور يكون نسبياً، فيكون لدى فئة أعمق منه لدى فئة اخرى وكذلك استيعابه، وبمقدار ذلك الادراك والأستيعاب تتحدد مفاعلة الحركة مع الأمة من حيث الوضعية العامة في قوة التأثير ونوعيته وفي شمول رقعة التأثير وفي عمق التأثير. فحركتنا أسلامية تعتمد العقيدة الأسلامية وما ينبثق منها وما يبتنى عليها كرابطة تربط بين اعضائها وتربطها بالامة ويشتد الترابط بينها وبين الامة كلما تبينت ووضحت الرابطة لدى ابناء هذه الامة، وتعيش حركتنا في مجتمع متميع تسوده أفكار متناقضة بعضها أصيل ذو جذورتمتد الى احقاب عميقة يتوارثها الابناء عن الآباء واضحة في بعض الاحيان ومشوشة في البعض الآخر… وأفكار اخرى سطحية ومترجرجة الوجود اخذت من أوربا اخذاً لاأصالة فيها ولاكرامة، أخذت اخذ الضعيف الباهت من القوي، أخذ التقليد والمحاكاة من المغلوب للغالب. وهدفنا الواضح هو تحقيق المجتمع الاسلامي وتغيير علاقات الأفراد التشريعية والعرفية ونسلك الى ذلك بعمل جماعي منظم متواصل يتنامى تأثيره الى أن تتغير معالم المجتمع بالتدريج، ويحدث التغيير النوعي عندما يصل التدريج الكمي الى ما فيه الكفاية لاحداث التغيير النوعي من خلال التزامات الفئة المؤمنة النامية المنتشرة في بقاع متعددة من عالمنا.
مقدار التزامنا بالنظرية
للألتزام والتطبيقات نظريات وأسس، وكما يكون للهيكل الاجتماعي نظرية، كذلك يكون للتطبيق نظرية… ويمكن القول بأن الألتزام هو الخطوات الموصلة بين المجتمع الحالي والهدف بالمستقبل… ولذا فأن واقع الالتزام هو نفس مايفعله الفرد، وهو نابع من التغيير الجذري: الذي يحصل لدى الداعية الفرد والدعوة ترشد للتطبيق وتحث عليه ولكن لاتحصل القيمة الحقيقية للتطبيق إلا من الفرد ذاته.
والآن وبعد هذا يجب ان نعيد النظر مجدداً في حركتنا لندرسها على ضوء ماتقدم.. وليكن واضحاً أنه لايوجد ما يمنع نهائياً أن نكرر قولاً قلناه أو مفهوماً وضحناه حسبما نقدره من الحاجة الى ذلك البيان ويمكن تلخيص القول عن حركتنا بالآتي:
-
مجتمعنا هو مجتمع أصله الاسلام وهو يعيش الآن مرحلة التناقضات الفكرية والسلوكية نتيجة للجهل ونتيجة لحرب عدائية يواجهها من قبل أعدائه، وبهذا فهو يعيش عيش البؤس والشقاء في الحياة الدنيا وهو كذلك لاينتظر له ان يعيش عيش النعيم في الآخرة.
-
انبثقت حركتنا من نفس أبناء هذا المجتمع على أساس صرخات الضمير الأسلامي التي أطلقها أفراد وحركات اسلامية قبلنا ثم نمت هذه الصرخات لدى مؤسسي الحركة بشكل اكثر وعياً ممن سبقهم.
-
اعتمدت حركتنا من حيث الأصل (التغييرية) في كل شيء، وهي ترى ألاتركن الى أي من الافكار والمفاهيم التي سبقت تاريخنا حتى ندرسها ونناقشها حتى الذي يصدر عن حركتنا نفسها.
الموضوع الذي نحن بصدده
هذا الموضوع من المواضيع المهمة بأعتباره يعالج نقطة اساسية من النقاط التغييرية وقد اشتبهت على الدعاة ـ حفظهم الله ـ بعض فصوله او نقول تلابست على بعض الدعاة بعض تفصيلاته فصدرت عنهم تلك الاشكالات التي ذكرناها أول البحث، والواقع ان هذه الاشكالات يمكن ان تقع عن تساؤل في كيفية تطبيق الدعوة لنظريتها التغييرية ويصاغ التساؤل هكذا:
هل نطبق على اساس التخطيط او نطبق على اساس الاتكال على الله سبحانه؟ وقبل ان ندخل في تفصيل هذا الموضوع نوّد ان نؤكد مرة اخرى على كيفية التلقي من الدعوة ـ التلقي الفكري والسلوكي ـ ذلك ان كثيرا من الدعاة في الوقت الذي أخذوا بنظرية الدعوة ودرسوها ودرّسوها إلا أنهم لم تنبعث نفوسهم وذواتهم داخليا لغرض التطبيق.. وقد قلنا ونقول انه يتحقق بمقدار ما يتأمل الفرد وينبعث ويتغير والافالدعوة من حيث الاصل لاتقدم الا النظرية، وهذا الكلام نفسه يكون نظريا اذا لم ينبعث الفرد لتطبيقه وان أخذ النظرية بالمستوى السطحي هو أهم اسباب عدم وضوح خط السير لدى هؤلاء الدعاة اصحاب الاشكالات وسنقسم هذا البحث الى عدة فصول:
-
ظاهرة التوكل على الله سبحانه واثرها على النفس.
-
ظاهرة التخطيط واثرها على العمل الانساني.
-
الظاهرة الروحانية ونسبتها الى الامة والفرد.
ظاهرة التوكل على الله سبحانه واثرها على النفس
ومثل التوكل على الله سبحانه في الاعمال قصد القربة له , ومثله الاعتصام به. وتوجد في عرف المتدينين وعلى السنتهم معاني كثيرة في هذا الباب، بالامكان ترتيبها على فصائل متعددة: ـ فمن فصيلة التوكل الاعتماد عليه، وتفويض الامر اليه والرضا بما قسم. ومن فصيلة قصد القربة طاعة الله وحده وعدم الشرك في عبادته، ومن فصيلة الخوف منه استغفاره من الذنوب والندم على ما يبدر من المعصية، وليس المهم هنا ان نتساءل هل هذه الالفاظ هي اسماء لمفهوم واحد، او لمفاهيم متعددة، أو أنها مفاهيم متعددة ولكنها تنبعث من حس انساني واحد، ذلك هو الحس بالعبودية لله سبحانه.
ليس هذا مهماً بقدر مايهمنا ان نعيشها. وفي الوقت الذي ندرك فيه ان أثر هذه الافكار والمفاهيم عظيم جداً على الانسان، وأنها تصيّر منه انساناً مناقضاً للأنسان المادي تماماً، ويعيش في هذه الدنيا على طرف الخط الآخر بالنسبة لما يعيشه الانسان المادي، في الوقت الذي ندرك فيه ذلك فنحن كذلك نريد ان ندرس هذه الافكار في هذا المقام من الناحية الفردية، ولكنا ندرسها من حيث علاقاتها بالمجتمع وما ينعكس منها على جماعة تريد أن تغـّير المجتمع الى حيث امر الله تعالى، وتنشأ هذه المشاعر العبادية بعد تأملات واحساسات تدفع بالمرء الى تصور مكانه من هذا الكون وموقفه من خالقه العظيم، كما انها لاتكون قوية مؤثرة على الانسان بمستوى واحد، ولكن كلما تمرن عليها الانسان وكلما عاش عمره متحسساً بها فأنها تصبح ذات اثر اكبر واقوى… فهي ككل الحالات النفسية تعمل نتيجة التربية والتمرين.
وفيما يتعلق الامر بأهدافنا نحن كمغيرين، فانه لابد لكل عبادة أن يقصد بها وجه الله تعالى وأن يستند في أنجازها على حوله وقوته، وان يكون ذلك طاعة له وتنفيذا لأوامره فان لم يكن قصد الفاعل هو الطاعة والعبادة له فان عمله غير مقبول حتى وإن اداه على احسن الوجوه ـ وهذا واضح وسبب عدم القبول هذا يعود الى أصل فلسفة الاسلام في الوجود الكوني، بعدما آمن الانسان المسلم بان خالقه هو الخالق الاوحد الذي ترجع اليه كل الامور وتعود اليه كل الحوادث والافعال، نقول بعد أن تبنى المسلم هذا المبدأ في التوحيد فإنه لابد ان يدرك معنى قصد القربة بين العبد وربه.. بين المخلوق وخالقه ومع العلم ان تفسير قصد القربة هذه يختلف فهما وادراكاً لدى العبيد المخلوقين إلاان أدناه وضوحاً لابن آدم والذي لابد ان تكون اعماله بموجبه هو أن يدرك انّ قيامه بالعمل العبادي المأمور به من قبل ربه كان بدافع الطاعة وأنه كان تنفيذاً لهذا الامر نفسه، وأن طاعته لربه هي التى دفعته للقيام به فلايشرك مع هذه القناعة اي رغبة اخرى أو أي هدف آخر…كما أنّ اُعلى تفسير لهذه العلاقة هو الحس الذي يمتلك ابن آدم بأن لاشيء في هذا الوجود يحركه لأي أمر من الامور سوى هذا الخالق العظيم ـ وأن جميع هذه الافعال والتصرفات إنما هي من جملة الدوافع التي تأخذ غير الكامل نحو الكمال الالهي وتسير بالمتكامل نحو الأكمل والأفضل، وبحسب هذا التفسير لاينبغي ان يُفهم من هذا الكلام بانه مخالف لنظرية (الامر بين الامرين) المعروفة بين المتكلمين. فليس الامر المنصوص عليه شرعا وحده هو الذي يقوم المرء به طاعة لله، وإنما تكون كل أفعال المرء هنا في موجات متلاحقة من الدفع نحو الحضرة الألهية ـ باعتبار أنّ كل ما في الكون هو ملكه تعالى منه وإليه، مع العلم أنّ ما بين أدنى التفاسير وبين اعلاها تفاسير اُخرى ووضوحات متعددة إلا أنه من الوضوح بمكان عدم جواز خروج فعل المسلم عن هذا الخط التفسيرى وأن لايشذ عن هذا الصراط. ونحن لانشك أن مسلماً يريد تغيير الأمة الى واقع إسلامي مرضي عند الله تعالى لايبذل الجهد في محاولة اضفاء طابع العبوديه لله تعالى على فعاله وتصرفاته، من إنسان عادي الى انسان قائد، من انسان معجب بما يصدر عنه الى انسان يذوب في هدفه، حتى وإن كان هذا الاعجاب من باب مدح الشيء الحسن، من انسان يفكر في مصلحته الى انسان يذيب مصلحته الخاصة في المصلحة العامة.
وكذا لابدّ ان يتوفر هذا الطابع العبادي في مستويين مستوى الهدف الاعلى، أى في الجواب على سؤال: ما هو القصد النهائي من هذا الجهد وترك الدعة والتعرض لانواع المحن والابتلاءات؟ والذي جوابه هو الرغبة الاكيدة في تحقيق ارادة الله سبحانه في عباده وبسط سلطان الاسلام على هذه الارض.. وكذلك لابدّ من توفر الطابع العبادي في المستوى الثاني الذي هو (قصد القربة) في كل فعل صغير أو خطوة يخطوها المرء وقصد القربة في الهدف الأول معناه عدم كون طلب الحكم من اجل السلطة وطلب الرياسه، فيما إذا توصّل الى الحكم، وإذن فلابدّ أن يشعر هذا المسلم العامل بأنه لايريد أن يبلغ درجة السلطان لرغبة شخصية أو من أجل لذاذة الحكم وإنما يريدها طاعة لله وتنفيذا لأوامره فهو إذن هدف يكتنف الخشونه لا الدعة ويحمّل النفس عناء المسؤولية ويسلخ عنها زخرف السلطان وابّهة الملوكية، وإما قصد القربة في الهدف الثاني أو المستوى الثاني فهو من أجل أن تكون كل نقاط العمل وكل التصرفات في خط واحد في سبيل واحد بلا إنحراف ـ وحينئذ فسيبارك الله تعالى هذا العمل ويرتضيه بإذنه.
وإذن فالمستوى الاول طولي في سلسلة الأعمال الكفاحية والمستوى الثاني عرضي لكل هذه الاعمال. وبعبارة اخرى تكون العلاقة الربّانية متوفرة في الغاية والوسيلة….
والغاية القصوى هي طلب الحكم بأحكام الأسلام وأن يتبدل المجتمع الى الشكل الاسلامي، والوسائل هي كل هذه الأعمال والتصرفات وهي كذلك غايات شريفة في نفس الوقت.
ومع أننا قلنا بأن معاني التعلق بالله سبحانه وتعالى متقاربة وانها تنبع من حس واحد فقد اطلنا الحديث عن خصوص قصد القربة، فأما مسألة التوكل فانها تلك الحالة التي إن تمرن الأنسان عليها فانه سيشعر بقوة عظيمة تشده الى الله سبحانه وانه انما يستمد العون والقدرة منه وسيشعر بعجزه تماما عن تحقيق اى هدف الا اذا امده الله سبحانه بما يبلغه امانيه.والفرق عظيم بين التوكل على الله سبحانه وبين مايسمى بالاتكالية. وقد يكون الانسان متكلا على الآخرين حقيقة بينما يفترض بالمرء ان يعتمد على نفسه…الا ان ذلك ليس هو الاتكال على الله، فالاتكال على الله شيء والاتكال على الآخرين شيء آخر….وفي الواقع يمكن ان نسمي عدم النشاط والجدية في العمل اتكالية لان المرء حينئذ سيضعف الى درجة لا يبصر اهدافه ولايدرك ما ينبغي وما لاينبغي وستنشأ لديه بالتالي الرغبة في قضاءمآ ربه عن طريق الآخرين.. وهنا معنى آخر وحس آخر تحس به النفس وهو الحاجة ـ اية حاجة ـ وهذا الحس يختلف شدة وضعفا، فقد تشعر به النفس في حالة من الحالات بحيث نسميه حاجة آنية وقد تشعر به بحالة اقل قوة واضعف في الرغبة فيكون املاً من الآمال كما قد يكون هدفا…
ان هذه المعاني في الواقع تقع في خط واحد من حالات النفس الانسانية..وهذا الخط يقابله في السعي له وفي تنفيذه خط آخر هو الامتلاك والتحصيل والسعي لرسم هذا التحصيل، تسعى بطرق متعددة منها الاعتماد على ذاتها ومنها الاعتماد على الغير، وليس بين الاعتماد على النفس وبين الاعتماد على الغير تناقض كما قد يتبادر الى الذهن لاول وهلة، فان النفس تتوسل لتحصيل ولتحقيق المطلب بما تتوسل به، والتوسل هذا هو الذي يدفع بالانسان الى ان يقوم هو أو أن يكلف الآخرين او أن ينتظر من الآخرين ان يحققوا مطالبه.
وفي هذه المعاني سموّ وانحطاط وشرف ووضاعة وفيها كما في اى من حالات النفس ما يسميه علماء الاخلاق (بين الافراط والتفريط) وبين كل افراط او تفريط تقع نقط الفضيلة الا أن الشعور الاولي للنفس يرقى في خط واحد كما قلنا وليس به تناقض ولكن التنفيذ يحكم عليه مرة بانه حكم شريف ويحكم اخرى بانه تنفيذ غير شريف، ويضربون لذلك الامثلة كالشجاعة التي تقع بين الافراط فيها وتسمى حالة التهور وهورذيلة وبين تفريط فيها ويسمى حالة الجبن وهو رذيلة كذلك، وكالكرم الذي يقع بين افراط فيسمى التبذير وهورذيلة وبين تفريط فيه وهو رذيلة البخل.
ولانريد هنا ان نقر او نرفض هذه المصطلحات انما نشير الى هذه المعاني وتحققها في النفس الانسانية. والذي نريد ان نعرض له هو الحالة النفسية التي تنشأ لتحقيق الهدف او الامل، فتحقيق الهدف هذا له خط يبتديء من الافراط في هذه الحالة فتكون الفردية وعدم الشعور بالعلاقة مع الغير، وينتهي بالتفريط فتكون الاتكالية والكسل
وعليه فالتحصيل ككل حالات النفس الاخرى لايمكن وصفها بالرذيلة او بالفضيلة الا عند التطبيق لان التطبيق في كل مرة له حاله تختلف عن الحالة الاخرى، ولنضرب مثلاً في الكرم فقد يعطي الكريم كل ماله ولايسمى مبذرا وقد يعطي المعطي كثيرا ومع ذلك فانه يبقى بخيلا. وذلك ان لكل عطاء وضعية خاصة تدرس على ضوء المعطي والمعطى له والوضعية العامة للعطاء. وفي تحصيل الهدف ـ نقطة بحثنا ـ كذلك توجد وضعيات مختلفة فلا يمكن ان يسمى كل تكليف للغير رذيلة ولايمكن ان يسمى كل اعتماد على النفس فضيلة.. انما يعود ذلك لما يتقرر في تلك الساعة وهنا نود ان نزف البشرى لاولئك الذين يقدرون فيحسنون التقدير ويتأملون فيضعون كل شيء في نصابه. هذه هي حقيقة الاعتماد على النفس او الاتكالية… اردنا ان نتحدث عنها لنفرق بينها وبين التوكل على الله سبحانه، ذلك ان التوكل على الله ليس هذا، والتوكل على الله سبحانه ليس له طرفان بل كل توكل عليه سبحانه صحيح بل اذا لم يتوكل الانسان على الله فهو غير موفق، ولانريد هنا الا ان نشير هذه الاشارة العابرة لان الدخول في هذا البحث يجرنا الى ابحاث مفصلة كما انه ليس في هذه النشرة مقام اعطاء هذه البحوث، ولكن يمكن القول بان هذه المعاني في الوقت الذي تكون على مستوى عال لدى بعض الناس فان الانسان المسلم بمجموع تصوراته واحاسيسه وبموجب السلوك الصحيح والذي هو غير غريب عنه يقدر ان يسلك افضل السلوك الى الله سبحانه وان يأتي بكل افعاله على افضل الوجوه، نسأله تعالى ان يوفقنا لذلك كأحسن ما يوفق له احدا.
التخطيط وتنسيق الاعمال
مع غض النظر عن قصد القربة وعدمه فانه يفرض كون اى هدف لايتوصل اليه الا باسباب معينة وان اية نتيجة لايمكن ان تتحقق الا عن طريق مقدمات خاصة. ونعني بالاسباب المعينة والمقدمات الخاصة هي تلك التي توصل حتما الى النتيجة وذلك وفقا لبديهة عقلية تقول: اذا وجدت اسباب شيء فقد وجد هو لامحالة. وتقول البديهة كذلك: لايوجد شيء البتة الا اذا وجدت اسبابه وذلك وفقا لقانون العلية… ولايهمنا الآن التحقيق في هذه المسألة الابقدر ماندرك ان الاهداف الاجتماعية هي كذلك لايمكن ان تتحقق الا اذا تحققت اسبابها.
وعلى المستوى السياسي الاجتماعي من هذه المسألة لابأس ان نستعرض الامثلة التالية ليتوضح ما تقدم بصورة اجلى:
ان قيادة لينين للحزب الشيوعي تؤدي الى قيام دولة الاتحاد السوفييتي اللينينية.
ونشاطات جمال الدين الافغاني تنتج تحسسا على بعض الاوضاع الفاسدة في العالم الاسلامي.
وتقليد الاحزاب الشيوعية في العالم الاسلامي ـ لأساليب الاحزاب الشيوعية الناجحة في مناطق اخرى ـ لاتنتج سوى الفشل تلو الفشل.
الوعي الفكري على مستوى الالفاظ المستوردة التي تملأ اعمدة الصحف والكتب والمجلات في المنطقة العربية لاتنتج وعيا حقيقيا وانما تنتج تضليلا للامة وانتكاسات حزيرانية كلما اراد الاستعمار بنا شرا. وهكذا الاسباب مقدمات للنتائج.
وجانب آخر في هذه المسألة: ان الفروق في المحتوى والشكل لاى عمل اجتماعي يختلف عن نظيره من ظرف لآخر زمانا ومكانا مثل ذلك ان نقول انه لكي توجد الدولة الاسلامية الشرعية في اندونوسيا يجب وضع تصميم يختلف عن تصميم آخر لايجاد هذه الدولة الاسلامية في الجزيرة العربية وذلك بسبب اختلاف ظروف تحقيق كل من الهدفين. ولذا فان ايجاد الاسباب المعينه لاهداف اجتماعية اصعب بكثير من ايجاد الاسباب لاهداف فيزيائية مثلا، فان اسباب رفع درجة حرارة قطعة فلز في اندنوسيا لاتختلف عن ذلك في الهدف في الجزيرة العربية ومن اجل ان يكون مثالا في موضوع الدولة الاسلامية صحيحا فلابد من افتراض كون حدود الدولة الاسلامية الشرعية واضحة ومتطابقة لدى جميع الهادفين لايجادها من مقدماتها واسبابها لانه اذا لم يتوضح مفهوم شرعية الدولة فقد تقوم دولة باسباب غير صحيحة فتؤدي الى دولة غير صحيحة، ومع ذلك تدعي بانها دولة اسلامية…ولذا فلابد من الوقوف اولا من حيث الاصل على شرعية الدولة سواء كانت في اندنوسيا او في الجزيرة العربية ومن ثم يبدأ السعي لايجاد الدولة ابتداء من مقدماتها… ومن المناسب هنا ان نذكر انه لايجوز ان توجد دولتان اسلاميتان في العالم، ولكن يمكن ان توجد الدولة الاسلامية على قطعتين منفصلتين في العالم. والنتيجة التي تتلخص مما تقدم ان كل هدف اجتماعي لايمكن ان يتحقق الا اذا تحققت اسبابه، وباعتبار لابدية حصول اختلاف جزئي في الاسباب المتماثلة، فان الاهداف المتماثلة الناتجة عن هذه الاسباب ستكون مختلفة ايضا. واذن فلابد من تقديم اسباب معينه مخصوصة من اجل تحصيل نتائج معينه، واذن فلابد من الرضوخ لاسباب قسرية وتقديم اسباب بالجبر لغرض الوصول للاهداف المرسومة.. واذن فلابد من توطين النفس على قسرية خطوات معينة والقيام باعمال لايمكن تجنبها ولاحذفها، ولايمكن كذلك استبدالها بغيرها.
نورد هذا الكلام ـ في الواقع ـ من اجل ان يتضح للعاملين من انفسهم لابدية الصرامة والجدية والشدة في الخطوات والاساليب وعدم جواز التسيّب او ما يؤدي الى التسيّب في الاعمال او الاقوال او في الافكار او في النظرة الى الاشياء. وبالنسبة لاسباب الدولة الاسلامية فانه يمكن تصنيف الاعمال والخطوات الى عدة اصناف فمنها مايرتبط بالظروف الخارجية ومنها ما يرتبط بالامة ومنهاما يتعلق بالمجموعة من الناس العاملين او بالحزب الذي يهدف لقيام هذه الدولة ومنها مايتعلق بكل فردٍ من افراد ذلك الحزب، ولاننا نريد توضيح المسألة بقدر مايرتبط ذلك بموضوعنا الرئيس فلنضف بلاحاجة للشرح المفصل المنهجي النقاط التالية:
اولا: لابد للحزب العامل من أجل تحقيق الدولة الاسلامية من وضع دراسة مستفيضة ولوتباعاً لكل صنف من هذه الاصناف من الخطوات ولا أقل من وضع الهيا كل العامة لهذه الاصناف بحيث يكون واضحا مقدار ما هو من صميم العمل وما هو خارج عن ذلك.
ثانيا: وتعقيبا على النقطة الاولى باعتبار عدم معرفة الغيب في التحديد الاولي وباعتبار عدم القدرة على التطبيق الادق اثناء التنفيذ سواء بالفعل الصادر من الفرد او من المجموعة فان كثيرا من الخطوات من جميع الاصناف ـ قبل التنفيذ وبعده ـ ستكون موضع جدل هل هي صحيحة او هل هي مفيدة او أنها ليست كذلك. وهذا الجدل حتمي وهو صحيح ونافع… وعليه فلابد من وجود مبدأ عام هو استمرارية الدراسة للنتائج والاعمال اثناء السير وكلما انتهينا من عملية ما وكلما مرّ ظرف سبَّب بعض الاختلافات بالاساليب المتعارفة لدى الحزب، وذلك من اجل أن نتأكد دائماً من أننا لانزال نسير وفق خط السير في جانبيه العام والخاص.
ثالثا: ان كل صنف من هذه الاصناف يختلف عن الآخر من حيث مجال سعة وضيق نطاقه في التسامح باستبدال الخطوات أو إذا تبّدل بعضها عفواً أو خطأ فمثلا اذا أخطأ الحزب في تقرير علاقته بالآخرين في مرحلة من مراحل عمله قد يؤثر على كيان العمل ككل بينما إذا اخطأ أو فسق أحد العاملين بالدعوة فأن ذلك يقتصر ضرره على الفرد نفسه وعلى نطاق ضيق يحيطه.
رابعأ: لما كان واضحاً أن الذي سيكوّن الدولة الاسلامية هي أعمال الحزب وليس أعمال الفرد فأنه يجب التأكيد على الاصناف العامة في الخطوات والتصرفات اكثر من تلك التي تخص الفرد، أي أن يكون التخطيط الحزبي منصباً على مواضيع السلوك العام للحزب أكثر مما يكون منصباً على الفرد المنتمي له.
إلا أننا لانقصد بذلك إهمال الفرد وعدم تقدير جزئيته في الجسم العام للحزب والتقليل من دوره في عملية البناء، وإنما نقصد بذلك ان طبيعة مهمة الحزب تهتم بشكل خاص بالخطوات العملية العامة.
الظاهرة الروحانية
إننا لانريد أن نبحث في مثل هذه الافكار إلا بسبب غلـّو بعض الناس فيها، واتخاذها المسلك الرئيس والدرب المتميز في الحياة الدنيا بحيث تكون..هي الحياة بالنسبة لهم غافلين عن العناصر الرئيسية الاخرى في هذه الدنيا، تلك العناصر التي لو قدر الانسان عليها متكاملة ـ وتكامل كل شيء بحسبه ـ لانتهج الطريق اللاحب والصراط الاقوم في الوصول الى الله سبحانه، وذلك هو سبيل نبينا محمد ﷺ والائمة من بعده ولقد كان هو سبيل ابراهيم عليه السلام من قبل وسائر رسل الله سبحانه اولئك هم المثل للانسانية الصالحة والقادة الحقيقيون والباثون للمعرفة الحقة الافلنحذ حذوهم ولنعتبر بهم ولندرس آثارهم ونسترشد بعلومهم. وإذا اردنا ان نتعرف على كل طرق الروحانيين في الحياة الدنيا لوجدنا انهم يؤلفون فرقا شتى وتجمعات متباينة…وأن لهم مظاهر مختلفة تماماً.. فانه يوجد المسلم والهندوسي والراهب المسيحي والمتنسك الوثني الافريقي وليس هؤلاء هم ظاهرة زمن القرن العشرين انما هم من قبل الاسلام وقبل المسيحية ومن قبل ظهور التوراة ثم هم قبل ذلك ولقد تداخلت المظاهر عندهم بالافكار والسلوك بالنظريات، وكثيراً ما يتميز بعض عن بعض بمظاهر سلوكية خاصة فلايعتبر الفرد من الطائفة الفلانية إن لم تتواجد لديه المظاهر الفلانية حتى كأن هذه الافعال الظاهرية هي التي تجعل هؤلاء منهم. وعلى أى حال فيمكن جمع هؤلاء على صعيد من يؤمن بوجودالقوة التي وراء الطبيعة وقدرتها على التصرف بهذه الماده الظاهرة. على ان هذا الجمع لاينافي اختلافهم في كون ظاهرة الروحانية نفسها هل هي من المسائل الفكرية التي تتصل بالمعرفة والادراك وهذه المسائل هي التي تلزم من عرفها ان يسلك في الحياة سلوكا معينا..فالانسان هو اذن فيلسوف ثم مرتاض لها، يغلب ذلك على كل اهل الديانات… أو أن الروحانية هذه هي مجموعة من الافعال الرياضية للجسم والنفس يتوصل المرتاض بها الى قدرات خارقة، وبها يكون هذا المرتاض من اهل عوالم الروحانية، كما يغلب ذاك على الهندوس والوثنيين.
نقول على اى حال يمكن ان تعتبر كل طوائف الروحانيين فئة واحدة، إذا نظرنا اليهم باعتبارهم يؤمنون بأن مصادر القوة لديهم هي غير هذه المادة الظاهرية في الجسم والجسميات للانسان نفسه وللعالم اجمع وفي التعليمات والفكر الذي يوصل الى اهدافه الخاصة يوجد كثير من التلاقي بين جميع هذه الطوائف ابتداءً من وثنييها وانتهاءً بمسلميها. كما توجد كذلك كثير من الاختلافات في النظرية من حيث الاصل ـ طبعا ـ وفي النظريات والتعليمات الملزمه في الوصول للاهداف
وتحت الشروط الفعلية والمسلكية الصارمة وينشط الفكر لدى المسلمين من هؤلاء.. ولما كان الطابع المميز للمسلم هو عبادة الله سبحانه فإن فعل الصلاة والصيام والدعاء هي ابرز الاشياء لدى الاخلاقيين والمرتاضين المسلمين وان كان ظهور بعض الخصال و فرض القيود الخاصة في أكل وشرب وتحديد ساعات وكيفيات النوم مما اشترطه بعضهم في الوصول الى(الحقيقة) واتبع بعضهم او سمه (انتهج) كثيراً من طرائق الهندوس وافعالهم فيما اراد ان يصل به الى المعرفة.كما سلك بعضٌ مسالك غريبة حسب العرف الاسلامي فأصبح علم التنجيم والسحر وتسخير الارواح والملائكة والجن ـ حسب ادعاءاتهم ـ من قدراتهم الخاصة. وهناك ضرب من الدروشة يؤدي الى ان يقدر الانسان الى ايذاء جسمه ايذاءً مبرحاً الاانه في نفس الوقت يملك كل قواه وملكاته حتى لايبدو ان شيئا من ذلك الايذاء قد آخر عنه ملكة نفسية او قدرة جسمانية بل هو يدل على امتلاكه قدرة جسمانية خارقة ثم هو يترقى في هذا الفن حتى يستطيع ان ينقل قدرته هذه من ذات جسمه الى اجسام الآخرين، فهو يضرب رجلا بسيفه اويطعنه بسكينه ولكنه لايؤلمه بل لايخرج منه اي دم وكأنما منديل معطر او وردة جميلة الشكل. وكل اهل التنجيم والسحر والدروشة من المسلمين يدّعون بأن ذلك من الاسلام وهو أمر به ويستدلون على ذلك بأدلتهم (الشرعية) الخاصة بهم وبرواياتهم او تفسير القرآن حسب فهمهم له. وكثير من الناس يريد ان يدرك الحقيقة ويعبد الله بالصلاة والصيام والدعاء ولكن ربما انضم بعضهم الى بعض حتى اذا اكثروا من الصلاة توجهوا الى الله سبحانه بالدعاء وربما بعبادات خاصة حتى اذا اخذتهم نشوة (الاشراقة الرياضية) صدرت عنهم جميعاً او عن بعضهم حركات تبدو لمن لم تأخذه هذه النشوة مضحكة. ومن هؤلاء من اخذ على نفسه وجسمه بشدة السلوك وجشب العيش ومنهم من ترك اللحم وغدا نباتيا.
إغلب المشهورين من الصوفية اصحاب النظريات في السلوك الى الله سبحانه وأهل الطريقة، هم من هذا القسم الاخير لم يكونوا اهل شعوذة ولاسحر ولاتنجيم بل ربما آمنوا به.
وجميع هؤلاء كذلك جاء سلوكهم هذا ـ وهم قد دعوا الناس اليه ـ نتيجة بحث نظري اخذت أصوله من الاسلام.
وبغض النظر عن مناقشة اصول نظريات هؤلاء والنتائج الفكرية التي وصلوا إليها فإن جميع هؤلاء متهمون سواء من امتهن السحر او من تنسك حتى سمي بحمامة الحرم. هؤلاء متهمون بنظرياتهم وسلوكهم بل وان كثيراً منهم اتهموا في خلقهم الشخصي، ووجه الاتهام هو ان السبب الرئيسي لهذا النوع من السلوك الانساني هو اما ان يكون كسلا او دجلا، أو خليطا منهما جميعا، مع شدة الاختلافات في المظاهر. فهناك رجل يعرف أنه يجانب الحقيقة وما يريده الدين ولكنه يصر على ما يفعل لما يراه من انخداع كثير من الناس به، وأن هذا السلوك يكسبه مظهرا ممتازاً من الابّهة والاحترام. وهناك رجل يعجز عن بلوغ هدف معين كان قد رسمه هو لنفسه او بلوغ ما وصل اليه فلان غيره من العلم والمعرفة أو المنصب والرياسة، فيتظاهر بالعزوف عن الدنيا واى مكسب من مكاسبها احتقارا للدنيا وما فيها. وقد يكون العكس هو الوارد، ذلك ان بعضهم رسم لنفسه خط العظمة من اظهار الشعوذة وعمل التنجيم مثلا وهو يعلم ان ذلك كذب ودجل. ولايعني ان الكسل هو العجز والقعود فحسب بل ربما يكون الكسل فكريا وان هذا الكسلان لم يتعب نفسه ولم يعمل فكره وبقي خاملا… وفي الواقع فان كثيرا من هذه الحالات يسببها طموح في غيرمحله طموح لم يؤهل المرء له.. ولاينبغي أن يحاول الانسان تناول شيء لاتصل اليه يده او لاتبلغه قدمه وكثيرا ما تولد من هذا السلوك انحرافات قد تعمق فتكون الانحرافات بالتالي وبالاًعلى المسلم، فمن هذه الانحرافات الأنعزال عن الناس وترك المجتمع الانساني برمته، ومنها هذا الوسواس في القيام بالعبادات وفي طهارة البدن والثياب. ومما يزيد السوء سوءً أن هؤلاء يستندون بمجموع سلوكهم الى افكارهي خليط من الشريعة والعرف ومما يحسّون في أنفسهم وفي الواقع فأن جميع ما افترضوا من سلوك انماهومن، مخترعاتهم وحتى الذين يفترضون فيه الشرعية فهو إنما صيغ بصيغهم الخاصة… واذن فإن هؤلاء الصالحين وارشاداتهم انما تكون من مبتدعاتهم الخاصة.. بل إن الرجل منهم لايفكر في الغالب بمشاكل الآخرين الحقيقية ولايهتم بها، وكيف يستطيع ان يفكر في شيء هو مبتعد عنه.. وإذن فستكون اغلب الافكار الاجتماعية والارشادات هي مشاكله الخاصة والتعبير عن مزاجه الخاص. ومن الامراض الخبيثة التي يبتلي بها هؤلاء هو مرض الغطرسة والغرور فكلما تبدو على المتعبد مظاهر الانعزال عن الدنيا والمسكنة… فقد تبدو عليه كذلك مظاهر الغرور والغطرسة بما يتصور انه يدرك من حقائق.. فاذا ازداد هذا الانحراف لاسمح الله فانه يصل الى حد الشرك كما ينقل عن الحلاّج أنه قال:
”ما تحت جبتي سواي والله“
- أنا من أهوى ومن أهوى انا
- نحن روحان حللنا بدنا
- فإذا أبصرتني أبصرته
- واذا ابصرته ابصرتنا
وإذا عدنا الى هؤلاء الاقوام جميعا، نسأل عن صحيح هذا السلوك، جميعه او بعضه، او من انكره فإنا سنواجه كثيرا من الفكر وكثيرا من الكلام، منه الغث ومنه السمين وكل هؤلاء مسلمون بطبيعة الحال ـ الا المشرك او منكر لضروري الدين ـ ولذا فانهم لايخرجون من الاطار الاسلامي كما انهم يستندون بشكل صحيح او خاطيء للاسلام في سلوكهم او في معارفهم وليس لنا من هنا اعتراض على القاعدة الرئيسية في طريقة استناد المسلم الى الاسلام إذ أنه على كل حال لابد وأن يستند الى الاسلام، وهنا مسألتان:
-
الاولى: في طريقة الاستناد، فمع اختلاف الطرائق فان وضوح الخلل في بعضها مما لاشك فيه نقصد انه لابد من التثبت وبشكل علمي صحيح من حصول الاستناد الى الاسلام.
-
الثانية: مما ثبت في الاسلام قطعا، وجوب سلوك معين للفرد والمجتمع وان كثيرا من المفاهيم في الفرد والمجتمع مما وجبت باجماع المسلمين وعليه فانه لابد من اطمئنان المرء نفسه الى ذلك… بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿١٤﴾.
لابد ان يلتفت الانسان الى نفسه ليحاسبها دائما مسترشدا بذلك بالقادة الائمة الميامين.
ان السلوك الصحيح في كل الظروف والاحوال وتوفر الشروط الكاملة في المسلم هو الذي يدفع عن الزهاد تهمة الكسل والدجل. ومرة اخرى باعتبار ان حالات التنسك والدروشه حالات انسانية فلنتجاوز الجماعات الاسلامية، لنبحث عن كيفية الوصول الى افضل الوسائل ومعرفة هذه الظاهرة. وبعبارة اخرى ماهي الوسيلة التي تملكها فعلا والتي توصل هذه الفرقه المتخاصمة الى ما يطمئن من سبيل الحق، ولاشك ان النظرية التي يمكن ان توصلنا الى نتائج واضحة هي بعدم الوقوف عند حد من حدود البحث، وفي مستوى معين من مستويات المعرفة البشرية. وذلك ان النظرية كلما اوغلت في البحث في اكتناه الاسباب والمسببات كانت اقدر على اعطاء الصورة بشكل اوضح، فمثلا اذا لم يتفق المتنازعان في موضوع التنسك على صورة معينة منه، فلابد ان يتجاوزا موضوع النسك وحالاته الى بحث الملكات والقدرات الانسانية، ومن ذلك الى بحث السبب والاسباب التي صيرت الانسان بهذا الشكل ووهبته هذه القابليات. وهكذا دائما في كل بحث من البحوث الفكرية تتشكل من البحث دورة فكر كاملة تبدأ في البحث في امور تكون اوّل الامر واضحة ثم يحصل الشك في وضوحها فيبحث اصلها ثم يبحث في اصل ذلك الاصل. حتى يصل الفكر الفطري الى مايسمى بالبديهيات التي يؤمن بها ايمانا واضحا لالبس فيه. ومن ثم يعود الفكر مرة اخرى متسلسلا ولكن في الفروع هذه المرة وبشكل اوضح حتى يعود يحكم على الشك بشكل اكثر وضوحا واكثر اطمئنانا. وفي الواقع ان معرفة اصول المناقشات واساليب الكلام توفر كثيرا من الجهد والوقت على المتناقشين.
واهم اصل من تلك الاصول ان يدرك كل من الطرفين النقطة التي يدور حولها قصد كل واحد منهم ويسهل الامر بعض الشيء ايضا اذا كان طرف واحد منهم قد ادرك قصد الآخر وحينئذ يستطيع ان يعدل او يوضح، ولايستطيع ان يحصل على هذا الادراك ان لم يصغ لخصمه ليعرف حقيقة ما يقول الآخر. وفي مسألة التنسك لانحتاج الى بحث خارج نطاق الاسلام فنحن انما نريد ان نبحث المسألة في مستوى المسلمين. ولقد استعرضنا نتفا من احوالهم ونتفا من الفكر المعايش لهذه الاحوال ابراما ونقضا، وظاهرة الروحانية والتنسك من اعقد الظواهر في الاسلام وذلك لعمق جذورها والتصاقها بالدين حقيقة، ولذا فتمييز المسلم السوّي عن المسلم المنحرف صعب جدا. واذن ليس بكلمة أو بفكرة واحدة نستطيع ان نعالج كل مسألة في هذه الظاهرة، وتضيق رقعة البحث في هذه المسألة كثيرا اذا اردنا ان ننظر اليها من زاوية الافتئات على الدعوة ومن نطاق العاملين في اجوائها. وفي الواقع انما استعرضنا ما استعرضنا او أطلنا في بعض الشواهد استكمالا لعموم البحث ولكل بحث… وهو فكر نافع على كل حال.
ولنذكر ما نريد ذكره بصدد ظاهرة التنسك في جملة من القواعد الاسلامية، فان بقي شيء في نفس الداعية من ذلك فليسأل حتى يجاب وينبأ اذا لم يرغب هو ان يستكمل مايريد بنفسه شخصيا، وان يستكمل هو ذلك، احب الى الدعوة، لان معنى ذلك زيادة المعرفة والعلم عن تبصر وتعمق.
والاسلام هو دين التكامل في كل شيء ولايمكن ان يعطي اى فكر ما اعطاه الاسلام للبشرية وللاسلام نظريات وافكار عامة وله تعليمات وارشادات وله احكام محددة لايجوز تركها او التهاون فيها. ومن نظرياته في الفرد والمجتمع ان الانسان في الوقت الذي يملك ارادة الفرد وله احواله الفردية، فانه مرتبط بالمجتمع لايمكن ان ينفك عنه وان للمجتمع اثرا عليه وعلاقة معه ومن تعليماته في هذا الباب انه الزم الفرد بالتفكر بالمجموع والاهتمام بعموم الناس وفي ذلك قوله ﷺ:
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من عامة الصلاة والصوم.
وامثال هذه الاحكام العامة. واحكام الاسلام سواء منها العينية والكفائية تشمل الفرد والمجتمع في آن واحد وتحمّل الفرد مسؤولية المجتمع كما تحمّل المجتمع مسؤولية الفرد.
ومن جهة اخرى نجد ان الاحكام التي تطلب من المسلم الفرد تطلب كذلك من المجتمع: فالدعاء يكون تقربا لله تعالى ويكون دعاء للآخرين، والصلاة والصيام تزكية للنفس وكذلك هي عمل للترابط الاجتماعي كما في صلاة الجماعة وهي لابدية اجتماعية كما في صلاة الجمعة وصلاة الخوف وصلاة الاستسقاء وجهاد العدو يجب على الفرد اذا دهمه عدوه ويجب على الامة كلها، دفاعا عن الاسلام ولنشر الاسلام في ربوع الارض. واذن فالاسلام يربي الفرد لكي يكون نشيطا قويا غير هياب ولاكسول، ويربيه بفكر الامة جميعا، وكذلك هو يربي الامة على ان تحمي افرادها وترتفع بمستواهم وتدفع بهم نحو اكتساح الكفر من وجه الارض هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فان الاسلام كما شرع الاحكام فانه شرع كذلك كيفيتهاولم يقبل بان يكون التعبد جزافا او كيفما يشاء المسلم حتى انه يروى عن عبد الرحيم القصير احد اصحاب الامام الصادق عليه السلام:
انه دخل عليه فقال: ياسيدى انني اخترعت دعاء.
فقال الامام: دعني من اختراعك، ولكن اذا نزل بك أمر فافعل كذا.
فمما يدل على ان السلوك الافضل والأتم هو التقيد حرفيا بما يعمله الائمة، فالاسلام وان كان قد وضع القواعد العامة للسلوك البشري، الا ان المسلم كلما قدر ان يتقيد بخطوات الائمة كان ذلك أفضل له ولو حدث هذا لما صار المسلمون بين مشرّق ومغرّب، وفي الواقع فانه لايختلف اثنان من المسلمين في ان الصلاة والصيام لله سبحانه، وطلب العلم وطلب الرزق وخدمة الآخرين والجهاد في سبيل الله ومعونة الفقراء وارشاد الضال وتعليم الجاهل واصلاح ذات البين وعيادة المريض وصلة الرحم، كل ذلك وامثاله من الافعال واجبة على كل مسلم عينية في بعض الحالات وكفائية في حالات اُخرى نعم لايختلف اثنان من المسلمين في ذلك ولكن الكلام في التطبيق، وفي غلبة بعض هذه الافعال على بعض، فقد يكون امريءٍ دأبه الصلاة وقد يقضي بعضهم وقته في صلة رحمه والتعلق بعياله وواقع آخر لابد من التعرف عليه وفهمه هو اختلاف وجهة النظر ومسألة التوازن بين التطبيقات في الاحكام بين وضعية لاتوجد فيها الحكومة الاسلامية واخرى توجد فيها الحكومة الاسلامية فمثلا: ان انصراف الفرد المسلم في حالة وجود الحكومة الاسلامية الى المسجد وانشغاله بالقيام والقعود والركوع والسجود لايلتفت الى امور المسلمين، وربما لايهتم بعياله هذا المسلم مهما كان الحكم عليه صعبا فهو اهون من الحكم له وهو بهذه الكيفية في حالة عدم وجود الحكومة الاسلامية؟..
فقد روي ان النبي ﷺ راى رجلا يلزم المسجد مشغولا بالعبادة، فسأل عنه.
قيل له: هو فلان العابد.
قال ﷺ: فمن يعول به؟
قيل اصحاب له.
قال ﷺ: هم اعبد منه، او قال هم افضل منه.
وعلى كل حال، إن تقصير هذا المتنسك أو قصوره سبب له أن يحكم عليه رسول الله ﷺ بأن غيره أفضل منه… ترى ماذا كان يحكم عليه رسول الله ﷺ في حالة تخلفه عن الجهاد في سبيل الله مع جيوش المسلمين؟ وهاتان الحالتان كلتاهما في حال وجود الحكومة الاسلامية…
اما في حالة عدم وجود الحكومة الاسلامية فان المسلم الذي لايفكر فيها ولافي مجتمع الاسلام وهو ينشغل عن ذلك باي من المستحبات، فان هذا المسلم لاشك آثم ان كان عالما بتقصيره. وهذه حقيقة مرة لابد من التعرف عليها وإدراكها. وعلى كل حال فالمطلوب من المسلم ان يدرك ماهو عليه وان يتأمل فيه، لاأن يكون سلوكه كيفما اتفق اوحسبما جرى عليه العرف والعادة، وان يكون هذا الادراك مسببا عن الاسلام نفسه.
لامجال ولاداع للحديث عن هذه الظاهرة بأكثر من هذا الكلام، ونريد بعد هذا الحديث الطويل ان نقول ان دراسة هذه الظاهرة تأتي ثانوية في البحث المخصص عن عملية التغيير الاجتماعي، ذلك ان البحث في عملية التغيير الاجتماعي يتناول مجموعة التفاعلات الاجتماعية والتغيرات الاجتماعية بوصفها نتيجة لحدث ما ـ على اختلاف وجهات النظر بين المسلمين وغيرهم ـ أو بوصفها سببا لتغيرات اجتماعية اُخرى. ولمّا كان موضوع ما أسميناه بالروحيات تحمل أعمال الفرد فهو يدخل ضمن نطاق البحث عن صفات الافراد في المجتمع متغيرا او غير متغير.
ولقد قلنا ان المؤمن ليدعو لاخيه المؤمن او لاخوانه المؤمنين أولمجموع المسلمين ولكن الدعاء لايمكن ان يسمّى فعلاً اجتماعياً ولم يقل احد بهذا الرأي، وقلنا ان الصلاة جماعة لها أثر اجتماعي ولكن هذا الاثر لم يأت من فعل الصلاة وانما جاء من اجتماع المصلين بهذا الشكل. وفي الواقع اننا لانريد ان نبحث عن الفروق الكاملة بين العمل الفردي وبين الأحداث الاجتماعية فضلاً عن ان نحدد كلاً منهما فلسفيا، إلا أننا نريد ان نقول اننا بوصفنا حزبا يريد ان يغير المجتمع الى حيث المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية اننا ـ ونحن بهذا الوصف لاداعي لأن ندرس أحوال الفرد أكثر مما ينبغي أو بشكل غير داخل تحت نطاق التغيير الاجتماعي ومع أننا نؤمن بان الفرد والمجتمع لايمكن انفكاكهما عن بعضهما، وبعبارة اخرى ان النظرية الاسلامية في هذا لاتؤمن بكون الفرد آلة متحركة في خضّم المجتمع كما يؤمن الشيوعيون، كما لا تؤمن بأن الفرد هو صاحب السلطان الكامل على نفسه بحيث ان البحث عن صفات الافراد في المجتمع لااثر له عليه كما تؤمن به النظرية الراسمالية… نقول مع أننا نؤمن بذلك الا أننا يجب أن نفكر أكثر فأكثر في المجتمع وفي العمليات المغيّرة فيه… وواضح هنا ان السلوك الى الدولة والنظريات فيه يختلف في محتواه وشكله عن السلوك الى تزكية النفس الانسانية بالعبادة والرياضة والنظريات في ذلك… نعم.. لما كان الاسلام نفسه يشترط على المسلم ـ بوصفه فرداً ـ صفاتاً وأفعالاً معينة فالدعوة تبقى تؤكد على هذه الافعال وهذه الصفات وباعتبار أن أفعال الفرد لاعلاقة لها بأفعال المجتمع فنحن اذن لابد أن ننظر للفرد كذلك من هذه الزاوية. وبعبارة اخرى: ان صفات المسلم كصلاته مثلاً أو صدقه او مروءته، هذه الصفات لما كان لها أثر في الأفراد، والافراد جزء من المجتمع الاسلامي ككل فِلابد اذن ان ننظر وندرس ذلك. أن النفس الانسانية اذا لم تزكّ وتتكامل فلا يمكن ان تنجح في فعالها خصوصا حسب المعتقد الاسلامي. وعليه فلابد من توفير هذه الصفات غير ان كل هذه التأملات في افعال المسلم الفرد لاتغيّر من طبيعة عملنا ـ كدعوة ـ لأننا نهتم من حيث الاصل في العمليات التغييرية الاجتماعية. ان العبادة لايمكن ان تشكل حزبا او تجمعا دينيا ولكن يمكن ان تشكل طبقة من الناس لطائفة معينة اذا كانت هذه الطائفة تعيش هذا الهيكل الاجتماعي المعين في الحياةالاجتماعية، وحينئذ فلابد أن ستكون هذه الطبقة طائفة كما هو موجود عند الهندوس مثلا حيث يكوّن رؤساؤهم طبقة (البراهما) او (البرهميين) وواضح هنا ان الذي صيّر طبقة الهندوس بهذا الشكل اى صيّرهم طائفة وحقق وجودها ليس هو عبادة هؤلاء الافراد ”البراهما“ مثلا دعاؤهم، بل لاهؤلاء الافراد بوصفهم متعبدين مرتاضين ولكن الذي صيّرهم طائفة مجموعة من النظريات والافكار الاجتماعية.. وليكن منها لابدّية وجود طبقة البراهما لدى طائفة الهندوس وعليه فلكي تنخلق الطائفة الهندوسية لابد من السعي لايجاد مجتمع معين رؤساؤه طبقة من العباد وأسمهم (البراهميين) واذا صح كل هذا عن الهندوس فأنه سيكون عملهم واجب، ولكن واجب كفائي ـ هو انغلاق افراد البراهما هؤلاء، واذن فعبادة البرهميين مسألة ضمن نطاق بحث النظريات الهندوسية في المجتمع وفي ما ينبغي أن يكون الهيكل الاجتماعي الهندوسي طبعا مثال الهندوس هذا لاينطبق على المجتمع الاسلامي لأنه لاتوجد في الاسلام لابدية وجود طبقة دينية تكون هي التي تمنح الخير والبركة للمسلمين كما يكون ذلك للهندوس بل ان الاسلام يعد بعض هذه الحالات دجلا. وهو يحسب ذلك المتعبد عالة على غيره وغيره افضل منه.. وعبادة الله في الاسلام لاتشكل طبقة ولاتجمعا. ولقد درسنا هذه الظاهرة استكمالاً للبحث ليس الا ـ ولانه يدخل في جزء من عملية التغيير الاجتماعي لكونه بحث في صفات المسلم الفرد والداعية الفرد. وقد ذكرنا ذلك إجمالا في النقطة الثالثة والرابعة في بحث التخطيط السابق.
ومرة اخرى نؤكد ان من الواجب ان نفرق اين موضع هذا الفكر في خط سيرنا. انه في فصل البحث عن صفات الفرد المغير… ومع انا اطلقنا فيه الحديث الا ان ذلك ليس خللا لما يوجد في الافكار العبادية والروحية من آثار لدى كثير من علماء المسلمين ومثقفيهم وطالما نحن نتحدث في صفات المسلم الفرد فالافضل ان نختمه بهذه الفقرة.
كثيرا ما نتصور ان العبادة والنسك هي الصلاة والصوم والدعاء والتسبيح وهكذا وكثيرا ما يغيب عن اذهان الروحانيين انهم مكلفون بالالتزام والسعي للالتزام بصفات اخرى لاتقل اهمية عن هذه العبادات ان لم تفقها في الاهمية في بعض الحالات ولانريد ان نذكر هنا بعض عيوب هؤلاء الروحانيين انما القصد الرئيسي هو تذكير الدعاة ـ حفظهم الله ـ بهذه الصفات الربانية العالية. ومن الصفات: صدق الحديث واداء الامانة وحسن المعاشرة والمروءة والامان الى الغير وترك الحسد وتجنب الغيبة والهرب من النميمة والبهتان والرغبة في الجدّ والعمل والأستبعاد بالاعمال لئلا يقع المسلم في الورطة أو أن يفشل في عمله، ولقد نفى الرسول ﷺ صفة الايمان من رجل يتكرر عليه الخطأ من جهة واحدة فقال ﷺ:
لايلدغ مؤمن من جحر مرتين.
ولابد ان يسعى أو يستزيد المسلم لأن يكون شجاعا مقداما غير هياب ولان يكون كريما سمحا ولأن يكون عفيفا ابيّا عن الدنيئة. ومالنا نطيل ـ ان هذه الصفات واجبة وهي معروفة لدى جميع المسلمين ولكنهم جميعا إما انهم يتصفون بنقيضها او انها ضعفت لديهم حتى تلاشت او كادت، وانها كما لوكانت طاقة كهربائية مستنزفة.. فوا اسفاه وواحرقتاه ووا اسفاه مرة اخرى ان كثيرا من المسلمين لا يلتفتون الى ذلك بل ان هناك من ينكر فائدة التفكير بهذه المسألة، والاسلام لم يفرق بين صفة من صفات الفرد واخرى ـ شبيها بنظريته في الفرد والمجتمع ـ فما بالنا اذا انفلتنا الى الصلاة كأننا الملائكة، ولكنا اذا تعاملنا مع الناس فكأننا الشياطين ومالنا اذا تبتلنا في الدعاء فكأننا الرهبان واذا وقعت ايدينا على شيء من مال الغير فكأننا اللصوص ومابالنا اذا تحدثنا عن انفسنا فإنما تتجسد العفة والنجابة واذا تعلق حديثنا بالغير فانما تتجلى اللئامة والخسة..والله لانحن كما نصف ولا الآخرون كما نذكر.. ولكن انما هو عدم التقوى…ترى افلا ينبغي ان نعتبر بقول ربنا عزوجل في محكم كتابه..
دراسة مقارنة
عندما نتحدث في كل واحد من مفهومي التوكل والتخطيط منفصلاً عن صاحبه فليس ذلك من اجل المقارنة العلمية فحسب وانما من اجل ان يتضح المفهوم نفسه ويتميز عن غيره من المفاهيم…ودائماً وابداً اذا اتضح المفهوم وتميّز عن غيره فان المرء يكون اقدر على التحكم والتعرف.. ولايحصل هذا الوضوح بغير الدرس.. وان اكثر الملابسات والوقوع في السلوك الخطأ يتسبب عن تشابك عدة مفاهيم بالذهن ـ طبعا هذا السبب في خصوص المخلصين والذين لديهم الرغبة الصادقة في السلوك الصحيح.. اما من يتعمد الخطأ أو من يستهدي بسلوكه سبل الشيطان ـ أعاذنا الله منه ـ فليس سبب الخطأ عنده تشابك المفاهيم وانما كان ذلك بسبب اتبّاع الهوى ومصاحبة الشيطان ـ وفكرة العمل منسقا ـ من حيث هي ـ تتجه اكثر ما تتجه بالنفس الانسانية نحو النجاح في العمل وتحقيق المكسب الدنيوي الظاهر بغض النظر عن كون هذا العمل مما يرتضيه الله تعالى اولايرتضيه. فالانسان الذي يتعود التنسيق يتعود كذلك ضبط الامور وابتغاء المكسب.. وحينئذ فسيحدد هذا الانسان علاقاته بالاشخاص والجهات والاعمال بمقتضى ما تدفعه اليه مكاسبه ويتعامل مع الاشخاص والجهات على اساس هذه الذهنية.. والانسان من هذا القبيل عندما يفكر بالعمل السياسي والاجتماعي، تنعكس هذه الحالات على عمله بالطبع.. فواضح انه يفكر بالنصر والمكسب قبل كل شئ.
وقد يكون واضحا كذلك المتقرب الى الله تعالى بعمله يكون مخلص النية له بعيداً عن الانانية في كل تصرفاته بينما يكون في الغالب من يفكر في المكسب ويعمل من اجله ليس كذلك بل يهتم بمصلحته الشخصية وحتى ذلك الذي يعمل في الحقل الاجتماعي فانه يستغل هذا العمل لمصلحته الخاصه وحينئذ فستحدد المصلحة الخاصة منهاج العامل الاجتماعي وفق مزاجه الخاص فقد تكون مصلحته الخاصة تنصيب اصدقائه ومتعلقيه بالمناصب العامه للمجتمع أو ان يكتفي بالظهور بمظهر الزعامة والرياسة، فيما اذا قدر على اي من ذلك، ونحن هنا ـ لانريد ان نتحدث عمن تصل به رغباته الخاصة الى هذا المستوى… فان مثل هذا لاقيمة حقيقية له في الحساب الاجتماعي والتغيير الاجتماعي بل هو قد لايقدر على عملية التغيير الاجتماعي. وانما نريد ان نتحدث عن ذلك المغيّر المخلص الذي غلب على مزاجه طابع التخطيط والتنسيق.. وفي الواقع فليس بالضرورة ان كل تخطيط يجر الى الانانية والمنحدرات الشخصية، والمغير المخلص انما اعتمد التخطيط اساسا فلنفس عمله وتحقيقاً لذات أهدافه الاجتماعية.. ومن هنا فاننا نريد أن ننظر الى تلك المشاكل الناجمة عن هذا اللون من السلوك من تلك المشاكل التي ربما تـُصيّرمن الهدف الاجتماعي الاخير ذا مميزات تختلف عن ذلك الذي تحقق نتيجة لسلوك التوكل على الله تعالى فيه أوضح وأكثر. ويمكننا ان نقول على سبيل المثال والتوضيح ان الشخص الذي يجعل نصب عينيه التوكل على الله سبحانه ولايلتفت لما عداه هو الذي يتمثل قول الشاعر:
- على المرء أن يسعى بمقدار جهده
- وليس عليه ان يكون موفقا
بينما الذي يجعل المكسب نصب عينيه، هو الذي يتمثل القول: لاتحرك رجلك خطوة ـ مالم تحقق مكسبا مضاعفاً
مقدمات اخرى لابدّ منها
اننا لكي ندرك كيف صار فلان ـ ايّ عامل اجتماعي ـ دافعه ورافده التوكل على الله سبحانه ولكي ندرك كيف صار فلان الآخر دافعه ورافده التخطيط فلابد من معرفة جميع الأسباب والظروف الفكرية والوضعية لهذا الانسان الذي خلقت منه الانسان صاحب هذه الشخصية وبعبارة اخرى: اننا لانستطيع ان نطمئن لأية ذات ونعتبرها المثل الاعلى في ذلك، مهما ابرزت من قدرات على صعيد الجهاد والكفاح، فانه لابد من فهم النظريةالتي اعتمدتها تلك الشخصية في سلوكها. وربما تتحقق شخصية الانسان نتيجة لظروف معينة بلا أن يدخل عامل الارادة الذاتية كعنصر داع وشاهد على تصرفات الانسان وأفعاله. ولايمكن ان نميّز شخصا عن آخر الا بدراسة مستفيضة لتاريخ حياته… ولكننا نريد أن نذكر شيئا واحداً، ذلك هو ان الدراسيه او الظاهرة الدراسية التي ابرزها سيد قطب لمفهوم التوكل أو تلك الدراسة التي يعرضها مالك بن نبي لمفهوم التخطيط او سمها تلك الروح الدراسية التي تشيع في ابحاث كل منهما، ان هذه الافكار لايمكن الاستناد اليها باعتبارها افكارا متكاملة على طريقة البحث المنهجي..وذلك سببه ان هذه الروح التي حصلت عبر سنين من العمل إنما اختلطت في نفس كل منهما وصيّرت منه بموجبه شخصيته المتميزة عن غيره واذن فالتوكل على الله سبحانه مثلاً لايبدو للناس على شكل بحث يمكن تحديد نقاط الصحة والخطأ فيه وانما يبدو شخصية انسانية متكاملة لها أهداف معينه كما انها تتوسل الى اهدافها بوسائل معينة ومن هنا كان لابد من تحليل هذه السلوكات والتعرف على شخصيات اصحابها ومن هنا التزمت الدعوة بدراسة الحالات الاجتماعية من أجل ان يتعرف الدعاة مسبقاً على ما سيصيرون اليه في مستقبل أيامهم الكفاحية في سبيل الله تعالى.
طلب هام
إن الدعوة تطالب الدعاة ـ حفظهم الله ـ ان يكونوا دائما دارسين لاحوالهم واوضاعهم وأن ينظروا الى أنفسهم هل هم على الخط والا فكثيرا ماشذ ّ مؤمن بسبب ظروف طارئة او بسبب فكرة منحرفة عن الجادة كان يخفيها عن الآخرين أو كان هو لايعرضها للدرس فلما تحكمت منه برزت بحيث يصعب العلاج ـ ولاشك ان العاصم هو الله سبحانه (فلا تزكوا انفسكم بل الله يزكي الانفس..) وان الطلب الذي نطلبه ليس مطلباً سهلا ذلك أننا لانريد ان يحترس الداعية من الانحراف عن الاسلام ـ نستغفر الله ـ فمافي أجوائنا من يتصور ذلك في شانه، إنما ندعوا من اجل معرفة ما يحول بين المسلم وبين بلوغ هدف الدعوة أو يحرفه عن هذا الهدف ألا وهو تحقيق الدولة الاسلامية في المجتمع الاسلامي.
بين السلوك والبحث
قلنا قبل قليل أن الروح التي تشيع في أبحاث العامل الاجتماعي لايمكن ان تكون بحثا يمكن الحكم عليه خطأ أو صوابا.
وهنا نقول أن مفهوم التوكل على الله سبحانه باعتباره بحثاً يمكن تصوره وأدراكه وكذلك اعتماد التخطيط في العمل، أما المطلوب فهو تحويل المفهوم الى سلوك يعيشه الانسان، وبعبارة اخرى: أنه ليس المقصود من بحثنا هذا، الدراسة الفلسفية لهذين المفهومين، إنما المقصود أن يكون ذلك مساعداً لنا في أن نسلك بموجبه في حياتنا الدنيا.
السلوك الجامع
ولابد ان يكون سلوكنا صحيحاً ومرضياً من قبل الله تعالى وموصلا الى أهدافنا وباعتبار أن بعض العاملين يغلب عليهم طابع التخطيط مثلاً وبعضهم يغلب عليهم طابع التوكل، كتبنا هذا البحث ليكون واضحا أن كلا من المفهومين مطلوب…وواضح كذلك أنه توجد مفاهيم كثيرة واجبة التحقيق ولايجوز التسامح فيها، ونظراً لما في كل هذين المفهومين من لابديه فلا مناص من اتخاذ الداعية السلوك الذي يجمع بينهما ولابد من ان يجهد نفسه ليصير له مزاجا ـ بتوالي الايام ـ يتحكم فيه كلا المفهومين يعمل قربة لله ويخطط قربة لله ويخطو الخطوة التالية قربة لله تعالى،وسبب هذا اللزوم هو ماتقدم من صواب كل من المفهومين فاذا لاتحصل نتيجة الا بمقدماتها،وجب ألا نعدوا تخطيطاً بعينه وأن نسلك مسلكاً محدداً..واذ لاقيمة اسلامية لاي عمل إلا اذا قصد به وجه الله تعالى وتوكل فيه عليه، ولأن الانسان مهما أوتي من نفاذ البصيرة ان ينجح في عمله فبمشيئة الله تعالى، فلابد من ربط العمل به وذلك بان نستمد الهداية والتوفيق لاعمالنا منه. وليس سهلا في الواقع بل ولسنا نهدف من هذا الكلام أن تصير كل اعمالنا وتصرفاتنا جزئيّها وكليّها وفق اَدق الموازين بحيث نستطيع الجزم بأن لم يكن هناك أفضل من هذه الخطوة التي خطوناها في نفس الوقت الذي كان توكلنا على الله سبحانه في هذه الخطوة نفسها تماما وواضحاً. أن هذه الوضعية لاتحصل الا للمعصومين من الناس. إلا أن المطلوب هو أن نتعود ان تكون اعمالنا حاوية لكلا المفهومين بمقدار ما نُؤتى من ذكاء وقوة وابداع
التخطيط والتوكل حالة نفسية
وواضح أن مانرمي اليه من هذا البحث هو التطبيق العملي لمفهومي التخطيط والتدين وتحقيقهما سلوكا للانسان. ويجب دائما ألا نتحدث كفلاسفة وإنما نتحدث باعتبارنا مغيّرين وساعين لتغيير المجتمع.ولكي يكون مفهوم التخطيط والتوكل على الله سبحانه حقيقة يعيشها المرء لابد من المران والممارسة ولابد من بذل الجهد. فربما يتصور الانسان أنه اصبح في عداد المخططين وربما يتصور نفسه متوكلا على الله سبحانه، الا انه لم يكن في الواقع كذلك وما يزال مثل بقية المجتمع الذي نشأ فيه واَخذ سلوكه عنه.
وتصل القدرة على التخطيط ان يتضح للانسان سيره الطويل بدقائقه الكاملة الواقعية كما يصل بالانسان توكله الى ان لايشعر بمحرك في هذا الوجود الا الله سبحانه فحسب. وليست هذه المراتب من الواقعية فحسب فهي تحتاج الى مران وممارسة.
ولكن اية مرتبة تحتاج الى ذلك، وفي الواقع لايمكن لنا ان نكتب هذه الحالات حروفاً وانما نستطيع ان نشير اليها وقد فعلنا، وعلى الدعاة ان يسيروا في هذا الخط وإنهم لايصلون الا ببذل المزيد من الجهد وتحمل المتاعب.
قضية الازدواجية
ختاما لهذا المفصل من البحث نود ان نتحدث عن نقطة هامة في السلوك الانساني وستعيننا هذه النقطة أيضا في توضيح مانصبوا اليه من تحقيق السلوك الافضل ـ ان شاء الله تعالى ـ تلك هي ظاهرة التناقض في أفعال الانسان.. او بالحقيقة ماقد يتصور انه تناقض. فقد يتصور ان التعود على العبادة من الصلاة والصيام والبكاء من خشية الله، قد يتصور ان هذه الظاهرة في حياة الانسان تتناقض مع قلة مروءته وبخله مثلا، هذا مثل يمكن ان نحسبه على صعيد التوكل، ومثل آخر نحسبه على صعيد التخطيط: فقد يُتصور أن عدم القدرة على فهم المجتمع وسوء التصرف مع الناس والتعامل معهم يتناقض مع القدرة العلمية الزائدة في فهم وادراك النظريات العلمية.
وفي الواقع أن هذه الظواهر لا يمكن ان نسميها تناقضا بصورة مطلقة ولا يمكن ان نسميها تناقضا مالم نضع القاعدة التي نحسب بميزانها الحساب، ومن دون وضع الميزان فلا يصح الوزن ولايمكن الحكم، واذا جعلنا الميزان النفس الانسانية بذاتها وبمالديها من قدرات، فليس اذن هناك تناقض فالانسان بما خلقه الله سبحانه قادر على الجمع بين هذه الصفات كلها فهو يبكى من خشية الله تعالى وهو قاسي القلب لامروءةله وهو لايترك صلاته في اوقاتها وهو مراوغ في بيعه وشرائه، هذا من جهة ومن جهة اخرى فهو عالم في فن مااو في علمٍ ما لدرجة انه استاذ الجيل في هذا العلم ولكنه في نفس الوقت لايقدر ان يكسب الى صفه صديقا واحدا حتى من تلامذته، نعم كل ذلك يمكن ان تجمعه النفس وليس في ذلك الجمع تناقض وهذا امر واضح لايحتاج الى دليل. والدليل هو نفس وجوده وتحققه فعلا لدى كثيروكثير جداً من بني آدم، نعم يُسمّى هذا تناقضاً في اصطلاح المناطقة اذاجعلنا لكل حالة من الحالات مفهوما يختلف عن المفهوم الآخر ولكن لانريد ان نبحث الموضوع على أساس ذوق المناطقة وانما على اساس التربية والفكر التغييرى.
ونضيف الى هذا الحديث فنقول: ان النفس بجوهرها مستعدة لامتلاك أي من هذه الحالات وأية حالة تتوجه اليها النفس فانها يمكن ان تكسب درجة منها اُو درجة حسب ما تسعى تلك النفس له، ثم هي قد لاتشبع نهمها من تلك الحالة حتى تصل الى درجات عالية جدا. ويمكن للنفس ان تتوجه لكل حالة على حده فتستزيد منها فهي اذ تنظرلعظمة الباري تعالى فلايمكنها الا ان تخشاه وهي في نفس تلك الفترة من الزمن اذ تنظر الى الدنيانظرة اشتهاء واستهواء. فهي تعني بحطام الدنيا اى تبخل، ثم هي بعد ذلك لا تحس بالتناقض فيما بين هذين الاحساسين وهكذا الامر في بقية ما يقال عنه انه تناقض. نعم النفس تشعر بالتناقض فيما اذا رسمت خطاً سلوكيا جامعالهذين الاساسين. نقصد من رسم الخط الجامع حصوله في النفس سواء هي التي ادركته او عرّفها به امر خارج عنها. ولابد ان يكون هذا الخط الجامع ادراكا واضحا تعيشه النفس فلا يكفي ما يردده اللسان او تنظر العين معانيه مكتوبة في السطور.
ونقول باجمال ان الشعور بالقواعد التي تجمع بين التصرفات حتى ينشأ ماينشأ من الجمع ويخصم ما يخصم مما لاتحتفظ به النفس. نقول ان الشعور بهذه القواعد وهذه القواعد نفسها تختلف بين انسان وآخر اختلافا كثيرا، وربما وضع الانسان قاعدة وهي لاأساس لها من الصحة وجمع بين صفتين لم يقدر انسان آخر على الجمع بينهما وهنا صور متعددة وكلام طويل لانحتاج اليه. انما الذي نريده والذي ينبغي ان ندركه ادراكا حقيقيا هو ان الله سبحانه وتعالى جعل للفرد سلوكا معينا ورسم له سبيلا معينا ووضع الله سبحانه الانسان انه سلوكا معينا كذلك وبموجب هذا السلوك الذي هو القاعدة التي يكون منطلقا لكل الحالات والمشاعر الانسانية، بموجب هذا السلوك وعنه يجب ان يصدر الانسان وعلى هديه يجب ان يسير الانسان المسلم. والانسان الفرد ليس منفصلا عن بني البشر الآخرين بل ليس هو منفصلا عن هذا الكون كله، والرابطة التي تربط بين الانسان وبين غيره من البشريةالصغيرة او البشرية جمعاء او الكون باسره هي الاخوة ثم النوعية ثم العبودية لله تعالى. والعبودية اذن كما تجمع بينه وبين أجزاء الكون فهي كذلك تجمع بينه وبين اخوته من بني آدم القريبين كما هي الجامع الكبير فهي الجامع الصغير وكما هي النطاق الواسع فهي في النطاق الضيق. والعبودية مفهوم واحد، هو مفهوم بسيط جدا يمكن ان تدركه النفس بأدنى جهد اذا ارادت. وحينئذ فانه سيسهل ارتسام الخط السلوكي الصحيح للنفس بلا عناء وبلا تناقض ولكن ليس معنى قولنا بلا عناء ان هذا الكلام وحده كاف مثلا لأن تعيش النفس هذا الخط.. لا وليس هذا الكلام وحده لأن يجعل النفس على عتبة الباب انما لابد من بذل الجهد والطلب والارادة ومن الله التوفيق.
ايها المصلون انظروا هل ان صلاتكم على الخط.
ايها المتعبدون انظروا هل ان عبادتكم على الخط.
ايها الاخوانيون انظروا هل ان اخوّتكم على الخط.
على ماذا ينصب الاهتمام
لقد شعرت الدعوة بان الحاجة تدعو الى التخطيط ووضع التصاميم لبناء المجتمع اكثر من شعورها بأى شيء آخر ويمكن ان تعزو ذلك لأمور متعددة أهمها:
-
من حيث الاصل…ان الامة تفتقد الوعي ومن ثم التحرك الاجتماعي والسياسي المنتج الفعال اكثر مما تفتقد الروح الديني والاعمال الدينية. بل في الامة ما هو ابعد من هذا فان كثيرا من الفعاليات ومنها ما هو على مستوى شامل وواسع ما يعتبره الناس من صميم الدين ومن احكام الاسلام وهذه الظاهرة في الوقت الذي تكشف عن حب الناس لدينهم وعن تضحيتهم في سبيله من مال وجهد فانها تكشف كذلك عن الزيف والجهل والبعد عن واقع الاسلام. وعليه فان الامة تحتاج الى ما يضع لها المخطط التغييرى ويرسم لها الاساليب التي تمكنها من التبديل اكثر مما تحتاج الى التركيز على الجانب الروحي كما اشرنا اليه اول هذا البحث وهذا امر في غاية التعقيد
-
صممت الدعوة من حيث الاصل ان تكون حزبا يرتبط اعضاؤه بعضهم ببعض بتنظيم خاص وهذه العملية بحد ذاتها تجر الى الفكر التنظيمي والى وضع المناهج والخطط. ويضاف الى هذه الحقيقة شيء آخر هو ان هؤلاء الاعضاء الذين ينتمون الى هذا الجهاز انهم لايدخلون الابروحيةطلب التبديل والتغيير في الاساليب والمناهج الحياتية للمجتمع. وبعبارة اخرى ان الجهاز تكوّن اصلا ثم وهو يتكاثر يشعر بما يدفع نحو التنظيم والتبديل اكثر مما يدعو الى العبادة والنسك. ان هذه الاسباب هي التي جعلت الدعوة تبرز بطابعها التنظيمي الصارم مفاهيميا او قل من حيث التصميم وان عاد غير صارم في كثير من الاحيان في الواقع العملي.
تربية القرآن الكريم
الظاهرة القرآنية والتربية التي جاءبها القرآن الكريم في هذا الباب تبدو بخلاف مالدى الدعوة. فالقرآن الكريم ظاهر في تربية الاعتماد على الله سبحانه والتوكل عليه بل ظاهر في عدم الاعتماد على النفس والركون اليها وهذه الظاهرة لا تحتاج الى بيان، ولذا فإنأ نسميها ظاهرة.. ترى هل انّ الدعوة تدعو الى تربية مخالفة لتربية القرآن الكريم.
الجواب: لا والف لا، ونستغفرالله ان يخطر ببالنا ان نسعى لمعصية الله سبحانه ونستغفره مما يصدر منا عن خطأ أو غفلة إذن فكيف نوفق بين الظاهرتين فنقول:
اولا: اننا لم ندعوا لترك التوكل على الله سبحانه ولكن الدعوة سبق ان ركزت على مسألة التخطيط.. والذي قلناه بالضبط هو ان يكون سلوكنا جامعاً لكلا المفهومين وقد شرحنا هذا المعنى بما لايحتاج الى مزيد.
ثانيا: لاشك ان الدعوة كجهاز مغير في هذه الامة فهي تدرس بعمق ما ينقصها لكي تكون امة صالحة ولكي تكون اولا وبالذات كما اراد الله سبحانه وتعالى لها وكما حملّها مسؤولية ذلك، والامة كما هو واضح ينقصها فهم الاسلام وينقصها قبل ذلك الطريق لفهم الاسلام.. ورسم هذا الطريق هو ما نسميه بالتخطيط.
هل معنى هذا ان تأويل القرآن بغير ما انزل الله سبحانه
لاينبغي ان يفهم من هذا الكلام ان القرآن الكريم يربي على التوكل على الله سبحانه ثم نربي نحن على الاعتماد على النفس بدعوى ان الامة محتاجة الى ذلك، وعلى اساس ان القرآن نزل في وقت غير هذا الوقت، أوكما يقال ان القرآن استنفذ أغراضه، طبعا هذا الكلام غير وارد، فالقرآن باق وباقية احكامه الى يوم القيامة ونحن نسعى لأن يكون القرآن الكريم هو الحاكم وهو مصدر التشريع لدى البشر جميعا. الا أن القرآن الكريم والاسلام بما هو، له تربيةخاصة للمجتمع البشري وبخصوص تربية الناس على كيفية الاندفاع نحو العمل والانتاج، فان الاسلام يريد ان يكون الانسان في الوقت الذي يتكل على الله سبحانه بكله، فهو كذلك لابد ان يدرك الامور وان يتبصر بها باعلى درجة ممكنة، ومن ذلك قوله ﷺ كلمته المشهورة:
”اعقل وتوكل“
بل انه اخبر عن ضعف الايمان في رجل يخطيء مرتين في جهة واحدة، فقد قال ﷺ:
”لايلدغ مؤمن من جحر مرتين“
كما ذكرنا ذلك سابقا. وانظر كيف عبّر صلى الله عليه وآله عن ضعف الايمان بعبارة قاسية حيث قد اطلق عبارته ولم يقيدها. فكما قلنا ان الامة حيث كانت جاهلية قبل الاسلام، كانت أبعد ما تكون عن معنى العبودية لله سبحانه وأكد القرآن الكريم على هذا الجانب، اما الامة الآن فهي بحمد الله تدين بالاسلام وبالعبودية لله تعالى، ولكن لاسباب معقدة ومتعددة لاتعيش هذه العبودية بالمعنى الصحيح، ونحن نبذل الجهد لأن تعيشها، ولايكون هذا الا برسم الخطط والاساليب نظرا لأن ابتعاد الامة عن الاسلام ليس فقط بسبب الغفلة وحدها حتى يسهل تنبيهها وانما القضية كما هو واضح معقدة غاية التعقيد، وايجاد الحلول ثم ايجاد السبل التي تجعل الامة مؤمنة بأن هذه حلول صحيحة ليس بالامر الهيّن ولكن الله سبحانه هو المعين.
مقارنة الدعاة بغيرهم من حيث العبادة
ولانغالي اذا قلنا ان الدعاة لم يشعروا في يوم من الايام بضعف الحاجة الى العبادة والابتهال الى الله سبحانه، وانهم لكذلك دائم الاحيان، وليس من المعلوم ان غيرهم اسبق منهم في هذا الشوط. وفي النشرات كذلك حث متواصل وبيان لهذه الاعمال والقيام بهذه الوظائف وكثيرا ما تتحدث عن الدعاء او تنقل فقرات منه. ويمكن القول بكل تأكيد أن اتهام الدعاة او الدعوة بقلة الصلاة او النسك إتهام باطل في نفس الوقت الذي ينطوي على تشويش في عدم معرفة مفهوم العبادة في الاسلام، أو ليس الجهاد بالمال والنفس في قمة العبادات.
ما المطلوب منا الآن وبعد الان
نختم هذا البحث بأعادة لدراسة واقع الدعوة. والمطلوب من التقييم الآن هو الحكم على جهاز الدعوة وما ينقصه من مفهومي التدين والتخطيط..واذا ارادت الدعوة ان تكشف عن واقع جهازها فأنها تستطيع أن تحكم على جهازها انه ينقصه الخبرة والقدرة على التخطيط… وليس معنى هذا ان الجهاز في تدينه وعبادته قد بلغ الذروة لابل لم يبلغ حتى الشوط او المرحلة كما يقال ولكنه مع ذلك فهو كجهاز مغير انما يعوزه وعلى درجة كبيرة جدا القدرة على التخطيط.
ومع شديد الأسف فاننا نقدر ان نرفع تقريرا لهذا الجهاز نخبره فيه بانه لم يبلغ المستوى المطلوب من الفهم والادراك لما ينبغي ولما لا ينبغي…وفي الواقع ليس المقصود هنا ان نبحث هذا الامر ولكن عندما نريد ان ندرس احوالنا فالمقصود ان نكمل النقص. ونحن في الوقت الذي نشعربالحاجة الى الروح الدينية والعبادية فاننا نشعربالحاجة اكثر الى القدرة على التخطيط.
تعليمات وارشادات
لاتعتبر الدعوة جهازها بالمستوى الذي تصدر اليه التعليمات المحددة والتوضيحات المنهجية فجهازها خير من ذلك، وهي عندما ترسم التعليمات فانها ترسمها على طريقة المفاهيم العامة والخط العام، والداعية بعد ذلك هو الذي يمشي على الخط. ولكن من باب اكمال هذا البحث وباعتبار مناسبته فلابأس بالتحدث قليلا. اما فيما يخص موضوع التخطيط فهذا مالايمكن ان نتحدث عنه ولاحتى في نقاط وان نشرات الدعوة وفكرها مشحون بذلك، واما فيما يخص الجانب التديني فنقول باختصار:
اولا: من حيث الاصل وكمبدأ، ان مسألة العبادة والصلاة والصيام وما اليهما مع عظم قيمتها في الاسلام ومع شدة الدعوة اليها من قبل الله سبحانه والترغيب لها والحث عليها فانها مسألة تخص الفرد المسلم وهي بالتالي تخص الداعية، لاتقدر الدعوة ان تلتزم بها بشكل محدد ومعين، نعم لايمكن ان يعتبر الداعية عضواً في جهاز الدعوة مالم يكن ملتزما بجميع الواجبات ومبتعدا عن جميع المحرمات. ونرجوا ان يوفقنا الله سبحانه لكتابة شيء حول توضيح هذا المبدأ والتعريف بهذه المسألة.
ثانيا: قد يتبادر للذهن ان بعض الصفات المطلوبة في الاسلام هي مما يخص الفرد، مثل تجنب الكذب وترك الغيبة والنميمة ومثل المروءة والعفة والشهامة والنخوة وامثال ذلك من الصفات. الا ان الدعوة تعتبر هذه الصفات من الصفات اللازمة للداعية وبدونها او بدون كمالها او تكاملها لايمكن ان يكون الداعية عضوا نافعاً في الجهاز. ان هذه الصفات مما يجب توفرها في شخص الداعية وان تبتني شخصيته بموجبها.
ثالثا: التعبد لله سبحانه امر حبيب الى النفس عندما تتعود عليه، ثم هي بعد ذلك لاتقدر على تركه، ولايفوتنا أن نذكر اخواننا الدعاة الميامين بما كتبته الدعوة في دراساتها الخاصة (ظاهرة ازدواج الشخصية) ومارسمته من خطوط عملية لبناء هذا الجانب من شخصيات الدعاة الميامين.
رابعا: يمكن ان نذكر بخصوص بعض التعليمات مايلي:
-
امر عظيم اذا قدر المسلم ان يصلي صلواته لأوقاتها وليس كل منا كذلك.
-
يقول الامام الصادق عليه السلام:
إنني اكره للمؤمن أن يقرأ في كل يوم اقل من خمسين آية من القرآن.
-
اذا أمكن كذلك الالتزام ببعض الاوراد والادعية المأثورة والصلوات المستحبة التي تدفع العبد درجة الى ربه، فهو امر جدا ممدوح.
-
في الواقع هناك كتب كثيرة مشحونة بتعليمات الافعال والقراءات العبادية ونحن نعلم ان كثيراً من الدعاة من يلتزم بكثير منها… وفقنا الله جميعا لان نكون من العبّاد والزهاد في هذه الحياة الدنيا.
ليست هذه التعليمات جامدة
لاينبغي أن تكون هذه التعلميات جامدة، لاجامدة في نفسها ولا جامدة في نفس الداعية. ولقد قلنا أن الداعية أجلّ من ان تصدر اليه تعليمات بهذا الشكل يتتلمذ عليها… وأهم ما ينفي الجمود عن هذه وعن غيرها هو ادراك الداعية بوضوح لما قلناه في اوائل البحث عن المعنى الحقيقي للتغيير، فقد قلنا ونقول الآن وسنبقى نؤكد على ذلك ابداً، أن الداعية لا تنفعه النظرية التي تقدمها له الدعوة ما لم تنبعث نفسه لفهمها واستيعابها، ولا بأس بأن نبقى نتذكر دائما العبارة التي قلنا ها هناك، وهي أن يتحقق التطبيق بمقدار مايتأمل الفرد وينبعث الفرد. والا فالدعوة من حيث الاصل لا تقدم إلا النظرية… وهذا الكلام نفسه يكون نظرياً اذا لم ينبعث الفرد لتطبيقه.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا لما ندرك به صالحنا ولمانشد به عزائمنا، انه سميع مجيب.