ظاهرة ازدواج الشخصية في اوساط الدعاة

صدر في ربيع الاول ١٣٨٦ هجري

تمهيد

من سمات الحركات الحية الواعية ان تراقب كيفية سير وبناء الحركات الاجتماعية الاخرى في الوقت الذي تراقب فيه كيفية سيرها وبناءكيانها ثم تحاول ان تستفيد من هذه المراقبة فيما يصلح بناءها ويقوّم سيرها. اذ ليس من المهم في الحركة الاجتماعية ان تبني كيانها وتقطع مراحلها كيفما اتفق لها السير والبناء من دون ان تلاحظ نفسها اثناء عمليتي السير والبناء، بل المهم ان تتحقق من سلامة بنائها وصحة سيرها، اذ هما ـ اى سلامة البناء وصحة السير ـ الشرطان الضروريان اللذان لايمكن ان تنتقل الحركة من مرحلة الى اخرى انتقالا طبيعيا من دونهما.

ولقد استطاعت الدعوة الاسلامية ان تستفيد من خلال مراقبتها ودراستها لسير الحركات الاجتماعية الاخرى ـ اسلامية كانت ام غير اسلامية ـ كثيرا من الفوائد والنتائج المهمة التي كان من حصيلتها هذا المنهاج الواضح اللاحب الذي اختطته الدعوة في طريق عملها. والذي زخرت به نشراتها السابقة.

وها هي الآن تقدم للدعاة الميامين دراسة في اخطر ظاهرة يمكن ان تطيح بكيان اي حركة من الحركات الاسلامية الاوهي ”ظاهرة ازدواج الشخصية“ في اوساط العاملين للاسلام، تلك الظاهرة التي لم تسلم منها ـ فيما نعلم ـ حركة من الحركات الاسلامية منذ بداية الاسلام حتى عصرنا الحاضر. صحيح انه لايمكن ان نتصور حركة ليس من بين اعضائها فرد مصاب بهذه العلة، فان ذلك امر بعيد جدا ان لم يكن مستحيلا عادة وخاصة بالنسبة لاولئك الذين لم يمض على ارتباطهم وانصهارهم فترة كافية. ولكن الخطورة تكمن في انتشار هذه الظاهرة في اوساط الاعضاء الذين تتألف منهم الكتلة والذين اسندت اليهم المسؤوليات في اجهزة الحركة. الامر الذي يجعل الحركة نفسها مصابة بهذه العلة الخطيرة، وعند ذلك يكون على المسؤولين في مثل هذه الحركة ان يسلكوا احد طريقين هما:

اما اصلاح البناء القائم واعادة بناء الحركة من جديد بشكل سليم، واما حل الحركة عند عجز القائمين عليها عن الطريق الاول فما من شك بان حل الحركة في مثل هذه الحالة خير للاسلام من ظهور مثل هذه الحركات على المسرح الاجتماعي والصعيد السياسي.

وانه لمن لطف الله تعالى بنا ان نبهنا الى اعراض هذه الظاهرة وآثارها لدى بعض اخواننا الدعاة ودلنا على علاجها ونحن مازلنا في هذه المرحلة ـ مرحلة التغيير والبناء ـ التي يسهل فيها علاج مثل هذه الحالات الى حد كبير والآن وقبل ان ندخل في دراسة هذه الظاهرة، يحسن بنا اولا ان نبدأ بتحديدها بشكل اجمالي عام ثم نشرع بدراسة اسبابها ثم بيان نتائجها وآثارها ثم كيفية علاجها وطرق الوقاية منها.

تحديد الظاهرة

حينما نطلق هذا التعبير (ازدواج الشخصية) لانريد به المعنى المصطلح لدى علماء النفس او علماء الاجتماع المحدثين وانما نقصد به معنى خاصا خلاصته ظهور بعض المفارقات اللااسلامية على شخصية انسان الدعوة مع علمه بها بالقدر الذى لا تخرجه فيه هذه المفارقات عن الاطار العام للشخصية الاسلامية.

تعليل الظاهرة

لاشك انه من التناقض البين في سلوك بعض افراد (الشخصية الاسلامية) ان تظهر عليهم اعراض هذه الظاهرة. فان الانسان الذي آمن بالعقيدة الاسلامية قاعدة لشخصيته، واتخذ النظام الاسلامي بجميع فروعه ومجالاته منهاجا لحياته، لاينتظر منه الا الاستقامة على الصراط المستقيم، غير انه مع ذلك كله فان حصول هذه الظاهرة على تصرفات واعمال هذا الانسان حقيقة واقعة.. بل هي من الوضوح بمكان ما. فما هو التعليل الصحيح لنشوء هذه الظاهرة في شخصية مثل هذا الانسان. ان الذي يتأمل في الاجابة على هذا السؤال، يتوصل الى ان منشأ هذه الظاهرة يعود الى وجود تيارين فكريين احدهما اسلامي والآخر غير اسلامي يساهمان في توجيه هذا الانسان وتقرير اعماله وعلاقاته هذا مع ان الشخصية الاسلامية المثلى لايصدر لها سلوك او اتجاه ما الاعن فكر اسلامي ولكن الشخصية الاسلامية في اطارها العام لاتخلو في الاعم الاغلب ـ من بعض الافكار التي يختلف مقدار تأثيرها على سلوك واتجاه ذلك الانسان. تبعا لمدى وضوح الاسلام وهذه الافكار في ذهنه وايمانه بها في نفسه وفي الوقت الذي ينعدم فيه تأثير الافكار غير الاسلامية على شخصية هذا الانسان في جميع المجالات والاحوال تكون شخصيته اسلامية نموذجية وهي ما اصطلح عليها بشخصية (المعصوم) وفي الوقت الذي تستفحل او تطغى هذه الافكار الاخرى على الاتجاه الاسلامي حيث تشكل تيارا مقابلا للتيار الاسلامي فان هذه الشخصية تنحدر عن تلك المنزلة المرموقة وتفقد صفتها الاسلامية الرفيعة ويصبح صاحبها انسانا مسلماً عاديا قد ينتهي به هذا الانحدار ـ اذا استمر ـ الى الخروج عن حظيرة الاسلام والعياذ بالله.

وهذا التعليل لنشوء هذه الظاهرة لاينافي ما قررناه اكثر من مرة في نشراتنا السابقة من ان سلوك الانسان تابع غالبا لما يحمل من مفاهيم وافكار، فان الافكار التي توجه سلوك الانسان وتؤثر عليه، هي خصوص الافكار التي يؤمن بها وتملك نفسه وشعوره، وليس مطلق الافكار التي تظهر على قلمه ولسانه.

اسباب الظاهرة

يمكننا ان نقسم الاسباب التي تنشأ عنها ظاهرة الازدواج في بعض افراد الشخصية الاسلامية في عصرنا الحاضر الى ثلاثة انواع من الاسباب:

١. الاسباب الفطرية ـ التكوينية:

وهي تلك الاسباب التي تنبعث من اعماق النفس الانسانية وما فيها من غرائز وشهوات وميول فالرغبة في الحصول على المال من غير وجهه وقبض اليد عن دفع الحقوق الشرعية الواجبة في الاموال من الخمس والزكاة وما شابهها، من اعراض الاصابة بهذا الداء.

انما هي مظاهر وآثار نمت جذورها الى الرغبة الفطرية الموجودة لدى الانسان في حبه للمال وحرصه عليه. قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿٢٠﴾ وَأُحْضِرَ‌تِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وكذلك ما يتعلق بالمفارقات الجنسية وغيرها.

غير انه مما يجب التنبيه اليه ان هذه الاسباب الفطرية ـ من غرائز وشهوات ـ لم يجعلها الله سبحانه في نفسية الانسان بحيث ترغمه على اشباعها بشكل معين، وانما ترك امر كيفية اشباعها وتلبية ندائها الى اختيار الانسان نفسه. فغريزة حب التملك لم تجعل في نفسية الانسان بحيث تجبره على ان يسلك لاشباعها هذا الطريق المباح او ذاك الطريق الحرام. وانما ترك امر تقرير احد الطريقين دون الآخر الى اختيار الانسان من غير جبر ولااكراه. قال تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَ‌هَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ اى ان الله سبحانه وتعالى خلق النفس البشرية بهذا التكوين الخاص حيث جعل فيها الاستعداد لفعل الخير الى جنب الاستعداد لفعل الشر، ثم ان الله سبحانه اوضح لهذا الانسان الطريق القويم الذي ينبغي له ان يسير عليه ليحصل على سعادتي الدنيا والآخرة. وحذره من طرق الغواية والفساد وما يجنيه بسببها من قلق وعثرات قال تعالى إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرً‌ا وَإِمَّا كَفُورً‌ا ﴿٣﴾ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴿١٠﴾ وعليه فان الانسان نفسه بمحض ارادته واختياره وتبعا لما يؤمن به من مفاهيم وافكار يقرر سلوك احد الطريقين قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾ وعن رسول الله ﷺ:

”ايهاالناس انما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر احب اليكم من نجد الخير“.

ومن ذلك كله يتضح لنا ان انسياق الانسان وراء غرائزه وشهواته من دون تحكيم الشرع فيها وتوجيهها وفق طاعة الله سبحانه من اهم الاسباب التي تنشأ عنها هذه الظاهرة.

٢. الاسباب الاجتماعية العامة:

وهي تلك الاسباب التي يحتويها الواقع الاجتماعي الراهن في اطاره العام والذي يلف الانسان المسلم ويؤثر في توجيهه منذ نعومة اظافره. ذلك ان جميع الافراد الذين ينخرطون في صفوف العاملين للاسلام ويضعون انفسهم في خط بناء الشخصية الاسلامية في عصرنا الراهن، انما يعيشون في اجواء هذا المجتمع المتهرئ المتفسخ بل ان بعضهم كانوا ممن جرفتهم هذه التيارات الاجتماعية الفاسدة فكانوا ضحيتها فترة من حياتهم لولا ان ادركتهم رحمة الله. والسبب في هذه الاوضاع الآسنة المتعفنة هو ان التربية الاجتماعية المعاصرة والتي رسم خطوطها اعداؤنا الكفار المستعمرون وما يتصل بها من اجواء وتيارات فكرية عارمة.. وطبيعة هذه العلاقات التي قررتها النظم الوضعية السائدة، قد احدثت انقلابا كافرا عاما يكاد يكون شاملا في حياة هذه الامة حتى اعادت حياتها حياة جاهلية ابعد ما تكون عن الحياة التي يريدها الاسلام.

ويمكننا ان نحدد اهم آثار هذه التربية الاجتماعية المعاصرة على شخصية الفرد المسلم بالامور التالية:

  1. قطع الصلة بين الانسان وبين الله قطعا نهائيا في المجال الواقعي (العملي) وابقاء هذه الصلة نظريا اى مجرد الاعتراف بوجود الله سبحانه وباليوم الآخر من دون ان يكون لهذا الاعتراف اثر في حياة (المسلم المعاصر) المثقف بالتربية المعاصرة

  2. ان هذه التربية المعاصرة جعلت الفرد المسلم يسير وفق مقاييس نفعية صرفة لاينظر من خلالها الى غير منافعه ومصالحه الشخصية الآنية بغض النظر عن اى اعتبار آخر.

  3. ان هذه التربية دفعت ابناء هذا الجيل في تيار شهواني لااخلاقي عارم بعد ان مهدت له القوانين والاجواء وهيأت له الوسائل والاسباب حتى اصبحت الامة اليوم تعيش في مستنقع اخلاقي عفن.

والانسان الذي عاش هذا النوع من التربية والتوجيه والذي أثّرت في سلوكه واتجاهه هذه الاجواء المتفسخة فترة من حياته، لايمكن ان ينتقل من هذا المستوى الوضيع الى المستوى الاسلامي الرفيع دفعة واحدة بمجرد اتضاح صلاحية الاسلام له وافضليته على سائر المبادئ والنظم بل ان الكثير من افكار ومفاهيم تلك التربية السابقةـ والتي مازالت سائدة ـ سيبقى يعمل عمله في شخصية هذا الانسان بصورة خفية غير واعية. وربما تؤدى بعض هذه الاعمال كمشاهدة الافلام التي لايقرها الاسلام ـ تبريرا وشرعا ـ كأن يكون بحجة دراسة المجتمع مثلا مع ان الدوافع الحقيقية لا تعدو تلك الرغبة التي تخلقها التربية المعاصرة. ولافرق في ذلك سواء اكان هذا الشخص ممن اعتاد مشاهدة مثل هذه الافلام في حياته المظلمة السابقة او لم يكن كذلك ولكن حدثت له مثل هذه الرغبة بسبب تأثير الاجواء الفكرية المسممة التي تحيط به من كل جانب ومكان.

٣. الاسباب الفردية الخاصه:

وهي تلك الاسباب التي تتعلق بتكوين الداعية اي من ناحية تكوينه الاسلامي والدعوتي. ويمكننا ان نلخص هذه الاسباب بالامور التالية:

  1. عدم اخذ الفكرة الاسلامية بالطريقة الاسلامية تلك الطريقةالعقلية التي تجسد الفكرة واقعا يعيشه الانسان ويتمثله امام ناظريه ويلمسه بيديه. فالايمان بالله سبحانه الذي يغرسه القرآن المجيد ـ بطريقته الخاصةـ في نفسية الانسان المؤمن يجعله يرى وجود الله تعالى متمثلا في كل ما يحس ويرى في هذا الوجود ويستشعر حاجته وحاجة هذا الوجود واستمراره في كل شأن من شؤونه ـ ولذلك فانه ـ تقديرا لحق الربوبية عليه، يسلك منهج الطاعة والامتثال لله والسير وفق ما يحب ويرضى، والانتهاء عما يكره وينهى وليس له غاية في كل ذلك غير الفوز برضاه. ان هذا النوع من الايمان يولد في نفس صاحبه حرارة تدفعه الى العمل الصادق المتواصل في صراط مرضاة الله تعالى ونصرة الاسلام، كما تتحول تلك الحرارة الى نار تحرق ما حولها من فساد وانحراف عن الاسلام. وان استمرار الانسان المسلم الذي تلقى الايمان بهذه الطريقة الخاصة على هذا النحو من الفهم والوعي والاتصال بالله سبحانه، لهو وحده كفيل بصيانته من الهبوط الى مهاوي المعصية والانحراف والارتفاع به في مراتب الاولياء الافذاذ، هذا في حين اننا نلاحظ ان اكثر ـ ان لم يكن جميع ـ الذين تظهر عليهم علامات الاصابة بداء (الازدواج) لم يأخذوا الاسلام بهذه الطريقة الاسلامية الفذة، وان كانوا قادرين على ان يسطروا الادله العقلية على وجود الله تعالى، الا ان ذلك كله مجرد افكار نظرية مجردة لم تأخذ دورها من التفاعل في اذهانهم والتمثيل في نفسياتهم ولذلك بقيت افكارا مجردة عائمة على سطح ذهنياتهم، ولذلك لم تستطع التأثير على سلوكهم واتجاهم في مقابل شهواتهم ورغباتهم او الاجواء الفكرية المحيطة بهم كما هو المفروض.

  2. عدم وضوح مهمة الداعية لنفسه: لاشك في ان الدعاة عموما يعلمون بان مهمتهم التي اوضحتها لهم الدعوة هي تغيير واقع الامة من هذه الحالة المتردية المتفسخة الى الحالة الاسلامية الطاهرة المشرقة، ومع علمهم جميعا بهذه الحقيقة وقدرتهم على التحدث او الخطابة فيها ولكن مع ذلك فان قسما منهم وخاصة اولئك الدين اصيبوا بهذا الداء لم يدركوا هذه القضية بشكل واضح، فلم يتصوروا معنى عملية التغيير هذه وما هي حدودها وما هي كيفية تحقيقها والمقومات الرئيسية التي تقوم عليها، ومنشأ ذلك هو اهتمام الداعية بحفظ الافكار والمفاهيم التي تبينها الدعوة في نشراتها، دون ان يحاول هضمها واستيعابها وتصور معانيها البعيدة، بل غاية ما يهمه ان يحصل على فكرة جديدة يستطيع ان يتحدث بها امام الناس ويدعوهم بها الى الاسلام او يدحض بها فكرة غير اسلامية يروجها دعاة الاحزاب الكافرة وهذه الحالةـ اى حفظ الافكار دون تدبر معانيها، من اخطر مايصاب به الدعاة لانها ستؤدي الى شل الحركة الذهنية لهم، وبالتالي الى اصابة الحركة ذاتها بالجمود الفكري، وقد اصيبت احدى الحركات الاسلامية المعاصرة بهذه الظاهرة حتى اصبحت اشبه شيء بالاكاديمية الفكرية منها بحركة اسلامية انقلابية، وقد سرت هذه الظاهرة الى غيرها من الافراد والجماعات بطريق العدوى هذا مع ان المفروض في الحركة الاسلامية الواعية ان تربي الجانب العقلي من ذهنيات دعاتها التربية الخاصة التي تشكل جانبا مهما من تربية الشخصية الاسلامية، وهذه التربية الخاصة تقوم على طريقة التدبر والتأمل والتفكير، وعدم تقبل الافكار قبل الاقتناع والتسليم، وعدم تعويدهم على اجترار الافكار والمفاهيم من غير هضم ولا تمثيل، هذا من ناحية التفكير، واما من ناحية معنى عملية التغييرفان مهمة الداعية ليست منحصرة في نقل الافكار ودحض الشبهات الباطلة ومقارعة الاحزاب الكافرة فحسب، بل ان مهمته الحقيقية تغيير هذا الواقع الاجتماعي برمته باوسع ما تعنيه كلمة (تغيير) اى احداث انقلاب اجتماعي عام في الافكار والمفاهيم، والنظم و القوانين، والعادات والاعراف والتقاليد، وسائر العلاقات والمثل والمقاييس، وهذا يعني ان تخطط الدعوة لعملية التغيير فتدفع الامة او تباشر تحقيق هذه العملية في جميع مراحلها تبعا لما تسمح به كل مرحلة والظروف والملابسات القائمة،وهذا يعني ان تكون اجهزة الدعوة كلها بمستوى الاهداف التي تسعى نحو ايصال الامة اليها، وبكلمة اخرى ان هذه العملية توجب ان يبدأ الدعاة بتغيير انفسهم اولا في الوقت الذي يعملون فيه بتغيير هذا المجتمع المتخلف الى المجتمع الاسلامي المنشود، والا فان الحركة التي لم تتمكن من ان تربي دعاتها وترتفع بمستوياتهم الروحية والفكرية والخلقية الى مستوى اعلى من المستوى السائد لدى الامة بالشكل الذي يمكنهم من قيادة الامة، فان هذه الدعوة تعمل عبثا وتحاول مستحيلا ولما كانت مهمة الداعية اوسع من نقل فكرة ودحض شبهة وانما هي عملية بناء مجتمع اسلامي على انقاض مجتمع جاهلي فان مهمته هذه تفرض عليه ان يلتزم بما يدعو اليه ويسعى نحو تحقيقه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ‌ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾ سواء اكان ذلك فيما يتعلق بافكاره ام باخلاقه ام بسائر معاملاته وعلاقاته فان التزام الداعية بكل واحد من هذه الامور يعتبر جزءً من عملية التغيير الكلي ومساهمة عملية في بناء المجتمع الاسلامي واسلوبا عمليا لدعوة الآخرين الى العمل بالاسلام.

ولاشك ان الاسلوب العملي اركز في النفوس وادعى الى التأثير بالآخرين من الاسلوب اللفظي.

  1. عدم وضوح حقيقة العمل للاسلام من حيث الدوافع والاهداف: ان الداعية الى الاسلام يختلف عن غيره من العاملين في حقل التغيير الاجتماعي من ارباب الحركات غير الاسلامية من حيث الدوافع والنظرة الى عملهم الاجتماعي الذي يقومون به. اما من حيث الدوافع التي دفعت هؤلاء فانها لاتعدوا ان تكون اما وسيلة للوصول الى المناصب والمراتب، او مجالا للتنفيس عن طاقة مخزونة، او اندفعا وراء الرغبة في الثأر والانتقام من الحكام الظالمين، او تنفيذا لمخطط استعمارى لئيم او رد فعل للاحساس بهذا الواقع السيء على احسن التقادير. واما الداعية الى الاسلام ـ فان المفروض فيه ـ انه لم يندفع الى التضحية في سبيل الله والعمل من اجل بناء المجتمع الاسلامي الا امتثالا للتكليف الشرعي القاضي بالعمل من اجل تحكيم رسالة الله في الارض واعلاء راية الاسلام، وازالة كل معالم الكفر والظلم والفساد في الارض.

    واما من ناحية النظرة الى ذات العمل الاجتماعي فان نظرة غير الاسلاميين لا تعدو ان تكون هذه التضحية من اجل بناء مجد شخصي يتلذذ به ذلك العامل في حياته، او يأمل ان تردده الاجيال من بعده، واما الداعية الاسلامي فان نظرته الى مهمته التغييرية الكبرى والتضحية لتحقيقها بالغالي والنفيس ليست هي الاعبادة من اقدس العبادات التي يقوم بها لله تعالى وطاعة من ارفع الطاعات التي يتقرب بها الى الله سبحانه، وذلك فانه سيكون على صلة وثيقة دائمة بخالقه ومصدر وجوده ونصرته، ولاشك ان هذه الصلة بين الداعية وبين الله سبحانه، تلك الصلة التي لايعرف لذتها واثرها في النفس وما تفيضه من الراحة والثقة والقوة الا من عاشها واستلهم اسرارها، نقول ان هذه الصلة المباركة المقدسة ـ متى ما اخذت مكانتها من نفسية الداعية وتمكنت، ستكون اقوى عامل لارتفاع شخصيته في مراتب الشخصية الاسلامية والالتزام بمقتضى رسالته الاسلامية المقدسة.

  2. عدم تقدير الداعية لمركزه القيادى كما ينبغي: ان جهل الداعية بقيمة دوره التاريخي العظيم، وعدم تقديره لمركزه المرموق الذي يحتله في المعركة الفاصلة بين الاسلام والكفر، قد يساعد على خروجه عن الخط الاسلامي القويم، سواء اكان في خطئه التقدير في جانب الافراط ام في جانب التفريط فانه اذا اعطى لنفسه اهمية وقدرة على بلوغ الاهداف اكثر مما ينبغي كان ذلك مدعاة لزرع الشعور بالطيش والتهور والغرور، واذا بخسها من اهميتها فان ذلك سيورثه الشعور بالضعف والعجز وعدم تقدير مسؤولية الكلمة التي يتكلم بها، او التصرف الذي يقوم به امام الآخرين، وهذا ما يجعله يتساهل في بعض افعاله وتصرفاته، وربما في بعض واجباته، لانه لم يدرك مدى تاثيرها في نفوس الآخرين ولم يقدر دورها في عملية بناء المجتمع الاسلامي العظيم نظرا لجهله بمركزه ودوره التاريخي المجيد.

ان العمل الاسلامي اليوم وحتى تقوم الساعة هو امتداد لدعوة الانبياء والمرسلين واستمرار لجهود قائد الانسانية العظيم ﷺ وان الانخراط في صفوف الدعاة العاملين في بناء المجتمع الاسلامي الكريم لايكون الا لمن رشحه الله تعالى لهذا الشرف العظيم فان منزلة الداعية الذي يقدر مكانته حق تقديرها ويهب نفسه بكل امكانياتها لخدمة رسالته التي آمن بها، وهي منزلة الاولياء المقربين التي تأتي بعد مرتبة الانبياء والاوصياء المطهرين عليهم سلام الله اجمعين، وهل هناك من شرف يناله انسان في هذا الوجود يمكن ان يصل الى شرف العمل للاسلام والسير في موكب الرسل الكرام وتحت راية الدعاة المجاهدين. حقا ان قيمة ادراك هذا الشرف الرفيع، وعلو هذه المنزلة المرموقة، تجعل الداعية يطمح الى التسامي في مراتب الشخصية الاسلامية والتضحية في سبيل الاهداف المقدسة بكل غال ونفيس.

هذا من جهة ومن جهة اخرى فان الانسان الداعية الذي يرشح نفسه لقيادة الامة تحت الراية الاسلامية المقدسة انما وضع نفسه في منصب خطير له الاثر الكبير ـ بعد تقدير رب العالمين ـ في تقرير مصير الامة ووجهة التاريخ. ولذلك فان الانسان الداعية سيكون لاقواله وتصرفاته حساب خاص عند الله تعالى وعند الامة ـ يختلف عن حساب غيره من الناس ـ ومثله في ذلك كمثل اي انسان اعطاه الله سبحانه منزلة خاصة او مركزا دينيا معينا كالعلماء ونساء النبي ﷺ اللواتي نلن شرف الزوجية مع الرسول الاعظم ﷺ والقرب من شخصيته المباركة، قال تعالى يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرً‌ا ﴿٣٠﴾ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّـهِ وَرَ‌سُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَ‌هَا مَرَّ‌تَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِ‌زْقًا كَرِ‌يمًا ﴿٣١﴾ وانما كان ذلك لأن الانسان الذي تكون له مثل هذه المكانة والمنزلة وخصوصا الداعية ستنظر الامة الى افعاله وتصرفاته نظرة التبعية والتقليد والمحاكاة باعتباره مصدرا من مصادر تعريف الامة بهذه الرسالة وستضعه الامة موضع الحجة التي تحتج بها عند الله تعالى وامام الناس بكل ما يصدر عن هذا الشخص من اعمال وافعال حسنة كانت ام سيئة، فان كان العمل الذي يقوم به الداعية ـ وهو الذي رفعه الله تعالى الى هذه المنزلة الرفيعة واعطته الامة هذه المكانة المرموقة ـ عملا صالحا وفق تعاليم الاسلام، فان ثوابه سيكون مضاعفا بمقدار ما استطاع ان يؤثر بهذا العمل الخاص في غيره من الناس ويقربهم الى فعل مثل هذه الافعال الصالحة والعكس بالعكس. والذي يشهد لقولنا هذا ما روي عن رسول الله ﷺ انه قال:

”من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة“.

ومضافا الى ذلك كله فان طبيعة الناس انهم لاينقادون لمن لم يطمئنوا الى صدقه فيما يدعو اليه، بل انهم يفترضون فيه التمسك بما هو اكثر من ذلك، ولذلك فان الانسان الذي يراه الناس متحمسا في الدعوة الى الاسلام والعمل بتعاليمه ثم يلمسون منه الخروج والانحراف عن الاسلام، فهو انسان لم يبلغ في الواقع رتبة الداعية القائد بعد، ولذلك فانه لن يستطع ان يقود الامة وراءه نحو تحقيق اهدافه قيادة حقة، ما دام على هذه الوضعية المتناقضة السقيمة، ولكنه متى استطاع ان يعالج نفسه ويطهرها تطهيرا خالصا لله سبحانه، ويلتزم بجميع افعاله بما يريد الله تعالى في السر والعلن فانه قد يستطيع قيادة الامة بعد ان تطمئن الى اخلاصه وصدقه، ولزيادة الايضاح راجع نشرتنا (نجاحنا في العمل يحتاج الى توثيق الصلة بين الداعية والامة وكسب ثقتها).

نتائج الظاهرة وآثارها

بعد ان عرفنا اسباب الظاهرة..الطبيعية والاجتماعية والفردية، وكيفية صدور هذه الظاهرة عنها والتحليل الصحيح لما ينبغي ان يكون موقف الداعية الاسلامي منها، يحسن بنا ان نعرض الآن اهم نتائجها وآثارها على شخصية الداعية وعلى مصير الدعوة ومستقبل الاسلام بايجاز، وهي:

  1. الجفاف الروحي الناشيء عن قلة او ضعف الاتصال بالله سبحانه وتعالى بسبب عدم اخذ العقيدة الاسلامية بالطريقة الاسلامية

  2. التناقض المشين بين الفكر والسلوك بسبب عدم ارتكاز السلوك على العقيدة الاسلامية كما ينبغي ان يكون. ولقوة الاجواء والتيارات غير الاسلامية وتأثيرها في توجيه سلوك ذلك الانسان.

  3. حصول حالة الفتور والارتخاء في النشاط الاسلامي لديه. في حالة توقف او فتور الحركات او الحملات الفكرية المعادية للاسلام مع ان الواقع الاجتماعي يعج بالمعاصي والمنكرات فلا تحدث فيه احساسا بالثورة على الفساد، فكأن المهمة مهمة حرب وصراع مع الحكومات والاحزاب لاغير.

  4. ان من اخطار الاصابة بهذا الداء كون الشخص المصاب مستعدا للتخلي عن مسؤولية الدعوة او الرسالة نفسها في اية هزة سياسية او عائلية قوية. وذلك بسبب عدم اخذ العقيدة بالطريقة الاسلامية من ناحية وعدم تحمل العمل الاسلامي كواجب مقدس يتقرب به الى الله سبحانه.

  5. ولنفس السبب الآنف الذكر قد يكون الشخص المصاب في بعض الحالات مستعدا للمساومة مع الاعداء على حساب العقيدة.

  6. ان اخذ النظم والافكار الاسلامية بسبب الاعجاب بها وبشكل مجرد عن الايمان بها قد يؤدي ببعض الاشخاص الى الاصابة بالغرور بمعنى شعورهم بعلو قدرهم وجلالة اعمالهم وعلو منزلتهم عند الله تعالى بسبب ما يقومون به من نشر للاسلام ودحض لشبهات اعدائه الامر الذي يزهدهم في كثير من الطاعات الاخرى. وربما جر ذلك الى ترك بعض الواجبات او اقتراف بعض المحرمات والعياذ بالله سبحانه.

العلاج

ان العلاج الرئيسي لظاهرة الازدواج في شخصية بعض الدعاة يتم بتحقيق امرين ضروريين هما:

١. اعادة النظر في طريقة اخذ العقيدة الاسلامية:

فقد تكون افكار العقيدة الاسلامية موجودة عند الانسان ولكنها لم تتضح لديه بالشكل الذي يجعلها تثمر الايمان، وذلك بسبب الخطأ في طريقة اخذها وقد اوضحنا فيما سبق من البحث الطريقة الصحيحة التي ينبغي ان تؤخذ بها العقيدة الاسلامية وليس هناك من طريقة افضل وايسر واوصل الى الايمان من التدبر بآيات القرآن المجيد، والتخرج من مدرسة القرآن التي خرجت ارقى نماذج الشخصية الاسلامية.

٢. دوام الاتصال بالله تعالى وذكره في كل حال:

فان الانسان ليستطيع ان يذكر الله عزوجل بشتى الطرق من الذكر والاتصال كالدعاء والتأمل في ملكوته والتدبر في آياته والتفقه في تعاليمه والدعوة لتطبيق شريعته والتمسك بحلاله والتجنب لحرامه، والمواظبة على الفرائض والنوافل من الصلاة والحرص على اداء الخمس والزكاة وسائر الصدقات الى غير ذلك من مجالات الذكر والاتصال حين يكون الداعية العابد على اتصال دائم بالله عزوجل ويتعبد وحينئذ ليستطيع ان يقول كما قال احد الذاكرين:

الله يعلم اني لست اذكره
وكيف اذكره اذ لست انساه

وسيرى ان لهذا الذكر المتواصل ـ بتوفيق الله ـ الاثر الكبير فينقله الى اجواء ايمانية عالية والى التسامي في مراتب الشخصية الاسلامية الكريمة. ومضافا الى هذين الامرين ننبه اخواننا الدعاة الميامين الى بعض الامور المتعلقة بعلاج هذه الظاهرة والوقاية من حصولها.

  1. ان دعوتنا ليست اكاديمية فكرية غايتها ان تؤسس مدرسة من الفكر او الفلسفة او التشريع في مقابل الافكار والفلسفات والتشريعات السائدة، كما انها ليست جمعية اصلاحية تعني باصلاح بعض الجوانب الفاسدة من المجتمع وانما هي دعوة اسلامية انقلابية بكل ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث من سعة وشمول.

    فهي دعوة بالسلوك والقلم واللسان. وهي اسلامية بكل مايدخل ضمن نطاق الاسلام ويتصل به في عملية بناء المجتمع الاسلامي وصياغة الشخصية الاسلامية.

    وهي انقلابية فلا تؤمن باصلاح جانب من جوانب المجتمع بمعزل عن بقية الجوانب الاخرى ولذلك فهي ترى ان الانصراف الى احد الجوانب ـ روحيا كان ام فكريا ام عمليا ـ دون الاهتمام ببقية الجوانب الاخرى ـ وخاصة فيما يتعلق ببناء الشخصية الاسلامية ـ امر لا يلتئم والاتجاه الانقلابي بحال من الاحوال.

  2. ان الدعوة تقرر ما اشارت اليه اكثر من مرة من ان الاكتفاء بمطالعة النشرات والابحاث التي تصدرها الدعوة لايجدي في بناء الشخصية الاسلامية لدى الدعاة، اذ ان غاية ما تقوم به هذه النشرات هو رسم الخطوط العامة وتقرير الاتجاه الصحيح الذي ينبغي ان يسلكه الدعاة، ورسم الهيكل العام لبناء الدعوة وشخصية الدعاة، اما عملية البناء الحقيقية فان الذي ينبغي ان يمارسها ويقوم بها هم الدعاة انفسهم لاكمال بناء شخصياتهم وتنمية دعوتهم.

  3. الاقتداء بارقى النماذج العالية للشخصية الاسلامية في مختلف الحقول والمجالات الروحية والفكرية والعملية وعلى رأسها شخصية الرسول الاعظم ﷺ وآله الاطهار الميامين.

  4. ضرورة النظر الى كل فعل يريد الداعية ان يقوم به من خلال المنظار الشرعي ـ الحلال والحرام ـ سواء اكان هذا العمل شخصيا او عائليا او اجتماعيا قبل المبادرة الى القيام به مهما كان صغيرا.

  5. تذكر اهوال القيامة وتصورالموقف الرهيب الفاصل الذي سيقفه العبد الذليل بين يدي المولى الجليل او استعراض مشاهده المؤلمة والمفرحة كما يصورها القرآن المجيد.

  6. تقدير كل من الدنيا والآخره حق قدرها واعطاء كل واحدة منهما ما تستحقه من العناية والاهتمام رَ‌بَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَ‌ةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‌ ﴿٢٠١﴾

  7. ضرورة اعمال المراقبة والمحاسبة المستمرة اى مراقبة كل داعية لنفسه ومحاسبتها على كل ما قام به من اعمال والالتفات دائما الى المراقبة الالهية لكل ما يصدر عنا في عالمي الغيب والشهادة، وتسجيل المفارقات ـ ان وجدت لاسمح الله ـ والمبادرة الى التوبة والعزم على الاقلاع عنها والتوسل بالله تعالى للتوفيق الى صراط الطاعة و الفوز بمرضاته فانه لايخيب دعوة من رجاه وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَ‌ى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَ‌سُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَ‌دُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٠٥﴾

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.